الحليم
كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...
العربية
المؤلف | عبدالرحمن بن علي العمري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
في مثل هذا اليوم التقى الجمعان، في مثل هذا اليوم صف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه في يوم بدر العظيم على قلة عددهم وعددهم أمام جحافل الشرك والكفر والضلال، فكانت هنالك دروس عظيمة ومواقف جليلة تضفي الإيمان في القلوب، وتدفع بالمؤمن إلى أن يشرف بماضيه وأن يتشبه بأولئك الرجال العظام، وأن يعلم أن هذا الدين قام على أكتاف رجال ضحوا بأرواحهم في سبيل الله، وبذلوا دماءهم من أجل إعلاء كلمة الله.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين وقدوة الناس إلى الله أجمعين، صلى الله وملائكته والمؤمنون عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله: في مثل هذا اليوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان كان يوم الفرقان، كان ذاك اليوم العظيم الذي فرّق الله فيه بين الحق والباطل؛ ليحق الحق ويبطل الباطل.
في مثل هذا اليوم من السنة الثانية من الهجرة فرّق الله -جل وعلا- بين الشرك والضلال وأهله وبين أهل التوحيد والإيمان والتقوى، في مثل هذا اليوم العظيم دحر الله -جل وعلا- الكبرياء والرياء والسمعة وأهل الضلال، وأظهر الله -جل وعلا- أهل الحق والإيمان والتوحيد وإن قل عددهم، ولكن العبرة بالإيمان والتوحيد والإخلاص والجهاد من أجل إعلاء كلمة الله -تبارك وتعالى-.
في مثل هذا اليوم التقى الجمعان، في مثل هذا اليوم صف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه في يوم بدر العظيم على قلة عددهم وعددهم أمام جحافل الشرك والكفر والضلال، فكانت هنالك دروس عظيمة ومواقف جليلة تضفي الإيمان في القلوب، وتدفع بالمؤمن إلى أن يشرف بماضيه وأن يتشبه بأولئك الرجال العظام، وأن يعلم أن هذا الدين قام على أكتاف رجال ضحوا بأرواحهم في سبيل الله، وبذلوا دماءهم من أجل إعلاء كلمة الله.
في مثل هذا اليوم العظيم يقول -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه -وهو يدفعهم إلى الجهاد والتضحيات-: "سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم". (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) [القمر:46].
في مثل هذا اليوم العظيم الكون كله تحرك لنصرة تلك الفئة القليلة المؤمنة بإذن من الله -تبارك وتعالى-، فحتى السماء في ليلة بدر أمطرت مطرًا فكان على المشركين وابلاً شديدًا منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلاً طهرهم به، وأذهب عنهم رجس الشيطان، ووطّأ به الأرض، وصلب به الرمل، وثبت الأقدام، ومهد به المنزل، وربط به على قلوبهم.
قال الله -جل وعلا-: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ) [الأنفال:11].
في مثل هذا اليوم أظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الشورى الحقة بمشاورة أصحابه أمام هذا الموقف العظيم، فتقدموا بآرائهم الجليلة وأفكارهم العظيمة، فكان منهم المقداد بن عمرو -رضي الله عنه وأرضاه- حيث قال: "يا رسول الله: امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
ويتقدم سيد الأنصار وإمامهم وقدوتهم -رضي الله عنه وعنهم أجمعين- سعد بن معاذ صاحب الفكر الحاذق والرأي الصائب والموقف الشجاع الجليل، فقال: "يا رسول الله: خذ من أموالنا ما شئت، ودع من أموالنا ما شئت، يا رسول الله: صل حبل من شئت واقطع حبل من شئت، يا رسول الله: والله لا نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، فإننا صبر في الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك يا رسول الله، فسر على بركة الله، والله لئن استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد".
فسُرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذه الآراء العظيمة وبهذه الكلمات التي تنم على التضحيات من أجل إعلاء كلمة الله -تبارك وتعالى-، وكان من آراء سعد السديدة -رضي الله عنه وأرضاه- قبالة المعركة أن اقترح أن يبنى مقرًا لقيادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال: "يا نبي الله: تخلّف عنك أقوام -يا نبي الله- ما نحن بأشد لك حبًا منهم".
فانظر إلى صيانته لإخوانه الذين غابوا ولم يشهدوا المعركة وما كانوا يظنون أنه سيكون هناك حرب، زكاهم ومدحهم وأثنى عليهم، ليت كثيرًا من المسلمين اليوم يستفيدون من مثل هذه الدروس، ليت الكثيرين اليوم الذين يطعنون في ظهور إخوانهم إذا غابوا يستفيدون من هذه الدروس: "يا نبي الله: قد تخلف عنك أقوام -يا نبي الله- ما نحن بأشد لك حبًا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك".
ويعني هذا أنه هو ومن حضروا معه في غاية الاستعداد للتضحية وعدم العودة مرة أخرى من أجل أن ينتصر هذا الدين، ودفاعًا عن هذا النبي الكريم حتى يبلغ رسالة رب العالمين.
في مثل هذا اليوم العظيم ظهرت دروس كثيرة، حتى إن الله -جل وعلا- استجاب لدعاء المشركين، ولا تعجب أن يستجاب لدعاء المشركين، حتى إن قائد الضلالة وإمامها ورأس الأبالسة وشيطان شياطين الإنس الذين قدموا لحرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودينه وأصحابه أبو جهل بن هشام كان يدعو ويقول: "اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم"، وقال أيضًا: "اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرف، فأحنه الغداة".
فقال الله -جل وعلا- منزلاً على نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ)، أي أن هذه الدعوات التي دعا بها هذا المشرك وهذا الضال حان أوان تحققها وإجابتها، فكان الأمر كذلك في اليوم التالي، وصرع الله -جل وعلا- هذا المشرك الضال ومن كان على شاكلته من المشركين الضالين.
في مثل هذا اليوم نزلت الملائكة مؤيدة وناصرة بإذن الله -عز وجل- لرسوله -صلى الله عليه وسلم- ولمن معه من المؤمنين، ومثبتة لهم في ميدان القتال، وفي ذاك الموقف العظيم في بدر قال الله -جل وعلا-: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) [الأنفال:12].
في ذلك اليوم العظيم وفي ذلك الموقف والمشهد العظيم يخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيأخذ حفنة من التراب فيرمي بها في وجوه المشركين وهو يقول: "شاهت الوجوه"، فما بقيت عين مشرك إلا ودخلها ما دخلها من ذاك التراب، ووقع في فمه ما وقع من تلك الحصباء، فانشغلوا بما أصابهم وكان بداية الهزيمة لهم، قال الله -جل وعلا-: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال:17].
في ذلك اليوم العظيم وفي ذلك الموقف العظيم اندحر إبليس، وما رئي أحقر ولا أذل ولا أصغر ولا أحقر منه في ذلك اليوم من المشركين، ودفع بهم إلى ذاك المكان، فلما رأى الملائكة تتنزل من السماء ولى هاربًا حتى قذف بنفسه في أعماق البحار، وذكر الله -جل وعلا- حاله وهو يقول: (إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ).
إنه يوم عظيم، إنه يوم مشهود تحرك الكون فيه كله من أجل نصرة المؤمنين، فيا لها من مواقف جليلة، ويا له من يوم عظيم جمع الله –عز وجل- فيه للمسلمين بين النصر وبين فرحة أول عيد في حياتهم، فإنهم خرجوا في ذلك العام في أول رمضان فرضه الله -جل وعلا- على أمة الإسلام، وعادوا من بدر منصورين مرفوعي الرأس مؤيدين بنصر الله -عز وجل- وفضله، الملائكة عن يمينه -صلى الله عليه وسلم- ويساره، جبريل وميكائيل من الملائكة التي نزلت من السماء بأمر الله -عز وجل- لنصرة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وكأني بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام -رضوان الله عليهم أجمعين- خرجوا في أول عيد فطر في حياتهم فرحين مسرورين مستبشرين بأول عيد فطر في حياتهم، وبنصر الله -تبارك وتعالى- لهم في يوم بدر العظيم.
(إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ).
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم وللمسلمين، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
ثم أما بعد:
عباد الله، أيها الصائمون، أيها التالون لكتاب الله في هذه الأيام المباركة: تدبروا وتأملوا في سورة الأنفال وغيرها من سور القرآن التي وردت فيها هذه المشاهد العظيمة وهذه المواقف العظيمة ثم خذوا منها الدروس والعبر.
واعلموا أن أمتنا لن تنتصر إلا بعودتها إلى ما كان عليه سلف هذه الأمة، وبما رسمه لها رسولها -صلى الله عليه وسلم-، ولنتق الله -جل وعلا- عباد الله في أسماعنا وأبصارنا وجوارحنا وأوقاتنا، لا تذهب منا هدرًا وتضيع منا ضياعًا في غير ما ينفع.
إن الأمة بحاجة إلى العودة لتاريخها المجيد وإلى أيامها الماضية التليدة وإلى ذلك التاريخ المشرق العظيم، إن يوم بدر فيه من الدروس والعظات والعبر الكثير الكثير، وإن كان يومًا واحدًا التقى فيه أهل الإيمان بأهل الشرك لكن فيه أعظم الدروس والعظات والعبر.
يقف -صلى الله عليه وسلم- أمام أصحابه يعدل الصفوف ويسويها في ذلك اليوم العظيم، فيضرب درسًا عظيمًا في الإنصاف والعمل -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- حينما كان يسوي الصفوف بعصًا بيده، فكان أحدهم متقدمًا، فوضع ذلك المحجن في بطنه ليتأخر، وقال: "استوِ يا سواد"، وكان سواد بن غزية، فقال: أوجعتني -يا رسول الله- بمحجنك هذا في بطني، فيقف -صلى الله عليه وسلم- لتقف الدنيا كل الدنيا بأسرها شاهدة على عدله وشاهدة على إنصافه -صلى الله عليه وسلم- حتى في مثل هذا الموقف العظيم، فيقول له: "استقد يا سواد"، أي اقتص، وسلمه المحجن، فقال: يا رسول الله: لقد وضعت المحجن في بطني وردائي حاسر، أي ليس على بطني شيء من الرداء، فحسر -صلى الله عليه وسلم- الرداء عن بطنه الشريفة، وظهر بياضه أمام سواد بن غزية وأمام الجيش كل الجيش وأمام الأمة كل الأمة وأمام التاريخ كل التاريخ، ليشهدوا عدله وإنصافه وتواضعه -صلى الله عليه وسلم-، فما كان من سواد إلا أن اعتنق بطن الحبيب -صلى الله عليه وسلم- يقبّله، قال: "ما حملك على هذا يا سواد؟!"، قال: "يا رسول الله: أردت أن يكون آخر عهدي في الدنيا أن يمس جلدي جلدك".
يا لها من مواقف جليلة!! ويا لها من مواقف عظيمة!!
يأتي أحدهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول: يا رسول الله: ترى ما ترى وحصل ما حصل فما الذي يضحك الرب تبارك وتعالى؟! مما يضحك ربنا جل وعلا؟! يريد أن يعمل عملاً يرضي به ربه ويضحك به ربه، لأن لله -تبارك وتعالى- ضحكًا يليق بجلاله، لا كضحكنا وإنما من ضحك الله إليه فقد رضي عنه ولا يعذبه أبدًا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من غمسك يدك في العدو حاسرًا".
فرمى بدرعه وغمس يده في العدو حاسرًا وقاتل حتى استشهد في سبيل الله، ورفرفت روحه إلى عليين مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
إنها دروس كثيرة يضيق المقام عن سردها وذكرها، لكن أردنا بمثل هذا الذكر علها أن تتحرك في القلوب جذوة الإيمان، وعلها أن تعيد ذاك التاريخ المجيد، وعلينا أن نتدبر ونتأمل هذه الآيات العظام التي وردت في مثل هذه المواطن الجليلة بدلاً من الترهات والضياع الذي يعكف عليه الكثير من الناس، بل الكثير من الأسر وخاصة في مثل هذه الأيام من المسلسلات والكذب والدجل والزور، إلى غير ذلك مما يفعله من لا خلاق له.
عباد الله: أكثروا في يومكم هذا من الصلاة والسلام على حبيبكم وعلى قدوتكم وعلى إمامكم، فقد صلى الله عليه وصلت عليه الملائكة وأمركم الله بالصلاة عليه في قوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].