العلي
كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...
العربية
المؤلف | عبدالعزيز بن محمد النغيمشي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
مُستراحٌ منه؛ مَنْ آذى المسلمينَ في شأنِ دينهم أو ديناهم، أو اجترأ على مصالِحِهم أو استخفَّ بحقوقهم, مُستراحٌ منه؛ مَنْ يسعى في غَضَبِ الله، ويجترئ على محارم الله, وكَم راحلٍ أشرقَ برحيلِه وجهُ مظلوم، واستبشر بهلاكِهِ قلبُ مقهورٍ!، ويلٌ له ثم ويل ٌله...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب70-71].
أيها المسلمون: يَعِيْشُ المرءُ في دنياه مغتبطاً, يرجو البقاءَ ويخشى ساعةَ الأجلِ, يكرهُ الموتَ، يُحاذِرُ أسباب الرحيلِ؛ وهل للفتى مما قضى اللهُ مهربُ؟!.
وإنْ عُمِّرَ الإنسانُ تسعينَ حِجَّةً | فإنَّ حياضَ الموت لا بدَّ تُورَدُ |
أؤمِّلُ أن أحيا وفي كل ساعةٍ | تَمُرُّ بي الموتى تُهَزُّ نُعوشُها |
وهل أنا إلا مثلُهمْ غيرَ أن لي | بقايا ليالٍ في الزمان أعيشُها |
لِكُلِّ حَيٍّ أَجَل، ولِكُلِّ أجلٍ كتاب؛ (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[الأعراف: 34], (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ)[الشعراء: 205، 206].
إذا نزلَ بالإنسانِ الموتُ, وحَانَتْ سَاعَةُ الرَّحِيْل, فإنه أحدُ رَاحِلَينِ؛ راحِلٌ راح فاستراح، أو راحِلٌ راحَ فأراح.
راحِلٌ راح فاستراح؛ مؤمنٌ كانَ يُكابِدُ نَصَبَ الحياةِ، ويقاسي صِعابها، قائمٌ بأمرِ الله واقفٌ عند حدوده، صابرٌ على طاعةِ الله، صابرٌ عن معصيةِ الله، صابرٌ على ما يؤلِمُ مِن أقدارِ الله.
راحِلٌ راح فاستراح؛ مؤمنٌ كانت تتقاذفُهُ أمواجُ الفِتَنِ وهو مستمسكٌ بحبل الله، وتعصفُ به رياحُ الشهواتِ وهو عائذٌ بجلالِ الله، وتلوحُ أمامَهُ بوارِقُ الهوى وهو يُغضي عنها حُباً وخشيةً ورجاءً لله.
راحِلٌ راح فاستراح؛ مؤمنٌ نالَه مِن الناسِ ظُلْمٌ وجورٌ وأذى، فَصبرَ واحتَسب، وصفَحَ وعفا، راجياً مِن ربِه حُسنَ الجزاء.
مؤمنٌ أمضى حياتَه مُسارعاً في الخيرات، مُسابقاً في الطاعات، منافساً في الصالحات, نَزَلَ به الموتُ, فراحَ مِنَ الدنيا واستراح, وأدركَ ما كان في الآخرةِ يُوعَد, راح إلى مقامٍ كريمٍ، في نعيمٍ مُقيمٍ عند ربٍّ رحيم؛ (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ)[الواقعة: 88، 89], (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ)[فاطر: 34، 35].
عن أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- أنَّ رَسولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- مُرَّ عليه بجِنَازَةٍ، فَقالَ: "مُسْتَرِيحٌ ومُسْتَرَاحٌ منه", قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ! ما المُسْتَرِيحُ والمُسْتَرَاحُ منه؟, قالَ: "العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِن نَصَبِ الدُّنْيَا وأَذَاهَا إلى رَحْمَةِ اللَّهِ، والعَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ منه العِبَادُ والبِلَادُ، والشَّجَرُ والدَّوَابُّ"(رواه البخاري ومسلم), ذاكَ مؤمنٌ راحَ فاستراح, وذاك فاجرٌ راح فَأَرَاح؛ "يَسْتَرِيحُ منه العِبَادُ والبِلَادُ، والشَّجَرُ والدَّوَابُّ".
مُستراحٌ منه؛ لم يَكُن في قلبه لربه تعظيماً، مُعْرْضٌ مُسْتَكْبِر, فاجرٌ مُتجَبِّر, يَسْرِيْ فجورُه في الأرضِ كَسَرَيَانِ الأوبئةِ في المجتمعات، ويَنْتَشِرُ شَرُّه، ويتعدى ضررُه في الناسِ وفي البهائم وفي الجمادات.
مُستراحٌ منه؛ غليظُ القلبِ غشومٌ ظلوم، لا يرعى حقاً، ولا يحفظُ عهداً، ولا يَفِيْ بوعد.
مُستراحٌ منه؛ مَن لا يُؤْمَنُ جانِبُه، ولا يُطْمَأنُّ لِقُربِه، سَلِيْطُ اللسان، سريع البُهتان، سيءُ الظن، قبيحُ المَعْشَر، إذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر، وإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ.
مُستراحٌ منه؛ مَنْ لا يأمنُ جارُهُ بوائِقَه.
مُستراحٌ منه؛ مَنْ أَكَلَ أموالَ الناسِ ظلماً, فَغَشَّ أو سرق، أو غَصَبَ أو ارْتَشَى، أو مَطَلَ أو جَحَدْ.
مُستراحٌ منه؛ مَنْ ظَلَمَ زَوْجَاً، أو استقوى على ضعيف، أو سَلَبَ حقاً أو أكل مال يتيم.
مُستراحٌ منه؛ مَنْ يَسْعى بالنميمةِ، ومَن يَشْهَدُ الزور، ومَن يُشِيْعُ المنكرَ، ومَن يَنْشُرُ الضلال, ومَن يُفسِدُ في البلادِ ومَن يظلِم العباد.
مُستراحٌ منه؛ مَنْ آذى المسلمينَ في شأنِ دينهم أو ديناهم، أو اجترأ على مصالِحِهم أو استخفَّ بحقوقهم.
مُستراحٌ منه؛ مَنْ يسعى في غَضَبِ الله، ويجترئ على محارم الله.
وكَم راحلٍ أشرقَ برحيلِه وجهُ مظلوم، واستبشر بهلاكِهِ قلبُ مقهورٍ، ويلٌ له ثم ويل ٌله, راحَ وارتحل, فلا ناحَت عليه مِن المكارِمِ نائحة, وتلك عاقبةُ الخاسرين؛ (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ)[الدخان: 29].
ولا يستوي من راح مرتاح راضياً | ومَن أشرقت دنيا بيومِ رحِيلِه |
تعاهد سبيلك في الحياة، وصحح مسارك قبل الفوات، أقم وجهك للدين حنيفاً، تقرب إلى الله بالصالحات، تودد إلى الخَلْقِ بِحُسنِ الخُلُق، وكُفَّ أذاكَ وعاشِر لَبِقْ، وقابل أخاكَ بوجهٍ طَلِق.
تخفف من الوِزرِ, لا تَظْلِمْ ولا تَجْهَل ولا تؤذِ عبداً؛ فإن حقوقَ العبادِ تستوفى بكيل العَدلِ بالقسطاسِ المستقيم؛ (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)[الأحزاب: 58].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدً عبده ورسوله الصادُقُ الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واعملوا صالحاً يؤتِكُم الله أجراً كريماً؛ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[لقمان: 8، 9].
أيها المسلمون:
تَسِيْرُ حَثِيْثاً خَلْفَ خِلٍ مُشَيِّعاً | وأنت غداً في الراحلين تُشَيَّعُ |
إنَّ ارتحالَ الإنسانِ مِنْ هَذِه الدنيا, ليس نهايةُ المطافِ، وليس خِتَامُ الأمرِ، وإنما هو انتقالٌ مِن دارِ العملِ إلى دار الجزاء، ومِن دار الفناء إلى دار الإقامة، وقد خابَ مَن حملَ ظلماً؛ (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آل عمران: 185].
إنَّ الراحلين ولم تفتُرْ قوافِلُهُم | لَيُنْقَلُوْنَ سِراعاً دونما مهلِ |
سِرَاعاً؛ فما عاد يُجدي بقاءٌ لِمَيِّتٍ, فإن كان للحسنى فَظُلْمٌ يؤخَرُ، وإنْ كانَ موعوداً بسوءِ صَنِيْعِه, فشرٌ عن الأعناقِ يُلقى ويُنزَعُ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَسْرِعُوا بالجِنَازَةِ؛ فإنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إليه، وإنْ يَكُ سِوَى ذلكَ؛ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عن رِقَابِكُمْ"(متفق عليه).
عباد الله: إنَّ العبدَ المؤمنَ حينما يستقيمُ على أمرِ الله، ويقفُ عند حدوده، فإنه إذا نزل به الموتُ تنزِلُ إليه البُشرى مِن رَبِه؛ لِيَسْتَقْبِلَ الآخرةَ آمناً مُطْمَئناً، هانئاً مُسْتَبْشِراً, مِصْدَاقُ ذلك في قول الله: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)[فصلت: 30 - 32].
عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءهُ", فقلتُ: يا رسولَ اللهِ! أكَراهِيَةُ المَوتِ، فَكُلُّنَا نَكْرَهُ المَوتَ؟!, قال: "لَيْسَ كَذَلِكَ، ولكِنَّ المُؤْمِنَ إذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ؛ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ, فَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءهُ، وإنَّ الكَافِرَ إذَا بُشِّرَ بِعَذابِ اللهِ وَسَخَطهِ؛ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ, وكَرِهَ اللهُ لِقَاءهُ"(رواه مسلم).
اللهم أحسن ختامنا، وأطِبْ مُنقَلَبَنا, وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ, اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ, اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ, رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.