الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | محمد بن مبارك الشرافي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - الصيام |
إِنَّ قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ قِصَّةٌ عَظِيمَةٌ فِي مَبْدَئِهَا وَوَسَطِهَا وَنِهَايَتِهَا، تَجَلَّتْ فِيهَا قُدْرَةُ اللهِ وَعِزَّتُهُ وَقُوَّتُهُ وَسَطْوَتُهُ، فَهُو الذِي إِذَا حَكَمَ أَنْفَذَ، وَإِذَا قَضَى أَمْضَى، وَإِذَا أَمَرَ أُطِيعَ، فَلا رَآدَّ لِحُكْمِهِ، وَلا مُعَقِّبَ لِقَضَائِهِ، إِنَّهَا قِصَّةٌ خَلَّدَهَا الْقُرْآنُ وَأَبْدَى فِيهَا وَأَعَادَ، فَمَرَّةً بِالْبَسْطِ وَالتَّطْوِيلِ، وَمَرَّةً بِالاخْتِصَارِ وَالتَّقْلِيل، وَمَرَّةً بِالإِشَارَةِ، وَمَرَّةً ..
الْحَمْدُ للهِ نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ، وَنَسْتَعِينُهُ عَلَى طَاعَتِهِ، وَنَسْتَنْصِرُهُ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَنُؤْمِنُ بِهِ حَقًّا، وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ صِدْقًا، مُفَوِّضِينَ إِلَيْهِ أُمَورَنَا، وَمُلْجِئِينَ إِلَيْهِ ظُهُورَنَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه، بَعَثَهُ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَدُرُوسٍ مِنَ الْعِلْمِ، وَإِدْبَارٍ مِنَ الدُّنيَا، وَإِقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ، بَشِيرًا بِالنَّعِيمِ الْمُقِيم، وَنَذِيرًا بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ أَلِيم، فَبَلَّغَ الرِّسَالَة، وَأَدَّى الأَمَانَة، وَنَصَحَ الأُمَّة، وَجَاهَدَ فِي اللهِ، فَأَدَّى عَنِ اللهِ وَعْدَهُ وَوَعِيدَه، حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِين، فَعَلَيْهِ مِنَ اللهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ إِلَى يَوْمِ الدِّين، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- وَاعْلَمُوا أَنَّ حَاضِرَنَا مُرْتَبِطٌ بِمَاضِينَا، وَأَنَّ أَوَّلَنَا قُدْوَةٌ لآخِرِنَا، وَالْمُسْلِمُونَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ بَقِيَّةُ الأَعْضَاءِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى، فَالأُمَّةُ الإِسْلامِيِّةُ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي دِينِهَا، وَاحِدَةٌ فِي آمَالِهَا وَآلامِهَا، وَهِيَ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي أَفْرَاحِهَا وَأَحْزَانِهَا، فَكَمَا نَفْرَحُ بِفَرَحِ الْمُسْلِمِ وَلَوْ كَانَ بَعِيدَ الدَّارِ وَغَرِيبَ الْوَطَنِ، فَكَذَلِكَ نَحْزَنُ لِمُصَابِهِ وَنَتَوَجَّعُ لآلامِهِ، فَمَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ.
وَكَذَلِكَ فَأُمَّتُنَا مُرْتَبِطَةٌ بِالأُمَمِ السَّابِقَةِ مِمَّنْ سَارَ عَلَى دِينِ الأَنْبِيَاءِ وَاقْتَفَى أَثَرَ الرُّسُلِ -عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلام-، وَذَلِكَ أَنَّ دِينَ الأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ، فَكُلَّهُ مِنَ الله، أَصْلُهُ وَاحِدٌ وَهُوَ التَّوْحِيدُ الْخَالِصُ لله، وَأَمَّا الشَّرَائِعُ فَمُخْتَلِفَةٌ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
فَالأَنْبِيَاءُ السَّابِقُونَ -عَلَيْهِمُ السَّلامُ- أَنْبَيِاءٌ لَنَا، نُؤْمِنُ بِهِمْ وَنُحِبُّهُمْ وَنَدْعُو لَهُمْ، لَكِنَّ اتِّبَاعَ الشَّرِيعَةِ لا يَكُونُ إِلا لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلام-، لأَنَّ شَرَائِعَهُمْ قَدْ بُدِّلَتْ وَحُرِّفَتْ، وَفِي شَرِيعَتِنَا غُنْيَةٌ وَكِفَايَةٌ وَللهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّة.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المَدِينَةَ، فَرَأَى اليَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: "مَا هَذَا؟!"، قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ: "فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ"، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
فَهُوَ الْيَوْمُ الذِي نَصَرَ اللهُ فِيهِ الْحَقَّ وَأَزْهَقَ الْبَاطِلَ، إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا، إِنَّ الظُّلْمَ مَهْمَا كَثُرَ وَقَوِيَ وَاسْتَطَارَ فَنِهَايَتُهُ الْبَوَارُ وَالْكَسَادُ.
إِنَّ قِصَّةَ مُوسَى -عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- قِصَّةٌ عَظِيمَةٌ فِي مَبْدَئِهَا وَوَسَطِهَا وَنِهَايَتِهَا، تَجَلَّتْ فِيهَا قُدْرَةُ اللهِ وَعِزَّتُهُ وَقُوَّتُهُ وَسَطْوَتُهُ، فَهُو الذِي إِذَا حَكَمَ أَنْفَذَ، وَإِذَا قَضَى أَمْضَى، وَإِذَا أَمَرَ أُطِيعَ، فَلا رَآدَّ لِحُكْمِهِ، وَلا مُعَقِّبَ لِقَضَائِهِ، إِنَّهَا قِصَّةٌ خَلَّدَهَا الْقُرْآنُ وَأَبْدَى فِيهَا وَأَعَادَ، فَمَرَّةً بِالْبَسْطِ وَالتَّطْوِيلِ، وَمَرَّةً بِالاخْتِصَارِ وَالتَّقْلِيل، وَمَرَّةً بِالإِشَارَةِ، وَمَرَّةً بِصَرِيحِ الْعِبَارَة.
هَذَا النَّبِيُّ الْكَرِيمُ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلامُ- كَلِيمُ الرَّحْمَنِ أَحَدُ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ مِنَ الرُّسُلِ، جَاءَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ صَرِيحًا سَبْعًا وَسِتِّينَ مَرَّةً، وَجَاءَتْ قِصَّتُهُ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِرَارًا وَتَكْرَارًا، وَذَلِكَ لِعَظَمَتِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ، وَلأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا قَرِيبِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَدِينَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ تَذْكِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَتَوْبِيخًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَرْتَدِعُونَ.
إِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا مَظْلُومِيَن وَمُسْتَضْعَفِينَ وَمَغْلُوبِينَ عَلَى أَمْرِهِمْ، فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ وَيُنْقِذُهُمْ، فَفِرْعَوْنُ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَكَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ويَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَهَذَا مَا حَصَلَ، فَمَكَّنَ اللهُ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَأَرَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُون! فِلِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْد.
إِنَّ قِصَّتَهُمْ تَبْدَأُ مِنْ بَيْتِ فِرْعَونَ وَتَنْتَهِي فِيهِ، طِفْلٌ يَبْحَثُ فِرْعَوْنُ عَنْهُ لِيَقْتُلَهَ، فَيَأْتِي بِهِ اللهُ لِيَتَرَبَّى فِي أَحْضَانِهِ وَتَحْتَ رِعَايَتِهِ وَفِي ظِلِّ حِمَايَتِهِ، يَكْبُرُ وَيَتَرَعْرَعُ، وَتَحْدُثُ أَحْدَاثٌ يَكَادُ هَذَا الْغُلامُ يُقْتَلُ وَيُخْرِجُهُ اللهُ مِنْهَا كَالشَّعَرَةِ مِنَ الْعَجِينِ، يَخْرُجُ مِنْ مَدِيْنَتِهِ هَارِبًا خَائِفًا مِنَ الْقَتْلِ فَيَمُنُّ اللهُ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ، وَيَرُدُّهُ إِلَيْهَا هَادِيًا وَمُرْشِدًا وَدَاعِيًا وَنَبِيًّا رسُولاً، مُحَمَّلاً بِرِسَالَةٍ إِلَى عَدُوِّهِ الْحَمِيمِ وَصَدِيقِهِ اللَّدُودِ، يَرَاهُ فِرْعَوْنَ وَقَدْ كَانَ يَبْحَثُ عَنْهُ فَيَقُولُ لَهُ: (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) [الشعراء: 18، 19]! فَيَرُدُّ عَلَيْهِ مُوسَى بِعِزَّةٍ وَثِقَةٍ بِاللهِ، وَيَقُولُ: (فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء: 20]، أَيْ: الْمُخْطِئِينَ، (فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الشعراء: 21، 22]!
وَيَطُولُ الْحِوَارُ وَالْجِدَالُ مَعَ هَذَا الْمُعَانِدِ وَيُرِيهِ مُوسَى الآيَاتِ وَالْبَرَاهِينَ وَالْمُعْجِزَاتِ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ) [يونس: 96، 97]، فَمَا اسْتَفَاقَ فِرْعَونُ مِنْ غَيِّهِ وَطُغْيَانِهِ وَمَا أَبْصَرَ مِنْ عَمَاهُ إِلا وَالْبَحْرُ يَعْلُوهُ مَاؤُهُ، وَجُنُودُهُ غَرْقَى وَهَلْكَى بَيْنَ يَدَيْه، فَيَتَّعَظُ! وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ فَاتَ الآوَان، فَيَصِيحُ: (آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس: 90]! فَيَأْتِهِ الرَّدُّ الذِي يَسْتَحِقُّهُ: (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) [يونس: 91، 92]! فَهَكَذَا صَارَ عِبْرَةً وَآيَةً لِمَنْ فِي عَصْرِهِ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ مَا حَدَثَ لِفِرْعَونَ مِنَ الْغَرقِ وَالْهَلاكِ وَمَا حَدَثَ لِمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلامُ- مِنَ النَّصْرِ، وَمَا حَصَلَ لِقَوْمِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الإِنْجَاءِ لَهُوَ عِبْرَةٌ لِمَنْ يَعْتَبِرْ، وَآيَةٌ لِمَنْ يَتَّعِظْ، فَيَجِبُ لَهُ الشُّكْرُ مِنْ جَانِبٍ وَالْحَذَرُ مِنْ جَانِب، فَالشُّكْرُ لإِنْجَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَهَكَذَا كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ أَنْجَاهُمُ اللهُ. وَالْحَذَرُ يَكُونُ مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّهُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَلْنَحْذَرْ أَنْ نَظْلِمَ فَيُهْلِكُنَا.
وَكَانَ الْوَاجِبُ أَيْضًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَشْكُرُوا اللهَ بِطَاعَتِهِ وَالإِيمَانَ بِرُسُلِهِ وَاتِّبَاعَ شَرَائِعِهِ، وَلَكِنَّ الْذي حَدَثَ هَوَ خِلافُ ذَلِكَ، فَكَفَرُوا بِالأَنْبِيَاءِ وَحَارَبُوهُمْ، بَلْ وَقَتَلُوهُمْ حَتَّى اسْتَحَقُّوا اللَّعْنَةَ وَالطَّرْدَ وَالإِبْعَادَ عَنْ رَحْمَةِ اللهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) [المائدة: 78، 79].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ اليَهُودَ صَارُوا أَهْلَ إِجْرَامٍ وَاعْتِدَاءٍ وَأَهَلَ ظُلْمٍ وَاغْتِصَابٍ، بَعْدَ أَنْ مَنَحَهُمُ اللهُ النَّجَاةَ مِنْ فِرْعَونَ وَجُنُودِه، وَكَانَ الوَاجِبُ أَنْ يَشْكُرُوا اللهَ، وَيُحْسِنُوا كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْهِمْ بِالنَّجَاةِ وَالحُرِّية.
وَإِنَّ مَا يَفعَلُوْنَهُ بِإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ فِي غَزَّةَ لَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ مَا عَرَفُوا حَقَّ تِلْكَ النِّعْمَةِ، وَبُرْهَانٌ عَلَى أَنَّهُمْ مَا اتَّعَظُوُا وَمَا اسْتَفَادُوا مِنْ مَاضِيهِمْ، وَإِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لَنَا -نَحْنُ الْمُسْلِمينَ- لَجُرْحٌ جَدِيدٌ وَأَلَمٌ حَادٌّ وَأَثَرٌ كَبِيرٌ، لَنْ نَنْسَاهُ لَهُمْ عَلَى مَرِّ الْعُصُورِ، وَلَنْ يَغْفِرَهُ التَّارِيخُ عَلَى تَعَاقُبِ الدُّهُورِ.
وَإِنَّنَا مَعَ بَالِغِ مَا نُحِسُّ بِهِ مِنَ الأَلَمِ، وَنَتَوَجَّعُ بِهِ مِنَ الأَسَى لا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَقِفَ عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ، بَلْ كُلٌ يُقَدِّمُ مَا يَسْتَطِيعُ، وَبِحَسْبِ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ مِمَّا يُعِينُ بِهِ إِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ فِي فِلَسْطِينَ الْجَرِيحَةِ وَفِي غَزَّةَ الْكَسِيرَةِ.
أَسْأَلُ اللهَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ أَنْ يَلْطُفَ بِهِمْ، وَأَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ الْبَأْسَ وَالظُّلْمَ، وَأَنْ يَنْصُرَهُمْ بِنَصْرٍ عَاجِلٍ غَيْرَ آجِلٍ، اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، هَازِمَ الأَحْزَابِ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى خَيْرِ هَادٍ وَأَعْظَمِ مُرَبٍّ، نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ بِهُدَاهُمُ اقْتَدَى.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ صَوْمَ عَاشُورَاءَ سُنَّةٌ، وَفَضْلُهُ عَظِيمٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ تَعْظِيمُهُ أَوْ تَخْصِيصُهُ بِشَيْءٍ غَيرِ الصِّيَامِ، كَمَنْ يَجْعَلُهُ يَوْمَ فَرَحٍ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَشَبَّهَ بِالْمُشْرِكِينَ وابْتَدَعَ فِي دِينِ اللهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ.
فَعَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ أَهْلُ خَيْبَرَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، يَتَّخِذُونَهُ عِيدًا، وَيُلْبِسُونَ نِسَاءَهُمْ فِيهِ حُلِيَّهُمْ وَشَارَتَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فَصُومُوهُ أَنْتُمْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَكَذَلِكَ فَلا يَجُوزُ جَعْلُهُ يَوْمَ حُزْنٍ كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْبِدَعِ الذِينَ يَنُوحُونَ فِيهِ وَيَلْطِمُونَ وَجَوهَهَمْ وَيَضْرِبُونَ رُؤُوسَهُمْ بِالسُّيُوفِ وَأَجْسَادَهُمْ بِالسَّلاسِلِ، حُزْنًا –بِزَعْمِهِم- عَلَى مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَأَرْضَاهُمَا--.
إِنَّ إِقَامةَ الْمَآتِمِ وَإِظْهِارَ النِّيَاحَةِ وَلَطْمَ الْخُدُودِ وَشَقَّ الْجُيُوبِ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيِّةِ، بَلْ مِمَّا تَبَرَّأَ رَسُولُ اللِه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ فَاعِلِهَا.
فَعَنَ عَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ أَوْ شَقَّ الْجُيُوبَ أَوْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
نَسْأَلُ اللهَ السَّلامَةَ وَالعَافِيةَ مِنْ هَذِهِ الْمَسَالِك ِالْهَالِكَةِ وَالطُّرُقِ الضَّالَّةِ.
اللَّهُمَّ إناَّ نَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَشَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَشَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ قُلُوبَنَا بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّ قُلُوبَنَا مِن الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِن الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَطَايَانَا كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِن الكَسَلِ وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ.
اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيمَا أَعْطَيْتَنَا مِن الْمَطَرِ، وَزِدْنَا مِنْهُ، واجْعَلْهُ عَامَّاً شَامِلاً لِبِلادِ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ اسْقِ بِهِ الوِهَادَ وَمَنَابِتَ الشَّجَرِ، اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنَا بِذُنُوبِنَا فَضْلَكَ، واغْفِرْ لنَا أَجْمَعِينَ وَوَالِدِينَا وَالْمُسْلِمِينَ، وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِين.