الأعلى
كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | حسان أحمد العماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
وإِنَّ من طبيعة النفس البشرية بغض الإنسان غليظ الطباع، قاسي القلب، سريع الغضب؛ فجاء الإسلام بالتيسير والرفق، فكان سمَة عَظِيمَة ظاهرة، تتجلَّى في عقائدِه وعباداتِه ومعاملاتِه وأخلاقِه، وفي الصَّحِيحِ أَنَّهُ مَا خُيِّرَ صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه، وما ..
الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، والعالم بتقلبها وأحوالها، المانّ عليهم بتواتر آلائه، المتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي أنشأ الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير، وخلق البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير، فمضت فيهم بقدرته مشيئته، ونفذت فيهم بعزته إرادته.
وأشهد أن لا إله إلا الله فاطر السموات العلا، ومنشئ الأرضين والثرى، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه: (لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ) [الأنبياء:23].
وأشهد أن محمدًا عبده المجتبى، ورسوله المرتضى، بعثه بالنور المضيء، والأمر المرضي، على حين فترة من الرسل، ودُروس من السبل، فدمغ به الطغيان، وأكمل به الإيمان، وأظهره على كل الأديان، وقمع به أهل الأوثان، فصلى الله عليه وسلم ما دار في السماء فلك، وما سبح في الملكوت ملك، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
عباد الله: كم نحن بحاجة إلى السماحة، التي تعني التسامح والتيسير والسهولة واللين وبذل المعروف وكف الأذى، في سلوكنا ومعاملاتنا، وعلاقتنا مع من حولنا، خاصة ونحن في زمن قست فيه القلوب، وكثرت فيه المشاكل، وساءت فيه العلاقات بين بني الإنسان على مستوى البيت والأسرة والمجتمع، وبين شعوب الأرض وحضاراته، الأمر الذي أدى إلى قيام الصراعات والحروب والعداوات وحب الانتقام، حتى سفكت الدماء، واستطال الإنسان في عرض أخيه، وتعدى على ماله، وضعفت المبادئ والقيم والأخلاق. ولا يمكن أن تكون هذه هي الحياة التي أرادها الله للناس رغم اختلافهم في التفكير والرؤى وفي الاعتقاد والدين، وفي نمط الحياة، وفي النظر لهذا الكون.
ومع هذا الاختلاف والتباين بين الناس كانت دعوة الإسلام إلى السماحة والسهولة والتعاون والتعارف واليسر في علاقة الإنسان بغيره، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13].
ومن ينظر إلى تشريعات الإسلام وتوجيهاته في جميع شؤون الإنسان وحياته يجد السماحة واليسر، والبعد عن الحرج، ومراعاة الواقع، وتقدير الظروف؛ قال -تعالى-: (هوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الحج:78].
وقال -تعالى-: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة:6]. قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: لعلكم تشكرون نعمه عليكم فيما شرعه لكم من التوسعة والرأفة والرحمة والتسهيل والسماحة". اهـ.
ولا عجب؛ فهذا دين الله -سبحانه وتعالى- الذي من أسمائه العفوّ والغفور والرحيم والتواب، يغفر الذنوب والزلات، ويعفو ويسامح ويتفضل على عباده ويتجاوز عنهم، وإذا ما دَعَتْهم نفوسهم لارتكاب الموبقات والانغماس في الذنوب والمعاصي ناداهم -سبحانه وتعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53]، لاحِظ هنا (يا عبادي)! نداء من الله -عز وجل-، لمن؟! للذين أسرفوا على أنفسهم، ويسميهم (عبادًا)، ويضيفهم نسبة إليه: (يا عبادي)! (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ)، لقد بلغوا حدًّا كبيرًا في الغفلة والوقوع في المخالفة؛ (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)! فأي عفو وأي تسامح هذا؟!
بل خاطب -سبحانه وتعالى- نبيَّه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وعلّمه كيف تكون علاقته بمن حوله قائلاً: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ) [المائدة:13]، وقال -سبحانه-: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) [البقرة:109].
فالتسامح خلق الأنبياء؛ فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعيش هذا الخلق بين أصحابه ومع أعدائه واقعًا في الحياة، فعندما دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة منتصرًا، جلس -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، والمشركون ينظرون إليه، وقلوبهم مرتجفة خشية أن ينتقم منهم، أو يأخذ بالثأر قصاصًا عما صنعوا به وبأصحابه. فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر قريش: ما تظنون أني فاعل بكم؟!"، قالوا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم. قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
فأين من يغالِبهم حبُّ الانتصار والانتقام؟! أين هم من خلُق سيِّد المرسَلين؟! سئِلَت عائشة -رضي الله عنها- عن خلُق رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: "لم يكن فاحِشًا ولا متفحِّشًا ولا صخَّابًا في الأسواق، ولا يجزِي بالسيِّئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح". رواه أحمد والترمذي وأصله في الصحيحين. قال -تعالى-: (وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى:36-37].
أيها المؤمنون، عباد الله: مع شدة الهجمة على الإسلام والمسلمين وتكرارها وتنوعها من قبل أعدائه من يهود ونصارى ومنافقين وعلمانيين ورويبضات الزمان وأنصاف الرجال، ووصفهم لهذا الدين بالعنف والشدة والإرهاب وإقصاء الآخر ومصادرة الحقوق، أصبح كثير من المسلمين -بسبب جهلهم بدينهم- يتبنون هذه الأطروحات، والبعض الآخر يدافع عن الدين دفاع المتهم الذي يشعر بضعف حجته وأدلته، ويحاول التبرير واختلاق الأعذار الواهية.
وهناك طرف آخر من المسلمين أخذته العاطفة والحب لهذا الدين مع سوء فهم وتفسير مغلوط لأحكامه وتشريعاته إلى أن يتبنى العنف والشدة وسفك الدماء وإزهاق الأرواح، ولم يفرّق بين مسلم ومعاهد وذمي، ولا بين المصالح والمفاسد؛ ظنًّا منهم أن هذه الطريق هي طريق الخلاص، وبها ينصر الدين ويعز الإسلام وأهله؛ فكان من نتائج سوء الفهم سفك الدماء، وذهاب الأمن، وانتشار الظلم، وتشويه الصورة الناصعة لهذا الدين عند الآخرين، وتعرض أبناء المسلمين للمطاردة والملاحقة والإيذاء؛ واسُتغل هذا الوضع للكيد للإسلام والمسلمين، ومحاربة قيمه، وتشويه تشريعاته، وتحذير العالم وتخويف الناس منه.
نعم؛ إن الإسلام يبني في المسلم العزة والقوة والإرادة، ولا يقبل منه الضعف والخور والاستكانة؛ لأنه يحمل دين الله، وهو خليفة الله في أرضه؛ ولكن هذه القوة والعزلة ليس فيها ظلم لأحد مهما كان دينه أو عقيدته أو بلاده، ما لم يعتد على مسلم أو يشارك في قتاله أو كان سببًا في ظلمه وانتقاص حقه، قال -تعالى-: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة:8].
وهذه هي سماحة الإسلام مع الآخرين من أهل الأديان والملل والمذاهب الأخرى، تظهر في جميع تشريعاته وأحكامه، ففي جانب العقيدة ترك الإسلام الحرية للإنسان ليختار دينه، وأن لا يكره عليه، قال -تعالى-: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة:256].
وعاش اليهود والنصارى والمجوس في ظل دولة الإسلام قرونًا من الزمان ولم يُكرهوا على هذا الدين، ولم تقم لهم محاكم التفتيش ولا الإبادة الجماعية كما حدث للمسلمين في إسبانيا وألبانيا والبوسنة والهرسك والاتحاد السوفيتي سابقًا، وقتل المسلم بالهوية، ومن خلال اسمه وشعائر دينه؛ فهل بعد ذلك يكون دين الإسلام دين إرهاب وظلم وإكراه؟!
عباد الله: لقد حرّم الإسلام وأغلظ في العقوبة على أبنائه وأتباعه إذا بدر منهم ظلم أو تعدٍّ على أي إنسان دخل بلاد المسلمين من غيرهم؛ فقد روى البخاري في صحيحه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا".
وانظروا إلى هذا السلوك الحي المفسر لأخلاق الإسلام وسماحته: جاء في صفة الصفوة أن عمير بن سعد والي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على حمص قدم المدينة يريد من أمير المؤمنين أن يقيله من منصبه، فلما سأله عمر عن السبب قال عمير: "إن ذلك شيء لا أعمله لك ولا لأحد بعدك، والله ما سلمت بل لم أسلم، لقد قلت لنصراني: أخزاك الله، فهذا ما عرضتني له يا عمر، وإن أشقى أيامي يوم خلفت معك".
لقد عظم على عمير قوله لرجل من غير المسلمين: أخزاك الله! وهو دعاء، وما ذكر خطأً اقترفه في ولايته على حمص أعظم من هذا! وفي ذلك دليل على أن هذا الدين ما جاء إلا بالرحمة والهداية وإنقاذ البشر من الضلال إلى الهدى، ومن ظلمات الكفر إلى نور الطاعة، ولا عجب، ففي مدرسة النبوة تخرّج هذا الصحابي وغيره.
إنها سماحة الإسلام التي تأمر بالعدل والإحسان حتى مع غير المسلمين من أجناس الأرض، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة:8].
بل؛ لقد مرّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بباب قوم وعليه سائل يسأل: شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟! قال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟! قال: أسأل الجزية والحاجة والسن، قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: "انظر هذا وضُرباءه، فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم! (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ)، والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب؛ ووضع عنه الجزية وعن ضربائه.
وعندما أمر عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- مناديه أن ينادى: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، قام إليه رجل ذمي من أهل حمص فقال: يا أمير المؤمنين: أسألك كتاب الله. قال: وما ذاك؟! قال: العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي. والعباس جالس، فقال له عمر: يا عباس: ما تقول؟! قال: نعم، أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد وكتب لي بها سجلاً، فقال عمر: ما تقول يا ذمي؟! قال: يا أمير المؤمنين: أسألك كتاب الله -تعالى-، فقال عمر: نعم، كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد، قم فاردد عليه ضيعته؛ فردها عليه.
وهذا مُجاهد يقول: إنَّه ذُبحت شاة لعبد اللهِ بن عمر في أهلهِ، فلمَّا جاءَ قال: أهديتُمْ لجارنَا اليهوديِّ؟! أهديتُمْ لجارنا اليهوديِّ؟! سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما زالَ جبريلُ يُوصِيني بالجارِ حتَّى ظننتُ أنَّهُ سيورِّثُهُ". رواه الترمذي وقال: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
لم ينه الإسلام الذين آثروا الشرائع الأخرى عن الاحتكام إلى ما بأيديهم من الكتب؛ بل أمرهم بتحكيمها: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) [المائدة:47]، (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ) [المائدة:43].
وإذا كانت الدهشة تملك قلوب أهل هذا العصر الحاضر وعقولهم من هذا السخاء في المساواة والعدل والإنصاف الذي أعطاه الإسلام ودولته لـ"لآخر الديني" قبل أربعة عشر قرنًا، فإن هذه الدهشة -دهشة الذين لا يعرفون حقيقة الإسلام- ستزداد وتتعاظم عندما يعلمون -وتعلم الدنيا- أن الإسلام لم يطلب من هذا "الآخر الديني" مقابل كل هذا السخاء في "الحقوق" سوى "واجب واحد" هو أن يكون هذا "الآخر" لبنة في جدار الأمن الوطني والحضاري للدولة الإسلامية، وأن يكون ولاؤه كاملاً للدولة والوطن، وانتماؤه خالصًا للأمة التي هو جزء أصيل فيها، وأن لا يكون ثغرة اختراق لحساب أي من الأعداء.
أيها المؤمنون، عباد الله: حتى في الحرب التي تأكل الأخضر واليابس وتزهق فيها الأرواح وتدمر المدن والقرى ويموت الصغير والكبير؛ أمر الإسلام بالسماحة والعدل وحرّم الظلم، فقد روى مسلم في صحيحه عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: "اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلا تَغُلُّوا، وَلا تَغْدِرُوا، وَلا تَمْثُلُوا، وَلا تَقْتُلُوا وَلِيدًا".
وصاغ أبو بكر الصديق -رضي الله عنه وهو على رأس دولة الخلافة الراشدة- هذه السُّنَّة النبوية: وثيقة أخلاق الحرب التي لم تعرف الدنيا مثلها؛ فقد أوصى يزيد بن أبي سفيان وهو يودعه أميرًا على الجيش الذاهب إلى الشام، فقال له: "إنك ستجد قومًا زعموا أَنَّهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أَنَّهُم حبسوا أنفسهم له. وإني أوصيك بعشر: لا تقتلنَّ امرأة، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هرمًا، ولا تقطعن شجرًا مثمرًا، ولا تخربنَّ عامرًا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرًا إِلاَّ لمأكلة، ولا تحرقن نخلاً، ولا تغرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن". رواه مالك في الموطأ.
وانظروا إلى حروب أوروبا وأمريكا وشرق آسيا في اليابان وكوريا والحرب الصينية والحرب العالمية، ملايين من البشر قتلوا، ومدن ودول محيت من الخريطة، وأسلحة فتاكة لا تفرق بين صغير وكبير ومريض وامرأة وعجوز وشاب ومحارب وغيره.
بل أقيمت المجازر في القرنين السادس عشر والسابع عشر في الحرب الدينية بين الكاثوليك والبروتوستانت بين الأوروبيين أنفسهم التي دامت أكثر من قرنين، ودمرت الحياة بكل معانيها، حيث أبيد فيها أربعون بالمائة من شعوب وسط أوروبا وفق إحصاء "فولتير"، ولقد بلغ ضحاياها عشرة ملايين نصراني!
وفي المقابل؛ دارت الحرب في جزيرة العرب عند بداية الإسلام بين المسلمين والمشركين، وانتصر المسلمون في عشرين موقعة هي التي دار فيها قتال ما بين السنة الثانية والسنة التاسعة للهجرة، هذا الانتصار الذي غيّر وجه الدنيا والحضارة والتاريخ؛ إن ضحايا كل هذه المعارك من الفريقين لم يتجاوز ستة وثمانين وثلاثمائة قتيلاً، ثلاثة وثمانون ومائة هم مجموع شهداء المسلمين، وثلاثة ومائتان هم قتلى المشركين، وعندما حكم الإسلام بعد ذلك لم تقم حرب عالمية أولى ولا ثانية ولا ثالثة. فأي دين أعظم وأرحم من دين الإسلام؟!!
مَلَكْنَا فَكانَ العفْوُ مِنَّا سَجِيَّةً | فلمَّا مَلَكْتُمْ سالَ بِالدَّمِ أَبْطَحُ |
فلا عَجَبًا هذا التفاوتُ بَيْنَنَا | فَـكُلُّ إِناءٍ بالَّذي فيه ينضح |
فاللهم ردنا إلى دينك ردًّا جميلاً. قلت قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عباد الله: فإذا كانت سماحة الإسلام مع غير المسلمين بهذه العظمة والسمو فإن السماحة بين المسلمين أنفسهم يجب أن ترتقي إلى أعلى من ذلك، فالمجتمع المسلم يجب أن يعيش أبناؤه في حب وتسامح وتراحم، وأن يسود حياتهم اللين والسهولة واليسر.
إن العنف والشدة والحقد ودوافع الانتقام والكراهية تنذر بالهلاك؛ فتقطع الأرحام، وتكثر الصراعات، وتنزع الرحمة، ويحل الشقاء، ويذهب الخير بين الناس، وتقوّض مجتمعات بسبب ذلك، وتتلاشى أمم، وتنهار حضارات.
وإِنَّ من طبيعة النفس البشرية بُغض الإنسان غليظ الطباع، قاسي القلب، سريع الغضب؛ فجاء الإسلام بالتيسير والرفق، فكان سمَة عَظِيمَة ظاهرة، تتجلَّى في عقائدِه وعباداتِه ومعاملاتِه وأخلاقِه، وفي الصَّحِيحِ أَنَّهُ مَا خُيِّرَ -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه، وما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه في شيء قط إلا أن تُنتَهَك حُرمةُ الله؛ فينتقم لله -تعالى-. متفقٌ عليه.
ألا فلننشر السماحة والتسامح فيما بيننا، ولنجعل علاقاتنا قائمة على السهولة واليسر في بيعنا وشرائنا واختلافنا وحوارنا وذهابنا وإيابنا؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن كان سهلاً لينًا هينًا حرّمه الله على النار". صحيح الجامع.
وقال: "ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار غدًا!! على كل لين قريب سهل"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى". رواه البخاري.
إن السماحة منهج أمة، ودستور حياة للمسلمين، وليست شعارات جوفاء، وأخلاقًا بعيدة عن الواقع؛ أمر بها الإسلام، ودعا إليها القرآن، وبها سعادة الإنسان، ورضا الرحمن.
ثم اعلموا أن الله -تبارك وتعالى- قال قولاً كريمًا؛ تنبيهًا لكم وتعليمًا، وتشريفًا لقدر نبيّه وتعظيمًا: (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وخلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية الصحابة والقرابة وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وفضلك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل كلمتك العليا إلى يوم الدين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك -يا مولانا- سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا، سخاءً رخاءً، وسائر بلاد المسلمين.
والحمد لله رب العالمين.