المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | عبدالرحمن بن فهد الودعان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصيام |
يقول بعض السلف: إن مِن علامة قَبول الحسنةِ الحسنةُ بعدها، ومِن علامة قَبول العمل إتباعه بعمل صالحٍ مثلِه. ويقول بعضهم: الحسَنة تقولُ: أُخْتِي أُخْتِي! والسيئةُ تقولُ: أُخْتِي أُخْتِي! يعني أن العمل الصالح بعضُه يدعو إلى بعض، كما أن العملَ السيءَ بعضُه يدعو إلى بعض؛ ولذلك تقرر عند السلف -رحمهم الله تعالى- وفي عقائدهم النقية أن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: عباد الله، يقول الله تعالى: (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا) [الشورى:23]، أي: ومن يعمل حسنة نؤته أجرا وثوابا، قال بعض السلف كسعيد بن جبير وغيره: إن من ثواب الحسنةِ الحسنةُ بعدَها، ومن جزاء السيئةِ السيئةُ بعدها.
وعن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قالت: سُئِلَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إلى اللَّهِ؟ قال: "أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ" رواه البخاري.
ويحدثنا أبو هريرة -رضي الله عنه- فيقول: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ قال: مَنْ عَادَى لي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إليَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إليَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عليهِ، ومَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إليَّ بِالنَّوَافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذَا أَحْبَبْتُهُ كنتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ التي يَبْطِشُ بها، وَرِجْلَهُ التي يَمْشِي بها، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، ومَا تَرَدَّدْتُ عن شَيْءٍ أنا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وأنا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ" رواه البخاري.
عباد الله: هذه النصوص الشرعية تدل على فضل المداومة على الأعمال الصالحة.
عباد الله: لقد تعوَّدنا على صلاة الليل في رمضان، وصلاة الوتر. فهل ندعها بعد رمضان؟ لا، لا ينبغي أن ندعها؛ بل ينبغي لنا أن نحافظ عليها دائما؛ فإنها لا تختص برمضان.
يا عبد الله: صَلِّ مِن الليل ما تيسَّرَ لك ولو القليل، فأَحبُّ العمل إلى الله أدومُهُ وإن قَلَّ، إذا خشيت ترك صلاة الليل والوِتر فصلِّها بعد العشاء مباشرة، صلِّ ركعتين بعد السنة الراتبة، أو أربع ركعات مثنى مثنى، أو أكثر من ذلك، ثم أوتر، ولا تدع الوتر؛ فإن الله تعالى يحبه، فعن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أهل القرآن أوتروا؛ فإن الله وتر يحب الوتر" رواه أبو داود والترمذي وحسَّنَهُ.
وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قال: سَأَلَ رَجُلٌ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وهو على الْمِنْبَرِ: ما تَرَى في صَلاةِ اللَّيْلِ؟ قال: "مَثْنَى مَثْنَى، فإذا خَشِيَ الصُّبْحَ صلَّى وَاحِدَةً فَأَوْتَرَتْ له ما صلَّى"، وَإِنَّهُ كان يقول: "اجْعَلُوا آخِرَ صَلاتِكُمْ وِتْرًا؛ فإن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِهِ" متفق عليه.
والوتر ركعة تُصلَّى مِن الليل، وليس من شرط الوتر أن يُدعى فيه بدعاء القنوت: "اللهم اهدنا فيمن هديت..."؛ بل هو هذه الركعة، دعا أو لم يدع، فإن بعض الناس يترك صلاة الوتر لأنه لا يحفظ هذا الدعاء، وهو ليس بلازم، بل ليس من السنة المحافظة عليه، وإنما يُفعَل أحيانا ويترك أحيانا أخرى.
عباد الله: لقد تَعوَّدْنَا على قراءة القرآن فهل ندعه بعد رمضان؟ هل نترك قراءته حتى ندخل فيمن اشتكى منهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنهم يهجرون القرآن الكريم : (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) [الفرقان:30]، لا، لا ينبغي، لا ينبغي لنا هجرُه بعد رمضان؛ بل ينبغي لنا أن نحافظ على قراءته دائما؛ فإنه لا يختص برمضان.
يا عبد الله: هل تعجز عن وضع دقيقة أو دقيقتين أو ثلاث تقرأ فيها شيئا من القرآن الكريم؟ لعلك تضيع كثيرا من وقتك تقرأ فيه المجلات والجرائد وتتصفح الانترنت، فهل يثقل عليك عدة دقائق تجعلها لزيادة إيمانك وزيادة قربك من الله تعالى، تقرأ فيها كلام ربك، يطمئن بها قلبك، وينشرح صدرك، لا والله لا يعجز أحد عن ذلك! ولكنه الشيطان يثقلنا ويصدنا عن تحقيق ذلك.
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: مَن أحب أن يعلم أنه يحب الله ورسولَه فلينظر، فإن كان يحبُّ القرآن فإنه يحب الله ورسولَه. رواه البيهقي في الشُّعَبِ.
وقال خبَّاب بن الأرتِّ -رضي الله عنه- لفروة بن نوفل: إن استطعتَ أن تَقَرَّبَ إلى الله فإنك لا تَقَرَّبُ إليه بشيء أحَبُّ إليه من كلامه. رواه ابن أبي شيبة، والحاكم، وصححه، البيهقي.
وعن عبد اللَّهِ بن عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال له: "اقْرَأ الْقُرْآنَ في أَرْبَعِينَ" رواه الترمذي، وقال: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وحسَّنه الألباني. قال إسحاق بن راهُويَهْ: ولا نُحِبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْتِيَ عليه أَكْثَرُ من أَرْبَعِينَ ولم يَقْرَأْ الْقُرْآنَ لهذا الحديث الذي رُوِيَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، يعني أن أكثر مدة لختم القرآن عند بعض السلف هي هذه المدة.
عباد الله: ليكن لكل منا ورد يومي يقرأ من كتاب الله تعالى كما كان السلف يفعلون، فمنهم مَن يختم في ثلاثة أيام، ومنهم من يختم في سبعة أيام، ومنهم من يختم في شهر، المهم أن تحافظ على وردك من كتاب الله تعالى حتى لا تدخل فيمن هجر القرآن الكريم، فتبدأ اليوم عازما على ذلك، ثم لتحرص على الاستمرار عليه.
ومَن استعان بالله أعانه، ومن توكل على الله وفَّقه الله، والخير يسير، ومن عوَّدَ نفسه عليه اعتاده؛ فإن الخير عادة، فعن مُعَاوِيَةَ بن أبي سُفْيَانَ -رضي الله عنهما- أن رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْخَيْرُ عَادَةٌ، وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ، وَمَنْ يُرِدْ الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ" رواه ابن ماجه وصححه ابن حبان وحسَّنه الألباني.
عباد الله: لقد تَعوَّدْنَا على صلاة الفجر، فهل نتركها بعد رمضان؟ لا، لا يجوز تركها مع الجماعة في بيوت الله تعالى، استمع أيها المؤمن إلى البشارة لرجال الفجر، يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "بشِّر المشَّائين في الظُّلَم إلى المساجد بالنور التامِّ يوم القيامة" رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، إنها بشارة لرجال الفجر من الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى، في يوم يحتاج المرء فيه إلى النور: (نورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التحريم:8].
وأما جنسٌ آخرُ مِن الناس تهاونوا بهذه الصلاة فأغفلوها ولم يبالوا متى صلَّوها فقد استهان بهم عدوهم فبال في آذانهم احتقارا لهم بسبب ما ضيعوا على أنفسهم من الخير الكثير بترك صلاة الفجر، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: ذُكِرَ عندَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ نام ليلةً حتى أصبح. قال: "ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه"، أو قال "في أذنه" متفق عليه.
عباد الله: لقد تَعوَّدْنَا على الصدقة فلنحرص على الصدقة في غير رمضان ولو بالقليل: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:261].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
عباد الله: يقول بعض السلف: إن مِن علامة قَبول الحسنةِ الحسنةُ بعدها، ومِن علامة قَبول العمل إتباعه بعمل صالحٍ مثلِه. ويقول بعضهم: الحسَنة تقولُ: أُخْتِي أُخْتِي! والسيئةُ تقولُ: أُخْتِي أُخْتِي! يعني أن العمل الصالح بعضُه يدعو إلى بعض، كما أن العملَ السيءَ بعضُه يدعو إلى بعض؛ ولذلك تقرر عند السلف -رحمهم الله تعالى- وفي عقائدهم النقية أن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
ومن ذلك -أيها الأحباب الكرام- ما شرعه الله تعالى بعد صيام شهر القرآن من مشروعية إتباعه بصيام الست من شوال، فصيام الست مِن شوال كالسُّنة الراتبة لرمضان، كما هي السنن الرواتب للصلوات المفروضات، فعن أبي أيوبَ الأنصاريِّ -رضي الله عنه- أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالَ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ" رواه مسلم.
فليكن حرصنا كبيرا على صيامها، وليكن حرصنا كبيرا على حثِّ أزواجنا وأولادنا وإخواننا وأصحابنا على صيامها؛ ليَتِمَّ لكلٍّ منا بفضل الله تعالى فضل صيام عام كامل، ومن ثَمَّ بالمحافظة عليها يتم لك فضل صيام الدهر، وذلك مِن واسع فضل الله ورحمته بهذه الأمة الشريفة، أمةِ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، حيث أوسع لها العطاء والجزاء وإن قلَّ العمل؛ فالحسنة بعشر أمثالها إلى مئة ضعف إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، (وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:261].
وليعلم هنا أمور: الأمر الأول: أنه لا يتم هذا الفضل إلا لمن بادر بقضاء ما فاته من رمضان أولا ثم أتبعه بست من شوال، فعلى من كان قد أفطر في رمضان بسفر أو غيره، أو المرأة بحيض أو غيره، فليبدأ بقضاء رمضان أولا، ثم يصوم الست من شوال.
الأمر الثاني: يتوهم بعض الناس أن مَن صامها عامًا لزمته كلَّ عام؛ فلذلك يتقاعس عن صيامها حتى لا تجب عليه بعد ذلك؛ وهذا باطل لا أعلم يقوله أحد من أهل العلم، وليس عليه دليل ولا أثَارة من علم؛ وإنما هذا قول فاسدٌ نفَثَهُ الشيطان في بعض الأذهان وأشاعه بعض الناس الجاهلين من غير مراجعة لأهل العلم؛ ليقعدهم الشيطان بذلك عن هذه السُّنة المباركة.
الأمر الثالث: كلُّ شوالَ موضع لصيام هذه الست، سواء صامها متفرقة أم متتابعة من أوله أم من آخره، فالأمر في هذا واسع، والمبادرة بالعمل الصالح أفضل دائما، ولا يكره صيام ثاني العيد ولا غيره من أيام شوال.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين...
اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.