الصمد
كلمة (الصمد) في اللغة صفة من الفعل (صَمَدَ يصمُدُ) والمصدر منها:...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
ولكن مما يؤسف له ويندى له الجبين، ما يحصل في كثير من بيوت الله تعالى من فوضى وإزعاج، سواء من الأطفال أم من الكبار بفعل ما لا ينبغي في بيوت الله تعالى؛ وهذا من أعظم الأذية. أما إزعاج الكبار داخل...
إن الحمد لله...
أما بعد:
معاشر المؤمنين: اتقوا الله تعالى وراقبوه فيما تأتون وتذرون، فإن عليكم رقيبًا وحسيبًا، وأمامكم موقف عصيب، فأعدوا للموقف أهبته، فكأنكم قد دعيتم والله المستعان.
عباد الله: إن أذية المسلمين من المحرمات، وقد ورد النهي عنها في كتاب الله وسنة رسوله وآثار سلف الأمة، وما ذاك إلا لعظيم خطرها وشناعة جرمها.
والأذية على المسلمين محرمة بكل صورها، ويعظم خطرها إذا كانت في بقاع الطاعة في بيوت الله تعالى، وهذا ما سنفرد له هذه الخطبة المباركة التي نسأل الله تعالى أن يجعل لها آذانًا سامعة و قلوبًا واعية.
يقول الله -جل وعلا-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً).
ولقد حرص الشارع على قطع كل ما من شأنه إيصال الأذية إلى المسلم، ومن ذلك النهي عن النجوى التي يخاف منها إحداث أذية للغير، فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج رجلان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس، فإن ذلك يحزنه".
حتى ولو كان الأمر من المهمات للمسلم ولكنه قد يؤذي المسلم، فإنه ينهى عنه حتى تزول الأذية، فمن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم و الجلوس على الطرقات؛ فإن أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر".
بل أعظم من ذلك أن الشارع الحكيم رتب حصول الأجر لمن كان داخل المسجد على عدم إيذاء الآخرين؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "فإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه، وتصلي الملائكة عليه ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه، يقولون: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم تب عليه، ما لم يؤذ فيه أو يحدث فيه".
بل أعظم من ذلك أن الأذية للمسلمين قد تحبط العمل أو تكون مانعًا من القبول؛ فقد أخرج الإمام أحمد من حديث أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسول الله: إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: "هي في النار"، قال: يا رسول الله: فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها، وإنها تصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها بلسانها، قال: "هي في الجنة".
أيها المؤمنون: إن مما ينبغي الحذر منه أن يكون الرجل مؤذيًا لرجل من الصالحين من أولياء الله الذين من آذاهم فقد حارب الله تعالى، فقد أخرج البخاري من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب".
بهذا كله يتبين عظم الإثم الذي يرتكبه المسلم في أذيته للمسلمين، ولكن مما يؤسف له ويندى له الجبين، ما يحصل في كثير من بيوت الله تعالى من فوضى وإزعاج، سواء من الأطفال أم من الكبار بفعل ما لا ينبغي في بيوت الله تعالى؛ وهذا من أعظم الأذية. أما إزعاج الكبار داخل بيوت الله فهو من جهات كثيرة منها:
التحدث بصوت مرتفع بين الأذان والإقامة؛ ما يؤدي إلى التشويش على المصلين والتالين للقرآن، ومن المعلوم لدى الجميع أن إزعاج الآخرين بقراءة القرآن لا يجوز، فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي موسى قال: كنا في سفر، فكان الصحابة يرفعون أصواتهم بالذكر، فقال -صلى الله عليه وسلم-: يا أيها الناس: اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم.
فهذا في الذكر، فكيف بمن يزعج بشيء مباح!! بل ربما بمحرم والعياذ بالله.
ومن صور الإزعاج: ترك أجهزة النداء والجوال تعمل بصوت أثناء الصلاة، ويزداد الخطر إذا كان الصوت المنبعث من الجهاز صوتَ موسيقى، بل ربما نغمة معلومة لدى مستمعي الغناء، وهذا أمر خطير من جهتين: الأولى من جهة التحريم، والأخرى من جهة أذية المسلمين أثناء أدائهم للعبادة، ويكمن الخطر في أن المصلين ربما دعوا عليه، وقد أخبرني بعض المصلين أنه يدعو على ذلك الشخص الذين يصدر من جهازه الصوت، يدعو عليه وهو في الصلاة، بل في السجود، والله تعالى يقول: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً).
ومن صور الإزعاج: إزعاج الكبار للمصلين باختلافهم على فتح أجهزة التكييف والمراوح داخل المسجد، فما أن يبدأ الوقت في التحول من فصل إلى فصل ويطرأ انخفاض أو زيادة في درجات الحرارة إلا ويبدأ الخلاف والعبث بأجهزة المسجد، ولربما زاد الأمر حتى تحصل النفرة والفرقة وهجران المساجد من جراء ذلك، والواجب على الجميع أن يتسامحوا فيما بينهم ويتنازل كل واحد منهم عن بعض رغباته، فالمسجد بيت الله، وليس لأحد أن يفرض على أحد رأيه، وتقارب وجهات النظر مطلوب؛ خصوصًا أن المتضرر الأول ومن تلقى عليه التبعات ويصب عليه جام الغضب هم الإمام والمؤذن وخادم المسجد، فتصادم الرغبات من جماعة المسجد يجعلهم في حيرة، وإرضاء جميع الرغبات يتعذر بل يستحيل، فعلى الجميع أن يتحلوا بالحلم وضبط النفس والصبر على الأذية. والله المستعان.
ومن صور الإزعاج: الإزعاج الحاصل للمصلين من بعض الإخوة هداهم الله فيما ينبعث منهم من روائح تزعج المصلين كأمثال:
أكل ما له رائحة كريهة كالثوم والبصل والكراث ونحوها، والنهي عن ذلك معلوم؛ فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث جابر -رضي الله عنهما- قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "من أكل من هذه البقلة: الثوم والبصل والكراث فلا يقربنا في مساجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم".
ومنها: الدخان، ولا يخفى على أي عاقل تحريم شرب الدخان، والأدلة في ذلك كثيرة معلومة، وإذا كان يمنع من الصلاة من أكل من شجرتين مباحٌ الأكل منهما في غير أوقات الصلاة فكيف بمن يتعاطى المحرم المؤذي برائحته!!
ومن صور الإزعاج: الروائح الكريهة المنبعثة من جسم الإنسان، وذلك لبعد الإنسان عن النظافة، أو مرض كالبخر -رائحة الفم-، فهذا مما يزعج الناس، وصاحبه كذلك أولى بالمنع من غيره.
هذا فيض من غيض، وهي أمارات يستدل بها على غيرها من جنسها أو أعظم منها. والله -جل وعلا- يقول: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)، ومن الزينة المطلوبة طيب الرائحة.
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا...
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين...
أما بعد:
عباد الله: إذا كان الإزعاج في المساجد ينبعث من الكبار فلا لائمة على الأطفال؛ ولكن لابد من بيانٍ لبعض الأعمال التي تصدر منهم ليتنبه وليه لذلك ويسعى في قطع تلك الأذية؛ ذلك أن اللائمة تعود على الأهل لا على الأطفال، فالتربية أصل في هذا، فما صدر هذا إلا من ضعف التربية، كما أن إهمال الأطفال وعدم مراقبتهم، هي من أعظم الأسباب المؤدية إلى هذا الإزعاج، ولربما يكون الأب يعلم بذلك أو على أقل تقدير أنه موجود داخل المسجد.
ومما يُعلم أن الإزعاج يزداد ويعظم خطره في شهر رمضان، حتى إن بعض الأئمة اضطر إلى استئجار من يقوم بالمراقبة داخل المسجد وطرد الأطفال ونهيهم عن اللعب داخل المسجد، وحتى لا يغيب الذهن عن هذه المسألة أو يتهاون بها فإن الإثم الناتج من ذلك الإزعاج يعود على ولي الأمر المهمل، وذلك مبني على ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر -رضي االله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
فالواجب على الرعاة أن يقوموا بتربية أولادهم على تعظيم المسجد ومعرفة حقه، ومن ذلك أن لا يحضر الولي ابنه للمسجد حتى يبلغ سن التمييز، وهو بلوغ السنة السابعة في الغالب، إلا أن يضطر لذلك، كما ينبغي له إذا ذهب به إلى المسجد أن يجعله بجواره، لا كما يفعل بعض الآباء -هداهم الله- من إهمالهم داخل المسجد، وذلك ليأمن من لعبه وكذلك ليتعلم كيفية الصلاة عمليًّا.
وختامًا لا يخفى على الجميع أن الإزعاج في المساجد من المظاهر التي تنفّر البعض من حضور الصلاة، فلينتبه كل مسلم أن يكون من المنفرين عن طاعة الله.
ولنحرص أن نجعل مساجدنا كما كانت في زمن النبوة مدرسةً ومعهدًا ومركزًا ينطلق منه العلماء والمجاهدون وغيرهم، بل هو المكان الآمن الذي يطمئن فيه الخائف؛ ولنصن مساجدنا كما قال بعض السلف: إن المساجد يجب أن تصان مما تصان منه العين.
وليسع المسلم في تعويد نفسه الحلم والصفح عن الآخرين، والحرص التام على قطع كل العادات التي من شأنها إنتاج الأذية على الآخرين، فإنما المسلمون إخوة، والأخوة توجب على المسلم أن لا يؤذي أخاه.
قال الربيع بن خثيم: "الناس رجلان: مؤمن فلا تؤذه، وجاهل فلا تجاهله".
وقال يحيى بن معاذ الرازي: "ليكن حظ المؤمن منك ثلاثة: إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه".
وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: "اجعل كبير المسلمين عندك أبًا، وصغيرهم ابنًا، وأوسطهم أخًا، فأي أولئك تحب أن تسيء إليه".
وقال ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنّاً وَلا أَذًى): قوله: (وَلا أَذًى) أي لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروهًا يحبطون به ما سلف من الإحسان.
وقال ابن رجب: "تضمنت النصوص أن المسلم لا يحل إيصال الأذى إليه بأي وجه من الوجوه من قول أو فعل بغير حق".
عباد الله: إن ما ذكر في ثنايا هذه الخطبة لا يقصد به مسجد بعينه، بل إن ذلك هو واقع أغلب المساجد اليوم إن لم يكن كلها إلا ما رحم ربي، والواجب على المسلمين جميعًا أن يتعاونوا فيما فيه صلاحهم، وأن يأتمروا بينهم بالمعروف ويتناهوا عن المنكر كما أمرهم الله بذلك في كتابه: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، وألف بين قلوبهم، واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور يا أرحم الراحمين.
اللهم فرج عن المستضعفين...