الله
أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...
العربية
المؤلف | محمد بن عبد الله الهداف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
وإن من أعظم الطرق المفضية إلى انتشار الفوضى واضطراب الأمور بثَّ الشائعات المختلفة والافتراءات الأثيمة التي عَرِيت تمامًا عن أي وجهٍ من وجوه الحق، خاصة في أوقات الأزمات والفتن، حينما تكون الأمة في أمَسّ الحاجة إلى توحيد الكلمة واتحاد الصف وضبط الأمن. إن تاريخ الإشاعة ..
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله إذا حرّم أمرًا حرّم الوسائل الموصلة إليه والموقعة فيه، فلما منع الشرك سدَّ الذرائع الموصلة إليه، فمنع من اتخاذ القبور مساجد أو البناء عليها أو إسراجها، ولما حَرّم الزنا منع من الوقوع فيما يثير شهوة الإنسان المحرمة من النظر المحرّم أو السماع المحرّم أو الخلوة بالأجنبية أو مسّها، ولما حرّم الربا حرّم الصور المفضية إليه كبيع العِينة وغيره.
وإن من أعظم الطرق المفضية إلى انتشار الفوضى واضطراب الأمور بثَّ الشائعات المختلفة والافتراءات الأثيمة التي عَرِيت تمامًا عن أي وجهٍ من وجوه الحق، خاصة في أوقات الأزمات والفتن، حينما تكون الأمة في أمَسّ الحاجة إلى توحيد الكلمة واتحاد الصف وضبط الأمن.
عباد الله: إن تاريخ الإشاعة قديم قِدَم هذا الإنسان، وقد ذُكر في كتاب الله -عز وجل- نماذج من ذلك منذ فجر التاريخ، وبقراءة في تاريخ الأنبياء -عليهم السلام- وقصصهم نجد أنّ كلاًّ منهم قد أُثير حوله الكثير من الشائعات من قبل قومه، ثم يبثّونها ويتوارثونها أحيانًا.
ولا شك أن تلك الشائعات كان لها الأثر في جعل بعض المعوّقات في طريق دعوة أولئك الأنبياء والرسل، وكذلك كانت عائقًا في طريق دعوة ورثة الأنبياء من العلماء، فكم نسمع من اتهام العلماء بالعمالة، أو عدم فقه الواقع، أو نقص التصور لما يحدث في واقع الأمة، أو أنهم في معزل أو أبراجٍ عاجية لا تجعلهم يدركون الأمور على حقيقتها.
وانظروا إلى مدى تأثيرها في نفوس الناس خصوصًا الشباب الذين هم عماد الأمة، فكم من شاب وقع في التكفير بسبب انعزاله عن العلماء، أو في البدع والحزبية نتيجة ما يسمع من التهوين من شأن أو ما يشاع حولهم.
إن الإشاعة مرض خطير وعدو لدود لا ينجو منه إلا من هو عاقل رزين لا يتأثر بكل ما يسمع.
ولعلي أسوق لكم قصة لصحابي جليل كادت الإشاعة تصده عن الهداية للإسلام لولا أنه رجل عاقل يعرف كيف يزن الأمور بميزان العدل والتثبت، ألا وهو الطفيل بن عمرو الدوسي -رضي الله عنه-، حيث كان سيدًا مطاعًا في قومه في أرض دوس وشاعرًا، ذاع صيته بين العرب كشاعر نابغة، فلما أراد زيارة مكة خشي كفار قريش أن يتأثر بدعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاستقبلوه وأشاعوا بأن محمدًا ساحر وكاهن وشاعر، وأنه فرّق بين الوالد وولده والمرأة وزوجها، وطلبوا منه إذا طاف بالبيت أن يضع في أذنه القطن حتى لا يسمع القرآن، ففعل في أول الأمر، ثم وقف مع نفسه وقفة الرجل العاقل المنصف، فقال: إني رجل لبيب شاعر، وأعرف الفرق بين الكلام الحسن والكلام القبيح، فلماذا لا أستمع إلى قوله؟!
فجاء البيت ليطوف، وسمع رسول الله وهو يقرأ القرآن، فأعجبه ذلك، ثم تبع النبي إلى منزله، وقال: يا محمد: إن قومك حدثوني بكذا وكذا، فما برحوا يخوفونني حتى وضعت في أذنيّ القطن، ولكني سمعت قولك، فاعرض علي أمرك. فعرض النبي الإسلام وقرأ عليه القرآن، فأسلم الطفيل وشهد شهادة الحق. ثم قال: يا رسول الله: إني امرؤٌ مطاع في قومي، وإني أريد أن أعرض عليهم أمرك، فادع الله أن يجعل لي آية تكون عونًا لي في دعوتهم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم اجعل له آية".
فخرج الطفيل إلى قومه، فلما قرب منهم ظهرت الآية وهي نور بين عينيه، فقال: اللهم اجعلها في غير وجهي حتى لا يظن قومي أنها عقوبة بسبب تركي دينهم، فجعلها الله في رأس سوطه. فجعل الناس ينظرون إلى النور في رأس سوطه كأنه قنديل معلق، وكان يضيء في الليلة المظلمة، فسموه ذا النور. وما كاد الطفيل يصل إلى داره في أرض دَوْس حتى أتى أباه فقال له: إليك عني، قال: ولِمَ يا بنيّ؟! قال: يا بُنيّ ديني دينك، قال: فاذهب فاغتسلْ وطهّر ثيابك، ثم جاء فعرض عليه الإسلام فأسلم. ثم أتت زوجته فقال لها: إليكِ عني لستُ منكِ ولستِ مني، قالت: ولِمَ بأبي أنت؟! قال: فرّق بيني وبينكِ الإسلام، إني أسلمتُ وتابعتُ دين محمد -صلى الله عليه وسلم-، قالت: ديني دينك، فذهبت فاغتسلت ثم جاءَت، فعرض عليها الإسلام فأسلمت.
وانتقل إلى عشيرته فلم يسلم أحد منهم سوى أبي هريرة -رضي الله عنه-، وخذلوه حتى نفد صبره معهم، فركب راحلته وعاد إلى الرسول يشكو إليه وقال: يا رسول الله: إنه قد غلب على دَوْس الزنا والربا، فادعُ الله أن يُهلِك دَوْسًا. وكانت المفاجأة التي أذهلت الطفيل حين رفع الرسول كفيه إلى السماء وقال: "اللهم اهْدِ دَوْسًا وائت بهم مسلمين"، ثم قال للطفيل: "ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم". فنهض وعاد إلى قومه يدعوهم بأناة ورفق، فجاؤوا بعد فتح خيبر مسلمين.
اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطلَ باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تلبسه علينا فنضل، يا ذا الجلال والإكرام.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
عباد الله: إن من يسلك منهج القرآن والسنة عند تلقي الأخبار والشائعات فسوف يسلم من الإثم والوقوع في التهم الباطلة، ويجد ثواب ذلك أيضًا في الدنيا والآخرة.
انظروا إلى الطفيل كيف هداه الله إلى الإسلام بسبب ذلك، بل هدى الله قومه أيضًا فجاؤوا إلى المدينة مهاجرين، ونالوا شرف الهجرة والصحبة.
فاتقوا الله -عباد الله-، وتذكروا قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع".