الكبير
كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
ولما كان الموت نهاية كل حي؛ شرع الله -سبحانه- للأموات أحكامًا تعرف بأحكام الجنائز، وعلينا تعلمها، فلربما وافقنا محتضرًا. قال ابن القيم رحمه الله: "كَانَ هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَنَائِزِ أَكْمَلَ الْهَدْيِ، مُخَالِفًا لِهَدْيِ سَائِرِ الأُمَمِ، مُشْتَمِلاً عَلَى الإِحْسَانِ إلَى الْمَيّتِ، وَمُعَامَلَتِهِ بِمَا يَنْفَعُهُ فِي قَبْرِهِ وَيَوْمَ مَعَادِهِ، وَعَلَى الْإِحْسَانِ إلَى أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ، وَعَلَى إقَامَةِ ..
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أيها الإخوة: تَذكَّرُوا الموتَ وقربَ نزولِه، واستعدوا له بالأعمال الصالحة والتوبة النصوح من الذنوب، فالموت قد يأتي فجأة، فكم سمعنا عن أناس ماتوا فجأة ودون سبب!! فالواجب علينا أن نستعد له ولما بعده.
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-:
تُؤَمِّلُ في الـدُّنْيا طويلاً ولا تدري | إِذا جَـنَّ لَيْلٌ هَلْ تَعْيشُ إلى الفَجْرِ |
فكم مِنْ صَحِيْحٍ مَاتَ مِنْ غَير عِلَّةٍ | وكم من عليلٍ عاش دهرًا إلى دهر |
وَكَمْ مِنْ فَتىً يُمْسِي وَيُصْـبِحُ آمِنًا | وَقَدْ نُسِجَتْ أَكْفَانُهُ وَهْوَ لاَ يَدْرِي |
ولنعلم -أحبتي- أن نسيان الموت يُقسي القلب، ويرغّب في الدنيا، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أكْثِروا من ذكر هادم اللذات"، يعني الموت. رواه ابن ماجه، والترمذي وحسّنه، وابن حبان وزاد: "فإنه ما ذكره أحدٌ في ضيق إلا وسعه، ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه".
واعلموا أن تذكر الموت يزهد في الدنيا، ويحفز على العمل الصالح، والتوبة، والتخلص من مظالم العباد، وإعطاء الناس حقوقهم.
ولما كان الموت نهاية كل حي؛ شرع الله -سبحانه- للأموات أحكامًا تعرف بأحكام الجنائز، وعلينا تعلمها، فلربما وافقنا محتضرًا.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "كَانَ هَدْيُهُ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْجَنَائِزِ أَكْمَلَ الْهَدْيِ، مُخَالِفًا لِهَدْيِ سَائِرِ الأُمَمِ، مُشْتَمِلاً عَلَى الإِحْسَانِ إلَى الْمَيّتِ، وَمُعَامَلَتِهِ بِمَا يَنْفَعُهُ فِي قَبْرِهِ وَيَوْمَ مَعَادِهِ، وَعَلَى الْإِحْسَانِ إلَى أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ، وَعَلَى إقَامَةِ عُبُودِيّةِ الْحَيّ لِلّهِ وَحْدَهُ فِيمَا يُعَامِلُ بِهِ الْمَيّتَ.
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ فِي الْجَنَائِزِ إقَامَةُ الْعُبُودِيّةِ لِلرّبّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ، وَالْإِحْسَانُ إلَى الْمَيّتِ وَتَجْهِيزُهُ إلَى اللّهِ عَلَى أَحْسَنِ أَحْوَالِهِ وَأَفْضَلِهَا، وَوُقُوفُهُ وَوُقُوفُ أَصْحَابِهِ صُفُوفًا يَحْمَدُونَ اللّهَ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ وَيَسْأَلُونَ لَهُ الْمَغْفِرَةَ وَالرّحْمَةَ وَالتّجَاوُزَ عَنْهُ".
ثم قال: "فَأَوّلُ ذَلِكَ تَعَاهُدُهُ فِي مَرَضِهِ، وَتَذْكِيرُهُ الآخِرَةَ، وَأَمْرُهُ بِالْوَصِيّةِ وَالتّوْبَةِ، وَأَمْرُ مَنْ حَضَرَهُ بِتَلْقِينِهِ شَهَادَةَ أَنْ لا إلَهَ إلّا اللّهُ لِتَكُونَ آخِرَ كَلامِهِ، ثُمّ النّهْيُ عَنْ عادة الأمم التي لا تؤمِنُ بالبعث والنُّشور، مِن لطم الخدُود، وشقِّ الثياب، وحلقِ الرؤوس، ورفع الصوت بالنَّدب، والنِّياحة، وتوابع ذلك". اهـ.
ولعلنا نفصّل بعض ما أوجز -رحمه الله-؛ قال ابن القيم: "ومن هديه أنه يعود من مرض من أصحابه، وكان يدنو من المريض، ويجلس عند رأسه، ويسألُه عن حاله فيقول: كيف تجدك؟! وذكر أنه كان يسأل المريض عما يشتهيه، فيقول: هل تشتهي شيئًا؟! فإذا اشتهى شيئًا وعلم أنه لا يضره أمر له به.
وكَانَ يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى على المريض وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ: أَذْهِب الْبَاسَ، اشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَمًا". أخرجه البخاري.
وكان يدعو للمريض ثلاثًا، كما قاله لسعد: "اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا، اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا، اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا". رواه مسلم. وعند البخاري في رواية أن سعدًا قال: ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِيِ، ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِي وَبَطْنِي، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا، وَأَتْمِمْ لَهُ هِجْرَتَهُ"، فَمَا زِلْتُ أَجِدُ بَرْدَهُ عَلَى كَبِدِي -فِيمَا يُخَالُ إِلَيَّ- حَتَّى السَّاعَة.
وكان إذا دخل على المريض يقول له: "لا بأس، طهورٌ إن شاء الله"، وربما كان يقول: "كفارة وطهور".
وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- عيادة المرضى في أي وقت، ولكن؛ يحسن أن يتحين الزائر الأوقات المناسبة.
وحثّ على زيارة المريض وقال: "مَنْ أَتَى أَخَاهُ الْمُسْلِمَ عَائِدًا، مَشَى فِي خَرَافَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسَ، فَإِذَا جَلَسَ غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ، فَإِنْ كَانَ غُدْوَةً صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ كَانَ مَسَاءً صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ". رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.
أيها الإخوة: عيادة المريض المسلم سنة في حق جميع الناس، ولكن ليس هذا على إطلاقه، فإن تعينت زيارة المريض بأن تكون برًّا أو صلة رحم صارت واجبة؛ لا من أجل المرض، ولكن من أجل القرابة. والله أعلم.
أيها الإخوة: ويسنّ لمن حضر محتضرًا أن يذكره بالتوبة من المعاصي والمظالم، ويؤكد على أن حقوق العباد إن لم يقضها في الدنيا ويتب فسوف تؤخذ من حسناته يوم القيامة.
ويُذكر -كذلك- بالوصية، وأهم شيء يوصى به ما يجب عليه من حقوق الله وحقوق عباده، ومن حقوق الله أن يكون عليه زكاة لم يؤدها أو حج أو كفارة، ومن حقوق الناس الديون، ويشار عليه بالوصية بشيء من ماله لأقاربه غير الوارثين إن كان غنيًّا وورثته أغنياء.
أيها الإخوة: حال المحتضر حال عصيبة لا يعلم مدى شدتها إلا من عاين الموت ونزل به، وقد أصاب رسول الله وهو خير البرية من الشدة والكرب ما لا يطيقه بشر، فقد كان -عليه الصلاة والسلام- في حال النزع يدخل يده في عُلبةٍ ماءٍ بين يديه فيمسح بها وجهه ويقول: "لا إله إلا الله! إن للموت سكرات"، وفي رواية للترمذي كان يقول: "اللهم أعنيِّ على غمرات الموت، وسكرات الموت".
وكانت فاطمة تقول: "واكرب أبتاه!"، فقال لها: "لا كرب على أبيك بعد اليوم".
يقول الله -تعالى-: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق:19]، قال العلماء: سكرة الموت: شدته وغمرته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله.
لذا قال أهل العلم: يسن تعاهدُ بَلِّ حلقه بماء أو شراب، وتُبلُّ شفتاه بقطنة؛ لأجل أن يسهل عليه النطق بالشهادة، وهذا المقام -أيها الإخوة- مقام رأفة بهذا المحتضر هو أحوج ما يكون إليها، وبحاجة لمن يلقنه: لا إله إلا الله.
أسأل الله -بمنه وكرمه- أن يعيننا على غمرة الموت وسكرته، ويوفقنا للنطق بالشهادة في ذلك الموقف المُنْسِي الرهيب.
قال شيخنا محمد بن عثيمين -رحمه الله-: "ينبغي في هذا النظر في حال المريض، فإن كان المريض قويًّا يتحمل، أو كافرًا، فإنه يؤمر فيقال له: قل: لا إله إلا الله، اختم حياتك بلا إله إلا الله، أو ما شابه ذلك؛ وإن كان مسلمًا ضعيفًا فإنه لا يؤمر، وإنما يُذْكَرُ اللهُ عنده حتى يسمع فيتذكر.
ومما يدل على مشروعية التلقين ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لقنوا موتاكم -أي: من حضرته الوفاة- لا إله إلا الله"، والمراد: ذكّروه لا إله إلا الله؛ لتكون آخر كلامه، كما في الحديث: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة"، فإن تكلم المحتضر بغيرها أعاد تلقينه برفق".
أسأل الله لي ولكم الثبات؛ إنه جواد كريم رحيم.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلق، ورزقهم، ولم يتركهم هملاً؛ فأنزل عليهم الكتب، وأرسل إليهم الرسل.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن بهديهم اهتدى، وسلم تسليمًا.
أما بعد:
أيها الإخوة: ساعة الاحتضار لحظة رهيبة ربما يغيب عن الحاضر فيها بعض الأمور المشروعة، لكن؛ على المسلم أن يصبر ويتجلَّد، ويتصرف حسب السُّنَّة.
ومن الأمور التي تشرع لمن حضر الوفاة فعلها بعد أن يسلم الميت الروح إغماض عينيه، فعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أبي سلمة -رضي الله عنه- وقد شَقَّ بصره، أي: شخص، فأغمضَهُ، ثم قال: "إن الروحَ إذا قُبِضَ تبِعَهُ البصر"، فضَجَّ ناسٌ من أهله، فقال رسول الله: "لا تدعوا على أنفسِكُم إلا بخير؛ فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون"، ثم قال: "اللهم اغفرْ لأبي سلمةَ، وارفعْ درجتَهُ في المهديِّين، واخْلُفْهُ في عَقِبِه في الغابِرِين، واغفر لنا وله يا ربَّ العالمين، وافْسَح له في قبره، ونوّر له فيه". رواه مسلم.
وفي إغماض العينين دفع للتشويه الحاصل بسبب بقاء العينين مفتوحتين، وينبغي أن يدعو للميت عند تغميضه بما دعا به رسول الله لأبي سلمة.
ومما يسنّ فعله شدّ لحْيي الميت، فإن الميت إذا مات ربما ينفتح فمه، واللحيان منبت الأسنان، والسنة ربطهما بحبل أو لفافة حتى يبرد الميت، يفعل ذلك درءًا للتشويه الحاصل بتركه.
ومما يشرع كذلك تليين مفاصله، والمقصود مفاصل اليدين والرجلين، وذلك بأن يرد الذراع إلى العضد والعضد إلى الجنب، ويرد الساق إلى الفخذ والفخذ إلى البطن، قبل أن يبرد؛ لأنه إذا برد بقي على ما هو عليه، وصعب تغسيله؛ لكن، إذا لُيِّن سهل تغسيله وتكفينه، وهذا لمصلحة الميت.
وتُخلع ثيابه، ويُسْتَر بثوب، فإن الصحابة لما توفي رسول الله قالوا: هل نجرد رسول الله كما نجرد موتانا؟! ولم يجردوه؛ فينبغي أن تخلع ثيابه ويستر بثوب يكون شاملاً للبدن، فقد سُجِّي رسول الله ببردة حَبِرَة حين توفي، أي: بثوب يماني مخطط.
وينبغي أن يكون الإغماض والتليين وخلع الثياب برفق؛ فالميت محل الرفق والرحمة.
أسأل الله تعالى أن يمن علينا بالعمل الصالح، والعلم النافع، وأن يهوّن علينا الموت وسكراته، وأن يجعل آخر كلامنا لا إله إلا الله...