الحفي
كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
ها قد أقبل شهر الصوم، وضرب خباءه في مرابعكم، جاء رمضان بما فيه من الرحمات والنفحات والغفران، جاء رمضان وكم من مؤمل أن يصومه فخانه أمله!! فصار قبله إلى ظلمة القبر، وكم من مستقبل يومًا لا يستكمله، ومؤمل غدًا لا يدركه، إنكم لو أبصرتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الملك القهار، العزيز الجبار، الرحيم الغفار، مقلب القلوب والأبصار، ومكور الليل على النهار، خلق الشمس والقمر يجريان بحسبان ومقدار، وجعلهما معالم يعلم بهما أوقات الليالي والأيام والشهور والأعوام في هذه الدار، ويُهتدى بهما إلى ميقات الصلاة والزكاة والحج والصيام والإفطار، أحمده وحلاوة محامده تزداد مع التكرار، وأشكره وفضله على من شكر مدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تبرئ القلب من الشرك بصحة الإقرار، وتبوئ قائلها دار القرار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، البدر جبينه إذا سُرّ استنار، واليم يمينه فإذا سئل أعطى عطاء من لا يخشى الإقتار، والحنيفية دينه القيم المختار، رفع الله ببعثته عن أمته الأغلال والآصار، وكشف بدعوته أذى البصائر وقذى الأبصار، وفرق بشريعته بين المتقين والفجار، حتى امتاز أهل اليمين من أهل اليسار، صلى الله عليه وعلى آله أولي الأقدام والأقدار، وعلى أصحابه الطيبين الأطهار، صلاة تبلغهم إلى نهاية الأوطار وسلم تسليمًا.
أما بعد:
عباد الله: ها قد أقبل شهر الصوم، وضرب خباءه في مرابعكم، جاء رمضان بما فيه من الرحمات والنفحات والغفران، جاء رمضان وكم من مؤمل أن يصومه فخانه أمله!! فصار قبله إلى ظلمة القبر، وكم من مستقبل يومًا لا يستكمله، ومؤمل غدًا لا يدركه، إنكم لو أبصرتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره.
يا من طالت غيبته عنا قد قربت أيام المصالحة، يا من دامت خسارته قد أقبلت أيام التجارة الرابحة، من لم يزع في هذا الشهر ففي أي وقت يزع، من لم يقرب فيه من مولاه فهو على بعده لا يبرح.
إذا رمضان أتى مقبلاً | فأقبل فبالخير يستقبل |
لعلك تخطئة قـابـلاً | وتأتي بعذر فلا يقبل |
أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه يقول: "قد جاء شهر رمضان، شهر مبارك، كتب الله عليكم صيامه، فيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم"، قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضًا بشهر رمضان.
عباد الله: كيف لا يُبشر المذنب بغلق أبواب النيران، كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان، كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل في الشيطان، من أين يشبه هذا الزمان زمان؟! لهذا كله كان لزامًا عليك -يا عبد الله- أن تجهد نفسك في هذا الشهر، وأن تتعبها في الأعمال الصالحة، وأن تنخلع من الذنوب والمعاصي كلها، وأن تتبرأ منها وتعزم على عدم الرجوع إليها، ليكن هذا الشهر العظيم الصفحة الجديدة في حياتك، صفحة بيضاء نقية، تطمس على سائر ذنوبك وسيئاتك. فاحمد الله الذي بلغك رمضان ووفقك للتوبة النصوح، فكفى ذنوبًا وعصيانًا، فهذا شهر طاعة فقط، وأيامه قصيرة وزمنه يسير.
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب | حتى عصى ربه في شهر شعبان |
لقـد أظلـك شهر الصوم بعدهما | فلا تصـيره أيضًا شهر عصيان |
واتل القرآن وسبـح فـيه مجتهدًا | فإنـه شـهر تسـبيحٍ وقـرآن |
فاحمل على جسـدٍ ترجو النجاة له | فسوف تضرم أجسـادٌ بنيران |
كم كنت تعرف ممن صام في سلف | من بين أهـل وجيران وإخوان |
أفناهم المـوت واستبـقاك بعدهمُ | حيًّا فما أقرب القاصي من الداني |
أيها المؤمنون: اعلموا أنه قد هبّت اليوم على القلوب نفحة من نفحات نسيم القرب، وسعى سمّار المواعظ للمهجورين في الصلح، ووصلت البشارة للمنقطعين بالوصل، وللمذنبين بالعفو، والمستوجبين النار بالعتق.
لما سُلسل الشيطان في شهر رمضان، وخمدت نيرات الشهوات بالصيام، انعزل سلطان الهوى، وصارت الدولة لحاكم العقل بالعدل، فلم يبق للعاصي عذر، فيا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، ويا شموس التقوى والإيمان اطلعي، ويا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي، ويا قلوب الصائمين اخشعي، ويا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي، ويا عيون المتهجدين لا تهجعي، ويا ذنوب التائبين لا ترجعي، قد مدت في هذه الأيام موائد الإنعام للصوام، فما منكم إلا من دُعي: (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ) [الأحقاف: 31]، ويا همم المؤمنين أسرعي، فطوبى لمن أجاب فأصاب، وويلٌ لمن طرد عن الباب وما دُعي.
ليت شعري إن جئتهم يقبلوني | أم تراهم عن بابهم يصرفوني |
أم تـراني إذا وقفأت لديهـم | يأذنوا بالدخول أم يطردوني |
عباد الله: إياكم وطاعة النفس الأمارة بالسوء، فإن الفرصة حانت والعمر قصير، والصفقة طالبوها كثير. روّض نفسك على أن تكون في عداد الفائزين، فلعمري لقد سبقت بمضمار طويل. قال بعض السلف: بلغنا أنه يوضع للصوام مائدة يأكلون عليها والناس في الحساب، فيقولون: يا رب: نحن نحاسب وهم يأكلون، فيقال: إنهم طالما صاموا وأفطرتم، وقاموا ونمتم.
رأى بعضهم بشر بن الحارث في المنام وبين يديه مائدة يأكل منها ويقال له: كل يا من لم يأكل، واشرب يا من لم يشرب.
كان بعض الصالحين كثير التهجد والصيام، فصلى ليلةً في المسجد ودعا، فغلبته عيناه فرأى في منامه جماعة علم أنهم ليسوا من الآدميين، بأيديهم أطباق عليها أرغفة ببياض الثلج، نوق كل رغيف درٌ كأمثال الرمان، فقالوا: كل، فقال: إني أريد أن أصوم، قالوا له: يأمرك صاحب هذا البيت أن تأكل، قال: فأكلت وجعلت أخذُ ذلك الدر لأحتمله، فقالوا له: دعه نغرسه لك شجرًا ينبت لك خيرًا من هذا، قال: أين؟! قالوا: في دار لا تخرب، وثمر لا يتغير، وملك لا ينقطع، وثياب لا تبلى، فيها رضوى وعينا، وقرة أعين، أزواجٌ رضيات مرضيات راضيات لا يغرن ولا يُغرن، فعليك بالانكماش فيما أنت، فإنما هي غفوة حتى ترتحل فتنزل الدار، فما مكث بعد هذه الرؤيا إلا جمعتين حتى توفي، فرآه ليلة وفاته في المنام بعض أصحابه الذين حدثهم برؤياه وهو يقول: لا تعجب من شجر غرس لي في يوم حدثتك وقد حمل. فقال له: ما حمل؟! قال: لا تسأل، لا يقدر أحد على صفته.
عباد الله: لم يُر مثل الكريم إذا حل به مطيع، يا قوم: ألا خاطبٌ في هذا الشهر إلى الرحمن، ألا راغب فيما أعده الله للطائعين في الجنان، ألا طالب لما أخبر به من النعيم المقيم مع أنه ليس الخبر كالعيان.
من يرد ملك الجنانِ | فلـيدع عنـه التـواني |
وليقم في ظلمة اللـ | ـيل إلى نـور القرآن |
وليصل صومًا بصوم | إن هـذا العيـش فاني |
إنما العيش جوار اللـ | ـه فـي دار الأمـاني |
أيها المؤمنون: لم يُرَ مثل هذه الأيام، فيها تسابق المتسابقون، وفيها فرّط المسرفون، فكن -يا عبد الله- من السباقين للخيرات، فعما قليل تتصرم هذه الأيام فيفرح الفائزون، ويعض على أصابع الندم المفرطون: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].
اللهم أهلّ علينا شهر رمضان بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، واغفر لنا كل قبيح سلف وكان.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي فضل شهر رمضان على سائر الشهور، واختصه من بينها لإنزال القرآن، وفريضة الصيام، وجعله أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام، ومكفرًا للذنوب والآثام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلاّم القدوس السلام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أفضل من صلّى وصام، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وقدوة للسالكين، وحجة على الخلائق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
عباد الله: ها قد انقضى يوم من رمضان، وغدًا يقال: لم يبق منه إلا يوم، فيا من ضيع عمره في غير الطاعة، يا من فرط في شهره بل في دهره وأضاعه، يا من بضاعته التسويف والتفريط وبئست البضاعة، يا من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان، كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة، ويل لمن شفعاؤه خصماؤه، والصور في يوم القيامة ينفخ، رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، وقائم حظه من قيامه السهر، كل قيام لا ينهى عن الفحشاء والمنكر لا يزيد صاحبه إلا بعدًا، وكل صيام لا يصان عن قول الزور والعمل به لا يورث صاحبه إلا مقتًا وردًّا، يا قوم: أين آثار الصيام، أين أنوار القيام؟!
هذا -عباد الله- شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وهذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهركم ويسمع، وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعًا يتصدع، ومع هذا فلا قلبٌ يخشع ولا عينٌ تدمع، ولا صيامٌ يصان عن الحرام فينفع، ولا قيام استقام فيرجى في صاحبه أن يشفع.
قلوب خلت عن التقوى فهي خراب بلقع، وتراكمت عليها ظلمة الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع، كم تتلى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، وكم يتوالي علينا شهر رمضان وحالنا منه كحال أهل الشقوة، لا لشاب منا ينتهي عن الصبوة، ولا لشيخ ينزجر عن القبيح فيلتحق بالصفوة، أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة؟! وإذا تليت عليهم آيات الله جلت قلوبهم جلوة؟! وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع والأبصار أفما لنا فيهم أسوة؟! كم بيننا وبينهم من الفجوة؟! كلما حسنت منا الأقوال ساءت الأعمال، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله.
يا نفس فاز الصالحون بالتقى | وأبصروا الحق وقلبي قد عمي |
يا حسنهم والليل قد جنهمُ | ونورهم يفـوق نـور الأنجمِ |
ترنموا بالذكـر في ليـلهمُ | فعيشهم قـد طـاب بالتـرنمِ |
قلوبهم بالذكـر قد تفرغت | دموعهـم كلـؤلؤٍ منتظـمِ |
أسحارهم بهم لهم قد أشرقت | وخلع الغفران خير القـسمِ |
ويحـك يـا نفس ألا تيقُّظٌ | ينفـع قبـل أن تـزل قدمي |
مضى الزمان في ثوانٍ وهوى | فاستدركي ما قد بقي واغتنمي |
عباد الله: طرق الثواب في هذه الأيام كثيرة معلومة، من صيام وصلاة، وصدقة وذكر، وأعمال بر وقراءة للقرآن وغيرها كثير، فأروا الله من أنفسكم خيرًا، ولا يكن يوم فطركم ويوم صومكم سواءً، فإذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك وجميع جوارحك عما حرم مولاك.
اللهم تقبّل منا الصيام والقيام، اللهم كما بلغتنا رمضان فأتم علينا نعمتك بصيامه وقيامه على ما يرضيك، اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم وفقنا لاغتنام الصالحات، واجعلنا في هذا الشهر الكريم من المفلحين المقبولين، اللهم أدم علينا أمننا واحفظ علينا ديننا، ووفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، اللهم ارزقه البطانة الصالحة، التــي تدله على الخير وتعينه عليه، وجنبه بطانة السوء يا رب العالمين.