السلام
كلمة (السلام) في اللغة مصدر من الفعل (سَلِمَ يَسْلَمُ) وهي...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصلاة |
قال شيخنا محمد بن عثيمين -رحمه الله-: فالتجصيص حرام، والبناء أشد حرمة، والكتابة عليه فيها تفصيل: أما الكتابة التي لا يُراد بها إلا إثبات الاسم للدلالة على القبر، فهذه لا بأس بها، وأما الكتابة التي تشبه ما كانوا يفعلونه في الجاهلية، يكتب اسم الشخص والثناء عليه، وأنه فعل كذا وكذا وغيره من...
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أيها الإخوة: رحلة سريعة كلمح البصر، سحابة بدت واختفت، تلك هي الدنيا، تمر مر السحاب، ساعة من زمن ثم تنقضي، ألا إنها -يا أخي- رحلة بدأت وستنتهي.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود -رضي الله عنه- قَالَ: نَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً! فَقَالَ: "مَا لِي وللدُّنْيَا؟! مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا" رواه الترمذي، وقال الشيخ الألباني: صحيح. "اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا"! وجه التشبيه: سرعة الرحيل وقلة المكث.
قال محمد بن عبد الله: دخلنا على محمد بن واسع وهو يقضي، أي: وهو يموت، فقال: "يا إخوتي، هبوني وإياكم سألنا الله الرجعة -أي عند نزول الموت بنا- فأعطاكموها ومنعنيها؛ فلا تخسروا أنفسكم".
نعم! أنا وأنت كمن سأل الله الرجعة وأعطاه الله إياها، فنحن في دار العمل، فهيا نبادر ونجلي صدأ القلوب بتوبة صادقة، وأوبة سريعة، فالأنفاس لم تتوقف بعد، ولازلنا في دار العمل؛ لعلنا نحب لقاء الله في ساعة الاحتضار.
فعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ"، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ؟ فَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ! فَقَالَ: "لَيْسَ كَذَلِكِ؛ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ؛ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ" رواه مسلم. أسأل الله أن يجعلنا من الذين يحبون ذلك اللقاء؛ إنه جواد كريم.
أيها الأحبة: طال على بعض الناس الزمن فجهل الحكمة من ذكر الموت وحضور الجنائز، وجهل فئام من المسلمين أحكام التجهيز والدفن، فظهرت البدع في كثير من بلاد المسلمين إلا من رحم ربي، كثرت وعمت حتى ظنها كثير من المسلمين سننًا.
فمن السنة توسيع القبر وتعميقه، قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "احْفِرُوا وَأَوْسِعُوا وَأَحْسِنُوا" رواه ابن ماجة وغيره، وحسنه الألباني.
وَيَقُولُ مُدْخِلُ الجنازة: "بِسْمِ اللهِ، وَعَلَى مِلَّة رَسُولِ الله".
ويوضع الميت في قبره موجهًا إلى القبلة على جنبه الأيمن، ويسد اللحد عليه سدًا محكمًا، ثم يهال عليه التراب، ويستحب لمن عند القبر أن يحثوا من التراب ثلاث حثوات بيديه جميعًا بعد الفراغ من سد اللحد؛ لحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ ثُمَّ أَتَى قَبْرَ الْمَيِّتِ فَحَثَى عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ثَلَاثًا". رواه ابن ماجة وصححه الألباني.
ولا يشرع تلقين الميت بعد دفنه، قال شيخنا: تلقين الميت بعد الدفن لم يصح الحديث فيه؛ فيكون من البدع.
ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر، ويكون مسنمًا أي: محدبًا، وذلك ليرى فيعرف أنه قبر فلا يوطأ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أُلْحِدَ له لَحْدٌ وَنُصِبَ عَلَيْهِ اللَّبِنُ نصبًا، وَرُفِعَ قَبْرُهُ مِنَ الْأَرْضِ نَحْوًا مِنْ شِبْرٍ" رواه ابن حبان وغيره وحسنه الألباني.
ولا بأس أن يجعل علامة عليه، بأن يوضع عليه حجر ونحوه ليعرفه من يريد زيارته للسلام عليه والدعاء له، فعَنْ الْمُطَّلِبِ بن أبي وادعة -رضي الله عنه- قَالَ: لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ -رضي الله عنه- أُخْرِجَ بِجَنَازَتِهِ فَدُفِنَ؛ فَأَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلًا أَنْ يَأْتِيَهُ بِحَجَرٍ [صخرة] فَلَمْ يَسْتَطِعْ حَمْلَهُ؛ فَقَامَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ حَمَلَهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ، وَقَالَ: "أَتَعَلَّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي، وَأَدْفِنُ إِلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي" رواه أبو داود وحسنه الألباني.
أيها الإخوة: ولا يجوز تجصيص القبر -وهو وضع الجبس عليه- ولا البناء عليه، ولا تجوز إضاءة المقابر بالأنوار الكهربائية ولا غيرها، ومثله وضع أكاليل الزهور عليها؛ لحديث جَابِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ. رواه مسلم.
وفي رواية عند الترمذي وصححه الألباني: "نَهَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ تُجَصَّصَ الْقُبُورُ، وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا، وَأَنْ تُوطَأَ".
وعَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ:" أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا –أي: مرتفعًا عن وجه الأرض، عالياً عليها- إِلَّا سَوَّيْتَهُ". رواه مسلم.
قال شيخنا محمد بن عثيمين -رحمه الله-: فالتجصيص حرام، والبناء أشد حرمة، والكتابة عليه فيها تفصيل: أما الكتابة التي لا يُراد بها إلا إثبات الاسم للدلالة على القبر، فهذه لا بأس بها، وأما الكتابة التي تشبه ما كانوا يفعلونه في الجاهلية، يكتب اسم الشخص والثناء عليه، وأنه فعل كذا وكذا وغيره من المديح، أو تكتب الأبيات -أي: أبيات شعر- فهذا حرام.
قال ابن القيم: "وَكَانَتْ قُبُورُ أَصْحَابِهِ لَا مُشْرِفَةً وَلَا لَاطِئَةً، وَهَكَذَا كَانَ قَبْرُهُ الْكَرِيمُ وَقَبْرُ صَاحِبَيْهِ، فَقَبْرُهُ -صلى الله عليه وسلم- مُسَنّمٌ مَبْطُوحٌ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ، لَا مَبْنِيٌّ وَلَا مُطَيّنٌ، وَهَكَذَا كَانَ قَبْرُ صَاحِبَيْهِ".
ويحرم الجلوسُ على القبر، والوطءُ عليه، والاتكاءُ عليه، وكذا قضاءُ الحاجة بين القبور؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ" رواه مسلم.
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَأَنْ أَمْشِيَ عَلَى جَمْرَةٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ أَخْصِفَ نَعْلِي بِرِجْلِي -أخرزها فيها- أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْشِيَ عَلَى قَبْرِ مُسْلِمٍ، وَمَا أُبَالِي أَوَسْطَ الْقُبُورِ قَضَيْتُ حَاجَتِي أَوْ وَسْطَ السُّوقِ"، أراد به أنه يتحرج ويستنكف عن قضاء حاجته بحضرة الناس في وسط السوق فكذلك وسط القبور، أي: فيحرم ذلك، رواه ابن ماجة وصححه الألباني.
قال شيخنا محمد بن عثيمين -رحمه الله-: "انظر كيف نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجصص القبر وأن يبنى عليه، وأن يكتب عليه، وأن يوطأ عليه، حيث جمع في هذا النهي بين ما يكون سببًا للغلو فيه وسببًا لامتهانه، فالغلو في البناء والتجصيص والكتابة، والامتهان في الوطء، من أجل أن يعامل الناس أهل القبور معاملة وسطاً لا غلو فيها ولا تفريط".
أسأل الله تعالى أن يبصر المسلمين بدينهم وسنة نبيهم؛ فلقد عم الغلو في القبور كثيرًا من البلاد جهلًا بالسنة، واتباعا لأئمة الضلال؛ أسأل الله أن يعيدهم إليه عودًا حميدًا.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فاتقوا لله عباد الله، واستنوا بسنة نبيكم تفلحوا، وإياكم واتباع دعاة الضلالة وإن شُيخوا، فالعبرة باتباع السنة التي أوصى بها -عليه الصلاة والسلام- فقال: "فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ؛ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ! فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ".
أيها الإخوة: لقد نهى رسول الله عن اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، واشتد نهيه في ذلك حتى لعن فاعله، ونهى عن الصلاة إلى القبور، ونهى أمته أن يتخذوا قبره عيدًا، ولعن زوارات القبور،
وكان النبي إذا زار قبور أصحابه يزورها للدعاءِ لهم، والترحُّمِ عليهم، والاستغفارِ لهم، وهذه الزيارة التي سنها لأمته وشرعها لهم.
وأمرهم أن يقولوا إذا زاروها: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ، أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ لَنَا وَلَكُمْ".
وكان هديه أن يقول ويفعل عند زيارتها من جنس ما يقوله عند الصلاة على الميت من الدعاء والترحم والاستغفار، فأبى المشركون إلا دعاءَ الميت، والإشراكَ به، والإقسامَ على الله به، وسؤال الحوائج منه، والاستعانة به، والتوجه إليه، بعكس هديِهِ، فإنه هدي توحيد وإحسان إلى الميت، وهديُ هؤلاء شركٌ وإساءةٌ إلى نفوسهم وإلى الميت.
وهم ثلاثة أقسام: إما أن يدعو الميت، أو يدعو به، أو يدعو عنده؛ ويرون الدعاء عند القبر أوجب وأولى من الدعاءِ بالمساجد، فإنا لله وإنا إليه راجعون!.
نسأل الله بمنه وكرمه أن يبصر من ضل من المسلمين، وأن يفضح كيد المضللين، وأن يرحمنا وإياكم إنه جواد كريم.