الوكيل
كلمة (الوكيل) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (مفعول) أي:...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن إبراهيم العليان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصيام |
ما خُذِلَ الأشقياء، وما طُرد البعداء إلا بقلة المجاهدة، واتباعهم لذاتِهم العاجلة، وودعِهم مرارة الاصطبار... عجيبٌ ذلكم الصبر، الذي يحمل النفس على ترك ما اعتادته على حبه، وتجنبِ الطيب مع قربه، والذي هو حبسُ النفس عن الضجر مما تجده من ألم وجَهد، حتى تسموَ إلى اللذة والرضا. صبرٌ عظيم، قائده القناعةُ التامة، والعزيمةُ الصادقة، قناعةٌ بتأكُّد الفعل، وعظمِ الأجر، وشدة العقاب على الترك، وعزيمةٌ لا مثنويةَ فيها، تقطع على النفس الطمعَ في التردد، ويرى المؤمن حينها كيدَ الشطانِ ضعيفا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، مقلبِ الليل والنهار، عبرةً لأولي الألباب، وتذكرةً لمن يريد، أحمده حمد عبد عرفه ووحده، وهو الوليّ الحميد، وأشكره على نعمائه، وقد تأذن لمن شكر بالمزيد.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك، شهادةَ معترفٍ بهدايته، فقيرٍ إلى كفايته، وهو الغنيُّ المجيد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خيرُ من اجتهد في مواسم المضاعفة، وأهدى من تبتل إلى ربه تبتيلا، حتى أتاه اليقين من ربه، الذي هو على كل شيء شهيد، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه ذوي العمل الرضي، والقول السديد، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الخلود..
أما بعد: فيا أيها المؤمنون بربٍّ يحيي ويميت وهو حي لا يموت: اتقوه رحمكم الله؛ فهو الموجب عليكم تقواه، وهو الذي كتب عليكم طاعته، إلى أن تقوم على كلٍّ قيامتُه، وهو الذي لا يرد سائلا، ولا يظلم عاملا، ولا يضيع أجر المؤمنين، فمن اتقاه لزم طاعته في كل حين، وحَذِرَ ما حرمه إلى أن يأتيَه اليقين، المتقي حقا هو الذي يخشى عاقبةَ أن يخلفَ ربَّه ما وعده، ويلزمُ توبتَه النصوح، ولا ينكثُ ما عاهده.. اللهم ألزمنا كلمة التقوى، واجعلنا أهلها ما حيينا إلى أن نلقاك، إنك أهل التقوى وأهل المغفرة...
تسعة وعشرون يوما عدةُ صومكم، في شهركم الذي من الله به عليكم: شهرِ رمضان المبارك، وقد مضى بما فيه، رفعت الأقلام، وجفت الصحف..
وإذا كان أكرمُ من أعطى -تبارك وتعالى- عند ظن عبده به؛ فإننا نظن أنه -سبحانه- قد تقبّل منا ما وفقنا وهدانا إليه، وتجاوز عن تقصيرنا فيه، وغفر لنا، وأجاب دعواتنا..
ولكن أليس من الخسران يا أهل الإيمان أن يمضيَ شهرٌ قد عرفتم شأنَه؛ دون أن نستنطقه ما دام منا غيرَ بعيد؛ ليحدثَنا عن هداياته ودروسه، كي يستنسخَها كلٌّ في رُوعِه، وإن نحن لم نفعل فأي أثر لتلكم المدرسةِ علينا عبادةً وأخلاقا وسلوكا سائر دهرنا؟!
فأولى تلكم الهدايات الرمضانية: تتمثل في التربية الحقة على استحضار جانب التقوى ومراقبة الله -جلّ جلاله-، فهي الغاية من تشريع الصيام، فمن لم يتقِ أنَّى يصوم؟! وأنى يحبس نفسه عما ألفه من الطيبات كان أو سواها؟!
يغذِّي إيمانه بمراقبة الله كلما حدثته نفسه بانتهاك فريضة الصيام أو تلويثِها، يجوع ويظمأ فلا يحتال على ما أوجب الله عليه بسفر حيلة؛ إذ لا يخالجه شك أن الله يعلم السر وأخفى؛ يمتنع عن الطيب الحلال في ذاته من مشرب وملبس ومنكح، فهيهات أن يأتيَ ما حرم اللهُ منها.. ولربما مع كثرة مراقبته أكرمه مولاه، فعَبَدَهُ كأنه يراه، وذاكم هو الإحسان، وفضلُ الله يؤتيه من يشاء.
ومن معين التقوى نستعذب درسا آخر: ألا وهو الإرادة الصادقة، ألا إنها الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، والصبر على إيذاء الناس، الصبر.. الجواد الذي لا يكبو، والصارم الذي لا ينبو، والحصن الذي لا يهدم، والجند الذي لا يهزم، وما أصدق الفاروق -رضي الله عنه- إذ قال: "وجدنا خير عيشنا في الصبر".
بم أكرم الرحمن الصائمين بباب الريان؟ وما بال الصِّيَامِ لله تعالى يجزي به دون سائر الأعمال؟! لأن الصيام صبر ومصابرة، وربنا يقول: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10]، الصابرون هم الفائزون، وهم الملقَّون في الجنات تحية وسلاما من الملائكة الكرام..
وما خُذِلَ الأشقياء، وما طُرد البعداء إلا بقلة المجاهدة، واتباعهم لذاتِهم العاجلة، وودعِهم مرارة الاصطبار... عجيبٌ ذلكم الصبر، الذي يحمل النفس على ترك ما اعتادته على حبه، وتجنبِ الطيب مع قربه، والذي هو حبسُ النفس عن الضجر مما تجده من ألم وجَهد، حتى تسموَ إلى اللذة والرضا.
صبرٌ عظيم، قائده القناعةُ التامة، والعزيمةُ الصادقة، قناعةٌ بتأكُّد الفعل، وعظمِ الأجر، وشدة العقاب على الترك، وعزيمةٌ لا مثنويةَ فيها، تقطع على النفس الطمعَ في التردد، ويرى المؤمن حينها كيدَ الشطانِ ضعيفا.. إنه صبر بالله وفي الله، يُمِدُّ المولى –سبحانه- المؤمنين إذا استعانوه وتوكلوا عليه حق الاستعانة والتوكل بالصبر الجميل، ويثيبهم عليه الأجر الجزيل.. قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه؛ وكان مأمورا بإزالته؛ لأزاله".
فما بال أناسٍ يعكفون على معاصٍ لهم، ويقيمون على سوء أخلاق، زاعمين أن لا خلاص لهم منها، وأن عزائمهم تضعف عن مفارقتها؟ ألم يهد لهؤلاء - تقبل الله منهم - نأيُهُمْ عنها في رمضان؟ ألم يستعينوا بالله ويصبروا عنها خلال هذا الشهر؟!
لقد آن الأوان أن لا يُحِلُّوا ذلكم الجيشَ جيشَ العزم الذي كان معهم في رمضان، وأن لا يتخلوا عن مراغمة الشيطان.. وأن يدركوا يقينا أنما هي شدة المفارقة ومرارتها، ثم هي السعادة والفوز والشموخ، والعزة بالانتصار على النفس والشيطان والهوى.
وعلى سبيل التمثيل، هذا نداء لمن ابتلوا بشرب الدخان، وأطالوا الكلام والملام -هداهم الله ووفقهم- : هذا يومكم لقرار شجاع، تهزم فيه النفس الأمارة بالسوء، ويدحر فيه الشيطان، إنه يوم ميلاد جديد لمن يكتب الله له التوفيق..
لقد تركْتَ أيها المدخن هذه العادةَ السيئةَ المحرمة الضارةَ غالبَ شهرك، وتخليت عنها رغم وظيفتك وعملك؛ أفلا يكون لك في التاركين هذه العادة ممن ابتلوا بها عشرات السنين أسوة، لقد استعانوا بالله، وطرقوا في سبيل ذلك الأسبابَ الشرعيةَ والطبية، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل..
وإنك حين تلحق بركبهم ستجد -بإذن الله- عيشا أهنأ، ومالا أوفر، ومجالس أفضل، وطعما ألذّ، ومزاجا أصفى، وبشرة أجمل، ورائحة أطيب، وقبل ذلك وبعده ثوابَ الله إن أنت تركته توبة من أجله تعالى.
والعاقل يعتبر بما يرى ويسمع من إحصائيات ودراسات رهيبة، جراء استخدام هذا الداء القاتل، والله المستعان.
وجماع الأمر أنه إذا اجتمع الصبر والتقوى كان الفلاحُ وبلوغ المنى، ووقيت الشرورُ والمحن بإذن الله تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 90]، (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران: 120].
أيها المؤمنون: ومن الدروس العظيمة المستقاة من مدرسة الصيام: حسن الخلق، ودفع السيئة بالحسنة، أو الصمت على أقل الأحوال: "فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم"، وإذا كان هذا في حال الصيام؛ فإن الله - تعالى - قال للمؤمنين حال إيمانهم: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان: 63]، وقال: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) [القصص: 55].
بل قد أبلغَ الشارعُ في بيانِ ذلك إذ أشار النبي - عليه صلوات الله وتسليمه - إلى أن "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"؛ كيما يقيم المؤمنُ عبادته إقامتها الحقة؛ لتأمره بالمعالي، وتنهاه عن الدنايا.
أما الأنس بالله، وحلاوة مناجاته، ولذة الإيمان به، فأعظم ما يجتنى من جنات هذا الشهر، ومن لم يبكِ فرحا بلذتها، فليبكِ أسفا على فقدها.. أي قلبٍ يقيم على تدبر كتاب الله تلاوة وسماعا ساعاتٍ في اليوم والليلة، ثم لا يلين ولا يخشع؟!
يجد المرء قلبه إذ يتدبر الكتابَ العزيز، وقد وجد ما قد فقد، وأَنِسَ بعد ما استوحش، وفرح بالله وبفضله وبرحمته، ووضع يده على مكمن الداء، وهُدِيَ إلى الدواء، أفيجدر بمن وجد هذا أن يزهد فيه، أو يهجر كتاب ربه تعلما وتعليما؟!
أما مناجاةُ الله ففي الوقوفِ والتملقِ بين يديه، قياما وركوعا وسجودا، وسؤالِه من فضله، من ثواب الدنيا والآخرة.. وذاكم هو ذلُّ العبادة والافتقار للواحد القهار، فيكون القلب متعلقا بكفايته، وراغبا إلى بره وهدايته.. وهو يستحضر عظمَ جود البر الرحيم في ثلث الليل الآخر، فيحسن الظن بربه إذْ أحسن العمل، ويسأله القبولَ والعفوَ عن الزلل.
لقد علمنا رمضان أن قيام الليل أنسُ العالمين، وحياةُ قلوب العارفين، وأن تلاوة القرآن فيه أقوم قيلا، وأن أثره أعظم وقعا، وأن القلب حينئذ أصدق خشوعا، وأنه عونٌ على أعباء الحياة وتكاليفها، وأن فيه سلوانا للحزين، وأنه شكرٌ للرب الكريم.
أيها المؤمنون: والجود والكرم هداية عظيمة من هدايات هذه المدرسة السنوية، فالإنفاق فيه بسخاء، والبذل في أيامه ولياليه كبير؛ كيف وقد صفدت فيه الشياطين، ووجد الصائمون بعضَ جوعِ المعدمين؟! وكتاب الله يتلى في كل حين.. وحين ينفق الموفقون يجدون صدورا أكثر انشراحا، ونفوسا أطيب، وشكرا لله على ما استخلف فيه ووفق إليه، ورحمةً وإحساسا بروح الجسد الواحد..
ولَنِعْمَ المالُ الصالح للرجل الصالح، حينما ينفق منه ليلا ونهارا، سرا وعلانية، مستيقنا أن دعوة المَلَكَيْنِ للمنفق بالخلف، والممسكِ بالتلف، ليست هي في رمضان فحسب..
قد قلت ما قلت؛ إن صوابا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أنزل آياته تذكرةً لأولي النهى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تسبح له الأرض وبحارها، والسماوات وأفلاكها، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي اختصه ربه بأقوم الشرائع، وأمتُه أفضلُ الأمم وأحسنُها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين..
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، واذكروا أن من دروس هذا الشهر الأغر: دقةَ التوقيت، والحفاظَ على الوقت؛ فللإفطار ميقاتٌ دقيق، وكذلك للسحور، ينتظم فيه عمل المسلم، ويجد في هذا الشهر ضيقا في الوقت، وسرعةً في تقضيه يوم أن اغتنم ساعاته ولحظاته، وكلُّ من شغلَ سائر وقته بعلم نافع وعمل صالح، من خلال ترشيدٍ ودراسة؛ وَجَدَ نيلَ المطالب، وحَمِدَ العواقب.
ومن أعظم الدروس التي ينبغي استحضارها بعد رمضان: تقوية روابط الصلة بين أفراد الأسرة، إذ يحصل اللقاء اليومي، تتجدد فيه المحبة، ويكون التواصي بالخير، والتحدثُ بالنافع المفيد، في عصرٍ تناءت فيه أطراف الأسرة الواحدة، وضَعُفَ البر، وتلاشت فيه الرعاية القويمة.
حقيقٌ بمن حُمِّل الأمانةَ أن يرعاها، وأن يوجِدَ كلَ سبيل مشروعٍ لتقوية الصلة، والتراحم والتواد، وتقليل الشر، وتكثير الخير.
أيها المؤمنون: ها هي بعض هدايات هذه المدرسة القويمة؛ فواها لمن تبصر فأفاد، وعن السبيل المستقيم ما زاغ وما حاد..
إنها دروس لأولي النهى، كي يكونوا ربانيين لا رمضانيين فحسب، فربُّ الشهورِ كلِّها واحد، وهو على جميع الأعمال والأقوال مطلعٌ وشاهد، وإنما الغيب لله، (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 34]، وقد ندبكم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فيما ندبكم إلى صيام ستة أيام من شوال في قوله: "من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر" (رواه مسلم في صحيحه).
والأحسن والأحوط البدء بقضاء رمضان لمن كان عليه قضاء؛ خروجا من الخلاف في المسألة؛ ولأن ما فرضه الله أحق بالقضاء.
اللهم....