الغني
كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
الناس يردون على الحوض وهم عطشى هلكى، فيكون الورود مطفئًا لظمئهم، وجزاءً لعملهم، لا سيما إذا علمنا أن الشرب من الحوض له مزية عظيمة وهي أن من يشرب منه لم يظمأ أبدًا كما جاء بذلك الخبر؛ أخرج الشيخان من حديث سهل بن سعد وأبي سعيد –رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "إني فرطكم على الحوض، من مر بي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا".
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله..
أما بعد:
معاشر المؤمنين: لا يشك أحد من المسلمين أن وراء هذه الدنيا يومًا تجزى فيه كل نفس بما تسعى، وأن ذلك اليوم فيه من الأهوال والكرب الشيء العظيم، لا ينجو منه إلا أولياء الرحمن، جعلنا الله وإياكم منهم: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).
عباد الله: من تلك المواقف التي يمر عليها الخلق: الورود على الحوض.
والحوض في اللغة هو المكان الذي يجتمع فيه الماء. وفي الاصطلاح: هو حوض له أوصاف مخصوصة، وهبه الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، يرد الناس عليه يوم القيامة في أرض المحشر.
والحوض -عباد الله- قد تكاثرت فيه النصوص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بلغت حد التواتر كما حكى ذلك جمع من أهل العلم منهم ابن كثير وابن عبد البر وابن حجر والسيوطي -رحمهم الله-.
قال القرطبي -رحمه الله-: "مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به أن الله -سبحانه وتعالى- قد خصّ نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالحوض المصرح باسمه وصفته وشرابه في الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي حصل بمجموعها العلم القطعي".
قال ابن حجر -رحمه الله-: "بلغني عن بعض المتأخرين أنه أوصلها إلى رواية ثمانين صحابيًا". ولعلنا نأتي على بعضها -بإذن الله تعالى- في هذه الخطبة.
ولنعلم أن الحوض والورود عليه قد كذّب به قوم من هذه الأمة، قال ابن حجر: "قد أنكره -يعني الحوض- الخوارج وبعض المعتزلة".
وقال القرطبي: "أنكرت الحوض طائفة من المبتدعة وأحالوه عن ظاهره وحقيقته، ولا حاجة تدعو إلى تأويله، فَخَرَقَ من حرَّفه إجماعَ السلف وفَارَقَ مذهب أئمة الخلف".
معاشر المسلمين: تكاثرت الروايات في صفة الحوض؛ فمن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث حذيفة –رضي الله عنه- قال –صلى الله عليه وسلم-: "إن حوضي لأبعد من أيلة إلى عدن، والذي نفسي بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء، ولهو أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل".
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث عقبة بن عامر –رضي الله عنه- قال –صلى الله عليه وسلم-: "إني فرطكم على الحوض، وإن عرضه كما بين أيلة إلى الجحفة". وأخرج مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة –رضي الله عنه- قال –صلى الله عليه وسلم: "ألا إني فرط لكم على الحوض، وإن بعد ما بين طرفيه مثل ما بين صنعاء وأيلة، كأن الأباريق فيه النجوم".
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر –رضي الله عنه- قال –صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لآنيته -يعني الحوض- أكثر من عدد نجوم السماء، وكواكبها في الليلة المظلمة المصحية آنية الجنة، من شرب منها ليس يظمأ، آخر ما عليه يشخب فيه ميزابان من الجنة، من شرب منه لم يظمأ، عرضه مثل طوله ما بين عمان إلى أيلة، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل".
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث ثوبان –رضي الله عنه- قال –صلى الله عليه وسلم-: "إني لبعقر حوضي يوم القيامة أذود الناس لأهل اليمن وأضربهم بعصاي حتى يرفض عليهم"، فسئل عن عرضه فقال: "من مقامي إلى عمان، شرابه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، يصب فيه ميزابان يمدانه من الجنة، أحدهما من ذهب والآخر من ورق".
معاشر المسلمين: قد يتساءل البعض: كيف يعرف النبي –صلى الله عليه وسلم- أمته من بين الأمم، بل كيف يعرف من جاء من بعده ممن لم يره من أمته؟!!
أخرج الإمام أحمد من حديث زيد بن أرقم –رضي الله عنه- قال –صلى الله عليه وسلم-: "ما أنتم بجزء من مائة ألف جزء ممن يرد عليّ الحوض".
ولهذا سأل الصحابة النبي –صلى الله عليه وسلم-، فما كان الجواب؟!
أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- أن الصحابة سألوا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك؟! قال: "أرأيت لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟!"، قالوا: بلى، قال: "فإنهم يأتون يوم القيامة غرًّا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض".
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث حذيفة –رضي الله عنه- قال –صلى الله عليه وسلم-: "تردون عليّ الحوض غرًّا محجلين من آثار الوضوء، ليست لأحد غيركم".
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- قال –صلى الله عليه وسلم-: "لكم سيما ليست لأحد غيركم، تردون عليّ غرًّا محجلين من آثار الوضوء".
معاشر المؤمنين: ومما ينبغي التنبه أن الحوض غير الكوثر، وبينهما علاقة متلازمة، فالحوض يكون في عرصات القيامة كما مر ذكره في الأحاديث السابقة، وأما الكوثر فإنه نهر أعطيه النبي –صلى الله عليه وسلم- في الجنة، أخرج البخاري في صحيحه من حديث أنس –رضي الله عنه- قال –صلى الله عليه وسلم-: "بينا أنا أسير في الجنة إذ عرض لي نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، قلت: يا جبريل: ما هذا؟! قال: هذا الكوثر الذي أعطاكه الله".
وأخرج الحاكم من حديث أنس –رضي الله عنه- قال –صلى الله عليه وسلم-: "الكوثر نهر أعطانيه الله في الجنة، ترابه مسك أبيض من اللبن وأحلى من العسل، ترده طائر أعناقها مثل أعناق الجزر، آكلها أنعم منها".
والعلاقة المتلازمة بينهما أن الحوض يصب فيه ميزابان من نهر الكوثر؛ أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر –رضي الله عنه- قال –صلى الله عليه وسلم- عن الحوض: "يشخب فيه ميزابان من الجنة، من شرب منه لم يظمأ، عرضه مثل طوله ما بين عمان إلى أيلة، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل".
قال ابن كثير: "ومعنى ذلك أنه يشخب من الكوثر ميزابان إلى الحوض، والحوض في العرصات".
وقال ابن حجر: "أشار البخاري إلى أن المراد بالكوثر: النهر الذي يصب في الحوض، فهو مادة الحوض كما جاء صريحًا".
اللهم اجعلنا ممن يرد الحوض ويشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا؟
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، المصطفى الأمين، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وتركنا على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه...
أما بعد:
معاشر المؤمنين: إن الإيمان بالغيب ومنه الإيمان بالحوض يزيد الإيمان، ويدعو صاحبه إلى العمل الصالح، لا سيما ما كان مترتبًا عليه العمل الجليل الذي يحتاج إلى همة عالية.
وليكمل أثر الإيمان بالحوض لنتطرق إلى الحِكم التي من أجلها جعل الحوض في عرصات القيامة، فهي كثيرة، علمها من علمها وجهلها من جهلها، ومن أبرز تلك الحكم حكمتان: الأولى أن الناس يردون على الحوض وهم عطشى هلكى، فيكون الورود مطفئًا لظمئهم، وجزاءً لعملهم، لا سيما إذا علمنا أن الشرب من الحوض له مزية عظيمة وهي أن من يشرب منه لم يظمأ أبدًا كما جاء بذلك الخبر؛ أخرج الشيخان من حديث سهل بن سعد وأبي سعيد –رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "إني فرطكم على الحوض، من مر بي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا".
والثانية: أن الله جعل الورود علامة على صحة الاتباع، وبيانًا لحال من خالف الهدي النبوي، فلا يرد على الحوض إلا أهل السنة، أما أرباب البدع والانحرافات والأهواء فهم أبعد الناس عن الورود، عافانا الله وإياكم من ذلك.
أخرج الشيخان من حديث سهل بن سعد وأبي سعيد –رضي الله عنهما- قال -صلى الله عليه وسلم-: "وليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا لمن بدل بعدي".
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "ترد عليّ أمتي الحوض وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله"، قالوا: يا نبي الله: تعرفنا؟! قال: "نعم، وليصدن عني طائفة منكم فلا يصلون، فأقول: يا رب: هؤلاء من أصحابي! فيجيبني ملك فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟!".
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقًا فسحقًا فسحقًا".
أخرج الشيخان من حديث من حديث أسماء بنت أبي بكر –رضي الله عنها- قالت: قال -صلى الله عليه وسلم-: "إني على الحوض حتى أنظر من يرد عليّ منكم، وسيؤخذ أناس دوني فأقول: يا رب: مني ومن أمتي! فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك؟! والله ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم".
عباد الله: لا شك ولا مرية أن أسعد الناس بهذا الورود هم صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن سار على نهجهم واقتفى آثارهم.
أخرج الإمام أحمد من حديث ثوبان -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن حوضي من عدن إلى عمان البلقاء، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، أكاويبه عدد النجوم، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا، أول الناس ورودًا عليه فقراء المهاجرين: الشعث رؤوسًا، الدنس ثيابًا، الذين لا ينكحون المنعمات، ولا تفتح لهم السدد، الذين يعطون الحق الذي عليهم ولا يعطون الذي لهم".
أخرج الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو –رضي الله عنهما- قال -صلى الله عليه وسلم-: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة: ما أنا عليه وأصحابي".
فيا من يريد النجاة لنفسه: تمسك بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه –رضوان الله عليهم- تفز بنعيم الاتباع وتنج من مهاوي الابتداع.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا...