الرفيق
كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
وهذا الإمام الحازمي -رحمه الله- كان يدخل بيته في كل ليلة، فيطالع في الكتب ويصنف إلى الفجر، فقال أحدهم لخادمه: "لا تدفع إليه زيتًا للسراج، فلعله يستريح الليلة، فلما أقبل الليل، طلب الحازمي من خادمه زيتًا ليوقد السراج، فاعتذر إليه بانقطاع الزيت، فدخل الحازمي...
الخطبة الأولى:
الحمد لله...
أما بعد:
معاشر المؤمنين: اتقوا الله وراقبوه، فإنكم غدًا بين يديه موقوفون، وعلى أعمالكم مجزيون، فكونوا على أهبة واستعداد.
أيها المؤمنون: إذا علم المسلم فضل العلم وما يؤول بصاحبه من شرفي الدنيا والآخرة، زاد حرصه عليه، ولم تنقضِ نهمته منه.
وإن مما يزيد المسلم شوقًا إلى العلم، وصبرًا في طلبه، وحرصًا في جمعه، هو معرفة أخبار أهل العلم من السلف الصالح، فإنها كالماء والهواء للنبات.
فمن ضعفت همته فعليه بسير أهل العلم قراءة وتعقلاً، لتدب حياة العلم في أعضائه، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ) [يوسف: 111]، وقال: (وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) [هود: 120].
قال ابن عبد البر -رحمه الله-: قال بعض السلف: "الحكايات جند من جنود الله تعالى يثبت الله بها قلوب أوليائه".
قال المزني: "قيل للشافعي -رحمه الله-: كيف شهوتك للعلم؟! فقال: أسمع بالحرف مما لم أسمعه، فتود أعضائي أن لها أسماعًا تتنعم بما تنعمت به الأذنان، فقيل له: فكيف حرصك عليه؟! قال: حرص الجموح المنوع في بلوغ لذته للمال، فقيل له: فكيف طلبك له؟! فقال: طلب المرأة المضلة لولدها، ليس لها غيره".
ولما قيل لابن عباس -رضي الله عنهما-: "إلى كم تكتب هذا العلم؟! فقال: إذا نشطت فهو لذتي، وإذا اغتممت فهو سلوتي".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وأما سعادة العلم، فلا يورثك إياها إلا بذل الوسع وصدق الطلب، وصحة النية، ولولا جهل الأكثرين بحلاوة هذه اللذة لتجالدوا عليها بالسيوف، ولكن خفت بحجاب من المكاره، وحجبوا عنها بحجاب من الجهل، ليختص الله بها من يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم".
معاشر الإخوة الأفاضل: لقد كان العلم هو حياة سلفنا، فمن أجله يأكلون، ومن أجله يتّجرون، ومن أجله يعيشون، وما ذاك إلا لأنه الطريق الموصل إلى عبادة رب العالمين.
جاء في ترجمة أبي جعفر أحمد القصري -رحمه الله-: "وكان ربما باع بعض ثيابه واشترى بثمنها كتبًا أو ورقًا لنسخ كتاب".
بل كانوا -رحمهم الله- يضحّون بأنفسهم في سبيل طلب العلم، فهذا عمر بن عبد الكريم الرّواسي -رحمه الله- سقطت أصابعه في الرحلة في طلب العلم من شدة البرد.
وقال هشام بن عمار -رحمه الله-: "باع أبي بيتًا له بعشرين دينارًا وجهزني لطلب العلم والحج".
وهذا إمام الدنيا في زمانه أبو عبد الله البخاري -رحمه الله-، كما يحدّث عنه تلميذه ابن أبي حاتم -رحمه الله- قال: "كنت معه في سفر، وكان يجمعنا سقف واحد، فكان يضطجع على فراشه لينام، فتمر بخاطره الفائدة فيقوم من فراشه ويأخذ القداحة، ويوقد السراج ويخرج أحاديثه فيعلم عليها، ثم يطفئ السراج ويضطجع لينام، فتمر به الفائدة فيقوم، هكذا دأبه، يصنع ذلك في الليلة الواحدة من خمس عشرة إلى عشرين مرة، فكان يصلي بالسحر ثلاثة عشر ركعة".
وهذا الإمام الحازمي -رحمه الله- كان يدخل بيته في كل ليلة، فيطالع في الكتب ويصنف إلى الفجر، فقال أحدهم لخادمه: "لا تدفع إليه زيتًا للسراج، فلعله يستريح الليلة، فلما أقبل الليل، طلب الحازمي من خادمه زيتًا ليوقد السراج، فاعتذر إليه بانقطاع الزيت، فدخل الحازمي -رحمه الله- بيته وصفّ قدميه يصلي لله في الظلام حتى طلع الفجر".
قال أبو إسحاق المرادي: "جاورت الحافظ المنذري -رحمه الله- ثنتي عشرة سنة، فلم أستيقظ في ليلةٍ من الليالي في ساعة من ساعات الليل، إلا وجدت ضوء المصباح في بيته، وهو مشتغل بالعلم، حتى كان في حال الأكل والكتب عنده يشتغل فيها".
عباد الله: إن المطالعة في كتب السلف الصالح تنبئ عن علمهم وفضلهم وتزيد الإنسان علمًا، قال ابن الجوزي: "فسبيل طالب الكمال في العلم: الاطلاع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات، فليكثر من المطالعة فإنه يرى من علوم القوم وعلو هممهم ما يشحذ خاطره ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة".
قال ابن الجوزي: "وإني أخبر عن حالي: ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابًا لم أره من قبل فكأني وقعت على كنز، وإن كنت قلت: إني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعد في الطلب".
قال الخطيب البغدادي في وصف الكتاب: "حاضر نفعه، مأمون ضرره، ينشط بنشاطك فينبسط إليك، ويمل بملالك فينقبض عنك، إن أدنيته دنا، وإن أنأيته نأى، لا يبغيك شرًّا، ولا يفشي لك سرًّا، ولا ينم عليك، ولا يسعى بنميمته إليك".
أيها الناس: لقد كان سلفنا الصالح يجوعون ويظمؤون في سبيل تحصيل العلم، قال النضر بن شميل -رحمه الله-: "لا يجد الرجل لذة العلم حتى يجوع وينسى جوعه".
وقال ابن خراش: "شربت بولي أثناء الرحلة لطلب العلم خمس مرات"، وقال البخاري -رحمه الله-: "تأخرت نفقتي حتى جعلت أتناول حشيش الأرض وأنا في طلب العلم".
هكذا يكون طلب العلم، اللهم علمنا ما ينفعنا...
الخطبة الثانية:
عباد الله: إن النفوس إذا أحبت الشيء وطمعت فيه هانت دونه المصائب كلها، ومن حكمة الله تعالى أن جعل دون العلم المشقة والتعب.
أخرج مسلم في صحيحه عن يحيى بن أبي كثير قال: "لا يستطاع العلم براحة الجسد".
ها هو الإمام بقي بن مخلد -رحمه الله- يرحل من بلاده بالأندلس -وهي إسبانيا الآن- إلى بغداد لطلب العلم على يدي الإمام أحمد بن حنبل، كل ذلك على قدميه.
وقيل للشعبي -رحمه الله-: من أين لك هذا العلم؟! فقال: "بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الحمار، وبكور كبكور الغراب".
عباد الله: قالوا قديمًا: "إن العلم إذا أعطيته كلك أعطاك بعضه، وإن أعطيته بعضك لم يعطك شيئًا"، قال إسحاق بن إبراهيم: "كان الحافظ المنذري لا يخرج من المدرسة التي يدرس فيها، لا لعزاء ولا لهناء ولا لفرح ولا لغير ذلك، بل يستغرق كل الأوقات في العلم".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "ومن لم يغلب لذة إدراكه العلم وشهوته على لذة جسمه وشهوة نفسه، لم ينل درجة العلم أبدًا، فإذا صارت شهوته في العلم، ولذته في كل إدراكه رجي أن يكون من جملة أهله".
وصدق -رحمه الله-، فلقد كان السلف يبيعون ما يملكون لينالوا شيئًا من العلم، قال ابن القاسم -رحمه الله-: "أفضى طلب العلم بالإمام مالك إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبه ثم مالت إليه الدنيا، أي رزقه الله".
وقال مالك: "لا ينال هذا الأمر حتى يذاق فيه طعم الفقر".
عباد الله: لقد كان سلف الأمة يقدمون طلب العلم على الأكل والشرب، لضيق وقتهم وحرصهم على إدراك العلم.
قال عيسى بن موسى -رحمه الله-: "مكثت ثلاثين سنة أشتهي أن أشارك العامة في أكل هريسة السوق، فلا أقدر على ذلك، لأجل البكور إلى سماع الحديث".
وقال عبيد بن يعيش -رحمه الله-: "ما أكلت بالليل بيدي منذ ثلاثين سنة، إنما كانت أختي تلقمني الطعام وأنا مشغول بكتابة حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم-".
وكان الإمام النووي -رحمه الله- "لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة واحدة بعد صلاة العشاء الآخرة، وكان يشرب شربة واحدة عند السحر، كل ذلك لانشغاله بطلب العلم".
أيها المؤمنون: لقد ملأ العلم قلوبهم حتى إن بعضهم ليبيع ثوبه الذي يستره لينال العلم: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف: 26].
قال علي بن حرب: "أتينا الإمام زيد بن الحباب لنطلب عليه العلم، فلم يكن له ثوب يخرج فيه إلينا، فجعل الباب بيننا وبينه حاجزًا وحدثنا من ورائه".
وقال عمر بن حفص: "فقدنا الإمام البخاري -رحمه الله- أيامًا من كتابة الحديث بالبصرة"، قال: "فطلبناه فوجدناه في بيته وهو عريان، وقد نفد ما عنده، ولم يبق مع شيء، فاجتمعنا فاشترينا له ثوبًا فخرج معنا".
وأعظم من ذلك كله لقد كانوا يؤثرون طلب العلم على الأهل والزوجة والأولاد.
فها هو ابن القاسم العتكي -رحمه الله- يتزوج بابنة عمه فحملت منه، ثم أراد السفر إلى المدينة ليأخذ العلم عن الإمام مالك، فخيّر امرأته بين الطلاق أو البقاء حتى يعود، وهو لا يعلم متى تكون عودته، فاختارت البقاء.
قال ابن القاسم: "وأنخت بباب مالك سبع عشرة سنة ما بعت فيها ولا اشتريت شيئًا، فبينا أنا عنده ذات يوم إذ أقبل حجاج مصر، فإذا شاب ملثم قد دخل علينا ونحن في المسجد، فسلم على مالك وقال: أفيكم ابن القاسم؟! فأشاروا إليَّ، فأخذ يقبل بين عيني، ووجدت منه رائحة الولد، فإذا هو ابني الذي تركت أمه حاملاً به، قد شب وكبر وصار رجلاً".
وها هو ابن منده -رحمه الله- يرحل من بلده لطلب العلم وعمره عشرون سنة، ولا يرجع إليها إلا وعمره خمس وستون سنة، وكانت رحلته خمسًا وأربعين سنة، ثم عاد إلى وطنه شيخًا، فتزوج ورزق الأولاد وحدث بالكثير.
وها هو الصحابي الجليل جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- يقول: "بلغني عن رجل من أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- حديث لم أسمعه، فاشتريت بعيرًا وشددت عليه رحلي وسافرت إليه مدة شهر إلى الشام".
أيها المؤمنون: بعد هذه النبذ اليسيرة لأهل العلم التي تبين حرصهم على العلم وأهله، هلا كنا جميعًا من الحريصين على طلب العلم!! فالكتب متوفرة بأحسن الطبعات، والعلماء متوافرون في كل مكان، ولم يبق إلا طلبه من أهله.
فاحرص -يا رعاك الله- على تحصيل العلم، واحرص على تنشئة أولادك على ذلك، ألا تحب أن يكون ولدك شيخ بلدك، وعالمهم ومفتيهم.
اللهم هيئ لنا أسباب طلب العلم، اللهم علمنا ما ينفعنا...