البحث

عبارات مقترحة:

الحيي

كلمة (الحيي ّ) في اللغة صفة على وزن (فعيل) وهو من الاستحياء الذي...

الآخر

(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...

من وسائل الشيطان في الصد عن ذكر الرحمن (1)

العربية

المؤلف عمر القزابري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. تصيّد الشياطين للغافلين وحرصهم على إغواء الناس .
  2. الخمر والميسر وسيلتين شيطانيتين لإغواء الناس وإفساد المجتمع .
  3. أمر الشرع باجتناب الخمر والميسر وما يتعلق بهما .
  4. الحكمة من تحريم الخمر والميسر .
  5. حرص أعوان الشيطان على الترويج للخمر وإشاعةِ صورٍ للميسر .
  6. أحكام الرهان والتأمين واللعب بالنرد .

اقتباس

وما أكثر شياطين الجن والإنس في عالمنا اليوم! يتربصون بنا من كل جانب، يبثون السموم، وينشرون الهموم؛ يمكنون للظلام، وينتصرون للقتام؛ يكرهون الضياء والنور، ويعادون الطمأنينة والحبور؛ أكبر أمانيهم أن يغفل العبد عن ذكر ربه، يأتون له من كل الجهات، ويتربصون به من كل المداخل، متمثلين قول ..

الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالمُلك الأعزِّ الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا وراءه مَرْمَى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدُّسًا لا عُدْمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعمًا عُما. 

وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عُربًا وعجمًا، أزكاهم محتدًا ومَنْمَى، وأشدهم بهم رأفة ورُحمى، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وزكَّاهُ روحًا وجسمًا، وآتاه حِكمة وحُكمًا، فآمن به وصدَّقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

معاشر الصالحين: إن النفوس لا ترتقي إلا بتكرار المواعظ، وإن القلوب لا تجلو إلا بالدوام على الذكر، وإن العبد الذاكر بمثابة الجندي المسلح؛ لا يطمع فيه متربص، ولا يقرب منه عدو ما دام بسلاحه؛ فإذا ما غفل -ولو للحظة- انقض عليه العدو، وظفر به المتربص: (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً) [النساء:102].

وما أكثر شياطين الجن والإنس في عالمنا اليوم! يتربصون بنا من كل جانب، يبثون السموم، وينشرون الهموم؛ يمكنون للظلام، وينتصرون للقتام؛ يكرهون الضياء والنور، ويعادون الطمأنينة والحبور؛ أكبر أمانيهم أن يغفل العبد عن ذكر ربه، يأتون له من كل الجهات، ويتربصون به من كل المداخل، متمثلين قول إمامهم الأكبر -عليه لعائن الله-: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف:16-17].

أيها الأحباب: إن العدو من بني جلدتك إذا كان متربصًا بك أدرك بغيته منك إن لم تتحرز وتحترس، فكم من عدو يراك ولا تراه! ويجري منك مجرى الدم كما أخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم".

قال -تعالى- عن إبليس: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ) [الأعراف:27]، قال الإمام الماوردي -رحمه الله- في تفسيره المسمى بـ"النكت والعيون": "(يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) فيه وجهان: أحدهما -يعني معنى قبيله-: قومه، وهو قول الجمهور؛ والثاني: جيله، يعني: صنفه وجنسه، (مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ) يحتمل وجهين: أحدهما: من حيث لا تبصرون أجسادهم، والثاني: من حيث لا تعلمون مكرهم وفتنتهم". اهـ.

إن من أهم ما يريد الشيطان من العبد أن يصده ويصرفه عن ذكر الله، قال -تعالى-: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) [المائدة:91].

إذًا؛ فمن غاياته -لعنه الله-: الإبعاد؛ وهذا يوافق سرّ تسميته بالشيطان، فإن كلمة شيطان -لغةً- من: شطن، أي بعُد، يقال أشطنه أي: أبعده، والشاطن: البعيد عن الحق، قال ابن كثير -رحمه الله-: "الشيطان في لغة العرب مشتق من (شطن) إذا بعد". اهـ. إذًا؛ فالشيطان هو في نفسه بعيد عن الله، مُبْعِدًا لغيره عن ذكر الله.

وللشيطان وسائل وطرق في الصد عن ذكر الله، وقد ذكر الله في الآية السابقة وسيلتين من وسائل صده عن ذكر الله، قال -تعالى-: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) [المائدة: 91].

قال الإمام الخازن -رحمه الله- في تفسيره المسمى بـ"لباب التأويل في معاني التنزيل": "(وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ): لأن شرب الخمر يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة، وكذلك القمار يشغل صاحبه عن ذكر الله وعن الصلاة". اهـ.

قال الإمام الذهبي -رحمه الله-: "والخمر أخبث من جهةِ أنها تفضي إلى المخاصمة وإلى المقاتلة، وكلاهما يصد عن الصلاة وعن ذكر الله".

الخمر فشوها وانتشارها مظهر من مظاهر الغفلة عن ذكر الله، ومجتمع تكثر فيه الخمر وتباع وتشرب على قارعة الطرقات وتُرمى قِنَانُها من السيارات مجتمع قد تمكنت منه الشياطين، وشغلته بالدنيا عن الدين. فهل من المعقول -يا عباد الله- أن تكون أمةٌ قائدها سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وهي على هذه الشاكلة؟! تتاجر في الخمور، وتعرضها في المطاعم، ويشربها الطلاب والطالبات عند أبواب المدارس! أبهذا تدرك العزة؟! أبهذا ينصر الدين؟!

عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تشربوا مسكرًا؛ فمَن فعل من ذلك شيئًا فأقيم عليه حده فهو كفارة، ومن ستر الله عليه فحسابه على الله، ومن لم يفعل من ذلك شيئًا ضمنت له على الله الجنة". رواه الطبراني.

وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن على الله -عز وجل- عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال"، قالوا: يا رسول الله: وما طينة الخبال؟! قال: "عرق أهل النار"، أو "عصارة أهل النار". رواه مسلم.

كان يعصر للناس ويبيعهم، فجوزي بالشرب من عصارة أهل النار (جَزَاء وِفَاقًا) [النبأ:26]، والخبال -لغة- يأتي بمعنى النقصان والهلاك والسم القاتل، وبما أن بائع الخمر في الدنيا قد تسبب للناس في كل هذه الأمور؛ كان جزاؤه بها في نار جهنم عياذًا بالله.

وإذا كان شارب الخمر قد تُوُعِّدَ بهذا الوعيد؛ فكيف يكون حال بائعيها؟! عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله حرم الخمر وثمنها، وحرم الميتة وثمنها، وحرم الخنزير وثمنه". رواه أبو داود.

وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول عام الفتح وهو بمكة: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام". رواه مسلم.

لباعة الخمور والذين يرخصون لهم نقول: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر؛ فهل أنتم منتهون؟! فهل أنتم منتهون عن تدمير الأمة وإفساد الشباب؟! هل أنتم منتهون عن إفساد الأخلاق والتسبب في الخصومات والعداوات والحوادث؟! فإن انتهيتم! وإلاّ فإن الله لن يترككم، وسيُنزل بكم غضبه وعقابه في الدنيا والآخرة.

إن كثيرًا من شباب المسلمين يشتغلون في بعض المطاعم التي تبيع الخمر، ويتعللون بالحاجة والفقر، لهؤلاء نسوق هذا الحديث مذكّرين، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعَها، وعاصِرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه". رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي.

كل هؤلاء شركاء في اللعن، إخوة في الطرد والإبعاد عن رحمة الله، فإن سأل سائل عن البديل؛ سقنا له قول ربنا، مُذكرين: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2-3]، وسقنا له قول نبينا -صلى الله عليه وسلم-، مبشرين: "من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه".

بعض الناس لا يشربون الخمر؛ ولكن يجالسون مَن يشربها، وقد يأتي ذلك في سياق المجاملات أو المصالح أو العقود والصفقات، كل ذلك ينسفه الشرع نسفًا، ويدفعه دفعًا، ويرفضه تحت أية جهة وقعت، وتحت أي غطاء كان.

وعن جابر -رضي الله عنه- أنه قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن كان يؤمن الله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يشرب عليها الخمر". رواه الدارمي وصححه الألباني في صحيح الجامع.

مَن كان يؤمن بالله ربًّا وخالقًا ورازقًا ومدبرًا، وباليوم الآخر موعدًا للجزاء والحساب؛ فإنه لا يمكن أن يجالس أحدًا يشرب الخمر، أو يقبل أن توضع الخمر على مائدة يجلس عليها.

إن الأمر -أيها الأحباب- محسوم بالدين، مفروغ منه بالشرع، فإما مطيعٌ موافقٌ، وإما معاند. عن ديلم الحميري -رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله: إِنَّا بأرض باردة نعالج بها عملاً شديدًا، وإنا نتخذ شرابًا من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا. قال: "هل يُسكِر؟!". قال: قلت: نعم. قال: "فاجتنبوه". قال: قلت: فإن الناس غير تاركيه! قال: "فإن لم يتركوه فاقتلوهم". رواه أبو داود وصححه الألباني.

ولقد بلغ السلف مبلغًا شديدًا في التحذير من مجالسة شُرَّاب الخمر ومجاملتهم ومداهنتهم، قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "لا تعودوا شُرَّابَ الخمر إذا مرضوا"، وقال أيضًا -رضي الله عنه-: "لا تسلموا على شُرَّاب الخمر".

إذًا؛ فإن الخمر -بيعًا وصناعة وتعاطيًا وكل ما يرتبط بذلك- من وسائل الشيطان في الصد عن ذكر الرحمن، لما يترتب على ذلك من الفتن والمفاسد وانتهاك حرمات الله، وإدخال المجتمعات في متاهات لا أول لها ولا آخر.

وللأسف! فإننا نرى اليوم بعض إعلام المسلمين يساهم في التمكين لهذه المفسدة العظيمة، والجريمة الكبيرة، من خلال ما يُظهر الخمر بمظهر يجذب الأنظار ويسرق الألباب، وتولت كبر ذلك كثير من المجلات والجرائد؛ وكل ذلك من أجل عرَض من الدنيا قليل! (أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ) [الأنعام:31].

وكذلك الكثير من الأفلام والمسلسلات التي يشاهدها شبابنا وأبناؤنا ونساؤنا، مثل المسلسلات التركية والمكسيكية وغيرها، فلقد كثر البلاء وتنوع، فكل هذه المسلسلات تتبوأ الخمر فيها مكان الصدارة، وأغلب المسلمين اليوم يتلقى ما يعرض له دون وعي ودون تمييز. والله نسأل أن يعصمنا وإياكم من الزلل.

جعلني الله وإياكم ممن ذُكِّرَ فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرًّا وجهرًا، آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله المنعم على مَن ذَكَرَه بالقرب من حضرة قدسه، والعصمة من الكبائر، وستر عيبه، والصلاة والسلام على من كان يذكر الله في كل أحيانه، وفي جميع شأنه وأحواله، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، الذين ذكروا الله وقاموا بحقه، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم وعيده ووعده.

معاشر الصالحين: ذكر الله في الآية السالفة الذكر وسيلتين من وسائل إبليس في الصد عن سبيل الله: الخمر والميسر.

والميسر هو كل معاملة يكون الإنسان فيها إما غانمًا وإما غارمًا، وذلك مثل المراهنة، كأن يتراهن اثنان على مسألة من المسائل، كأن يقول أحدهما: إن كان القول قولك فإن عليّ كذا وكذا، وإن كان القول قولي فإن عليك كذا وكذا... هذه المعاملة وما شابهها هي من الميسر الذي حرمه الله وقرنه بالخمر.

إن المراهنة -أيها الأحباب- لا تجوز إلا فيما أجازه النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر"، فالنصل: السهام التي يرمى بها في سبيل الله، والحافر: الخيول، والخف: الإبل؛ لأن هذه الأمور الثلاثة يستعان بها على الجهاد في سبيل الله، فالمغالبة فيها تؤدي إلى ممارستها والنشاط فيها.

ومن أجل هذه المصلحة أباحها الشارع، ورخص بعض أهل العلم أيضًا في المراهنة على العلوم الدينية؛ لأن في ذلك تنشيطًا على العلم. أما ما سوى ذلك فإن المراهنة عليه حرام، وهو من الميسر.

ومن الميسر أيضًا ما ابتلي به الناس اليوم -وهو مما يؤسف له- من مسألة التأمين، مثل التأمين على الحريق والحوادث؛ بل وعلى الحياة! فبدلاً من أن يقضوا على الربا زادوا الطين بلة بالتأمين!

والتأمين نوعان: اضطراري واختياري. فما كان منه اضطراريًا لا تقوم المصلحة إلا به فيرجو أن يكون متجاوزًا عنه؛ لقول ربنا: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) [الأنعام:119].

والثاني: اختياري، من قبيل التأمين على الحياة والحرائق وغير ذلك، وهذا أمر محرم؛ وذلك لأن هذه المعاملة تشتمل على أن يكون أحد طرفيها غانمًا والثاني غارمًا، فإن المدة إذا مضت ولم يحصل حادث على المؤمِّن صارت الشركة غانمة، وإذا حصل حادث في هذه المدة فربما يكون الغرم كثيرًا فيكون المؤمِّن هو الغانم، ومن أجل ذلك صارت من الميسر.

ومن أراد التأمين الحقيقي فعليه بذكر الله، قال -تعالى- حكاية عن نبيه نوح: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا * مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) [نوح:10-13].

قال ابن القيم -رحمه الله-: "إن العبد إذا تعرف إلى الله -تعالى- بذكره في الرخاء عرفه في الشدة، وقد جاء أثر معناه أن العبد المطيع الذاكر لله -تعالى- إذا أصابته شدة أو سأل الله حاجة قالت الملائكة: يا رب: صوت معروف من عبد معروف؛ والغافل المعرض عن الله -عز وجل- إذا دعاه وسأله قالت الملائكة: صوت منكر من عبد منكر".

وقال كذلك -رحمه الله-: "ما استجلبت نعم الله -عز وجل- واستدفعت نقمه بمثل ذكر الله -تعالى-"؛ فالذكر جلاّب للنعم، دفّاع للنقم، قال -سبحانه وتعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا)، فدفعه ودفاعه عنهم بحسب قوة إيمانهم وكماله، ومادة الإيمان وقوته بذكر الله، فمن كان أكمل إيمانًا وأكثر ذكرًا كان دفاع الله عنه ودفعه أعظم، ومن نقَّص نقص. ذِكرٌ بذكر، ونسيان بنسيان.

إذًا؛ فالذكر هو التأمين الحقيقي لا ما شاع في دنيانا اليوم من صور التأمين المخالفة لشرع الله، ومع كثرتها كثرت المصائب والرزايا في الأموال والأنفس والثمرات.

أيها الكرام: لقد كثرت صور الميسر اليوم، وصارت لها مؤسسات وقنوات ودراسات وبرامج يراد من ورائها أكل أموال الناس بالباطل، وذلك باستخفاف عقولهم، وتضييع أوقاتهم فيما لا ينفع، وصرفهم عن ذكر ربهم.

والأشد هو استمراء تلك الأمور والتعود عليها حتى لا ينكَر عليها ولا يتبرأ منها، فإذا قام أحد وقال: هذا حرام، أصبح هذا شذوذًا وصدودًا في وسط المجتمع.

والحلال -أيها الأحباب- ما أحلّه الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، مهما مرت الأزمان، ومهما تغيرت الأحوال، فالحق حق وإن قل رواده، والباطل باطل وإن كثر مرتادوه.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين؛ وإياك وطريق الباطل! ولا تغتر بكثرة الهالكين". قال الله -جل في علاه-: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ) [الأنعام:116].

عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الخيل ثلاثة: فرس للرحمن، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان؛ فأما فرس الرحمن فالذي يربط في سبيل الله، فعلفه وروثه وبوله -وَذَكَرَ ما شاء الله- أجر؛ وأما فرس الشيطان فالذي يقامر عليه ويراهن؛ وأما فرس الإنسان فالفرس يربطها الإنسان يلتمس بطنها -أي ما في بطنها- في ستر من فقر". رواه الإمام أحمد.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله -يعني تكفيرًا-، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق". رواه البخاري ومسلم. يعني مجرد القول يستوجب الصدقة تكفيرًا، فما بالكم بمن يتعاطى القمار؟!

قال ابن حجر -رحمه الله-: "القمار حرام باتفاق، والدعاء إلى فعله حرام". وكثيرًا ما نسمع في الإعلام الدعوة له صريحة فصيحة، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

عن عبد الرحمن بن سعيد قال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مثل الذي يلعب بالنرد ثم يقوم فيصلي كمثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلي". رواه الهيثمي. والنرد لعبة تعتمد على الحظ يشبه لعبة الطاولة اليوم، تكون فيه المراهنة، وقد يدخل فيه ألعاب الورق وغيرها من الألعاب التي تكون فيها المراهنة.

ويذكر الإمام ابن القيم -رحمه الله- علة تحريم النرد فيقول: "علة تحريم النرد لما يشتمل عليه في النفس من المفاسد، وإن خلا عن العوض -يعني وإن كان بدون مقابل- فتحريمه من جنس تحريم الخمر؛ فإنه يوقع العداوة والبغضاء، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وفيه أكل المال الباطل، وقد يكون ذريعة إلى الإقبال عليه، واشتغال النفس به".

ثم قال: "وأصول الشريعة وتصريفاتها تشهد بالاعتبار، فإن الله -تعالى- في كتابه يقول: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) [المائدة:91]؛ فقرن الميسر بالأنصاب والأزلام والخمر، وأخبر أن الأربعة رجس، وأنها من عمل الشيطان، ثم أمر باجتنابها، وعلق الفلاح باجتنابها، ثم نبّه على وجوه المفسدة المقتضية للتحريم فيها، وهي ما يوقعه الشيطان بين أهلها من العداوة والبغضاء، ومن الصد عن ذكر الله".
 

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "الميسر محرم بالنص والإجماع، ومنه اللعب بالنرد والشطرنج؛ لما فيه من صدٍّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وبما يوقِعُ من العداوة والبغضاء بين المتقامرين".

وقال الإمام الآجري -رحمه الله-: "واللاعبُ بهذه النرد من غيرِ قمارٍ عاصٍ للهِ -عزّ وجل-، يجبُ عليه أن يتوبَ إلى الله -عز وجل- من لهوه بها. فإن لعب بها وقامر فهو أعظمُ؛ لأنه أكل الميسر وهو القمارُ؛ وقد نهى اللهُ -عز وجل- عنه".

أيها العبد: إن ربك الكريم يتودد إليك، خَلَقَكَ فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك، رعاك وأنت في بطن أمك جنينًا، غذاك بالنعم، أمدك بالعطايا، أحسن إليك، سترك، أعطاك من كل ما سألت؛ وهو ما خلقك ليشقيك ولا ليظلمك ولا ليرهقك ولا ليحرمك، إنما خلقك لتعرفه وتعرف نعمه عليك؛ فإذا عرفت ذلك يريد منك أن تذكره، أن تجعله شُغْلَ فكرِك، ومؤنس قلبك، وشغل لسانك؛ فإذا غفلت عنه وانصرفت عنه فأنت عبد سوء إذًا، فهل فهمت المراد؟!

دعاك إلى ذكره، ورتب على ذلك الأجور العظيمة، وحذر من نسيانه، ورتب على ذلك العقوبات الأليمة.

ووالله! ثم والله! لو لم يجعل -سبحانه وتعالى- على ذكره جزاء لكان أهلاً لأن يذكر ويمجد ويمدح ويحمد وينزه؛ لأنه مستحق -سبحانه- لكل ذلك وأكثر من ذلك، سبحانه! فكيف إذا كان يتودد إليك بنعمه وكرمه وعطائه؟! فاذكره ولا تكن من الغافلين.

اللهم أصلح أحوالنا...