القهار
كلمة (القهّار) في اللغة صيغة مبالغة من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن علي النهابي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
لقد فشلت كل هذه الوسائل، وأفلست كل نُظم الأرض، فلم تستطع توفير الأمن لبلدانها وشعوبها، وأدل دليل على ذلك واقع الدول الراقية التي تملك عناصر القوة، وما تعانيه من الفوضى، وانتشار الخوف في ربوعها، وتسلط المجرمين على شعوبها، ثم مَن يسافر إليهم يشهد لذلك، فهو لا ..
الحمد لله أحكم الحاكمين، وأسرع الحاسبين، شرع الحدود، وأقام العدل بين عباده؛ لتحصل لهم سعادة الدنيا والدين، أحمده -سبحانه- حمد العارفين، وأشكره وقد تأذن بالزيادة للشاكرين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين، وقائد الغُرّ المحجلين، صلى الله عليه وآله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى- حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واشكروه على ما أنعم به عليكم من هذا الدين القويم، والشرع الحكيم، واعلموا أنكم في ظل هذا الشرع تعيشون حياة كريمة آمنة، وسعادة حياتية هانئة؛ تقوم على العدل والإنصاف، تستمد نُظمها ومنهجها من كتاب حكيم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، ومن وحي قويم، أنزل على نبي كريم، لا ينطق عن الهوى، إنْ هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى، فصلى الله وسلم وبارك عليه وآله وسلم، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة.
عباد الله: إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وشرع شرائع فلا تهملوها، وحدَّ حدوداً فلا تنتهكوها وتعتدوها، ألا وإنكم إذا قمتم بما فرض الله عليكم وأتيتم بما شرعه الله لكم، ووقفتم عند حدوده حصلتم على سعادة الدارين، ونلْتم جميع الخيرين، وكنتم محل نظر الله ورضوانه، وزادكم من فضله ونواله.
وإن أنتم انحرفتم عن شرعه، وضيعتم أوامره ونواهيه، وانتهكتم حدوده، وتجرأتم على معاصيه شقيتم في دنياكم، وخسرتم آخرتكم، وأصابكم داء الأمم، وأحلَّ الله عليكم سخطه وعقابه، وأذاقكم من بأسه وعذابه.
ألا وإن المجتمعات البشرية تنشد الأمن وطيب الحياة، وتتسابق إلى تحقيقه السلطات الدولية بكل إمكانياتها الفكرية والمادية، تقوم المؤتمرات، وتتجاذب الأفكار والآراء، وتسن القوانين، وتوضع التوصيات حول مطلب الأمن في البلدان، وتوفير الطمأنينة للشعوب.
والأمن -عباد الله- مطلبٌ نبيل، وهدف هام عظيم، فهو ضد الخوف، هو مسكون القلب، وذهاب الروع والرعب، والبلد الآمن والأمين هو الذي اطمأن به أهله.
ثم إن الأمن مقدم على طلب الغذاء؛ لأن الخائف لا يتلذذ بالغذاء، ولا يهنأ بالنوم، ولا يطمئن في مكان؛ ولهذا لما دعا الخليل -عليه السلام- لمكة المشرفة قال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ...) [البقرة:126]، فدعا بتوفير الأمن قبل الرزق، فالأمن مطلب ضروري لكل البشر.
لقد عجزت حيل البشر عن تحقيقه بوسائلها المختلفة، فجزت عن تحقيقه بما توفر لها من الأجهزة الدقيقة، والأسلحة المتظورة، والتكنلوجيا الحديثة، ثم يتوفر الأممن بقوة الحصون والأبواب والحراس.
لقد فشلت كل هذه الوسائل، وأفلست كل نُظم الأرض، فلم تستطع توفير الأمن لبلدانها وشعوبها، وأدل دليل على ذلك واقع الدول الراقية التي تملك عناصر القوة، وما تعانيه من الفوضى، وانتشار الخوف في ربوعها، وتسلط المجرمين على شعوبها، ثم مَن يسافر إليهم يشهد لذلك، فهو لا يأمن على نفسه، ولا على ماله، حتى إنه لا يستطيع أن يحمل شيئاً من النقود الضرورية إلا وهو خائف أشد الخوف، ومتوقع للغدر في أيِّ لحظة.
عباد الله: إننا إذا علمنا ذلك، وأن الأمن لا يتوفر بأسباب مادية، ولا بقوانين بشرية، علمنا يقيناً أن تحقيق الأمن يتوفر بما شرعه الله -تعالى- من أحكام، وبما حدَّه من حدود.
ولقد بيَّن الله -سبحانه- أنَّ تحقيق الأمن، والتمكين في الأرض، والاستقرار، والأمن من المخاوف، يكمن في اتِّباع منهج الله وإقامة حدوده، قال -سبحانه-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور:55]. تلكم المقومات لتحقيق الأمن في البلاد والعباد.
لقد كانت -ولله الحمد- هذه البلاد ولا تزال مضرب المثل في العالم في توفر الأمن، وانخفاض نسبة الجرائم الأمنية، وشهد لها القاصي والداني، وكتب عنها الرحالة المستشرقون شهادات الإعجاب والتقدير؛ مما يدل على: أن هذا الدين هو الذي يوفر الأمن.
وأهم مقومات الأمن في هذا الدين: الإيمان بالله، ومراقبته، والشعور بأنه مطلعٌ على عبده في السر والعلن، وأنه يجازي عباده على تصرفاتهم، فكلما همَّ العبد بمواقعة جريمة تذكر ذلك، فانكفَّ عنها؛ خوفاً من الله تعالى.
ثم إن المجرم الذي تنتابه نزعات الشر ولم يوقفه خوفه من الله يتذكر جزاءه في الدنيا، وعقوبته الرادعة، وخزيه، وعاره في الدنيا قبل الآخرة.
عباد الله: إن المجتمع لا يمكن أن يعصم من الأخطاء، وفي مجتمعنا الإسلامي وفي بلادنا هنا نزعات شر، ونفوس ضعيفة، وأيدٍ أثيمة، تمالكت قلوبها حب الدنيا وإيثارها، وخلت قلوبها من الخوف من الله، وغرست أنيابها في المجتمعات الطاهرة، فأخذت تتنكر لتعاليم هذا الدين، وتتجرأ على حدود الله من دون خوف أو وازع، فتبنت فكرة أعمال اللصوصية والسرقة، واتخذت وسائل وآلات للحصول على مآربها، فتسلقت البيوت، وفتحت الأبواب، وسطت على المنازل، وأخذت أو خرَّبت ما فيها؛ بل إن منازل مقفلة وأسوار محصنة حصل عليها الاعتداء، وأصيبت بهذا الوباء.
إن من الطبيعي أن يحصل عند البعض من الناس الخوف من هذه التصرفات، وأن يتساءلوا عن الأسباب، وعن الوقايات والإجراءات المتخذة حيال ذلك.
إننا نقول: لا بد من اتخاذ الأسباب والحيطة والحذر لمنع مثل هذه التصرفات، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ...) [النساء:71]، ثم تحمُّل المسؤولية، فكل فرد ومواطن عضُد ومساعد لأجهزة الأمن، وكشف مواقع الجريمة والحيثيات التي سببت ذلك، وإبلاغ المسؤولين حول ذلك.
فالتعاون مطلوب، والتكاتف مرغوب، ثم دعوة مسؤولي الأمن على الحرص والإخلاص في القيام بالعمل الأمني المناط بهم، وأن مسؤليتهم أعظم، ومهمتهم أكبر، والمبادرة في إقامة حدود الله بعد ثبوتها، وتنفيذ أحكام الله فيهم؛ ليرتدع المجرمون، وتنقطع شأفة الإجرام.
فمن حكمته -سبحانه- أن شرع لكل جريمة ما يناسبها، فشرع الله قتل القاتل، وقطع يد السارق، وقطع الأيدي والأرجل أو القتل والصلب لقطاع الطريق، ورجم الزاني المحصن، وجلد الزاني غير المحصن، وجلد القاذف، وشارب المسكر، كل ذلك لحفظ الأمن، وليذوق المعتدي مرارة العقوبة كما أذاق المجتمع مرارة الخوف والعدوان.
وقاني الله وإياكم شر الحوادث والمبتدعات، ووفقنا إلى فعل الخيرات، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.