السلام
كلمة (السلام) في اللغة مصدر من الفعل (سَلِمَ يَسْلَمُ) وهي...
العربية
المؤلف | محمد الغزالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - الأديان والفرق |
هذه التكاليف كانت بلاءً شديدًا على ضعاف الإيمان، فالمنافقون الذين طووا قلوبهم على الكفر -وإن أظهروا الإسلام- كان يضايقهم أن يُتفقدوا بين صفوف المصلين فلا يوجدون، كانوا... قصة الارتداد ترجع بنا إلى الوراء في التاريخ الإسلامي كي نتعرف موقف الإسلام من المرتدين، فإن بعض الناس -في عصرنا هذا- يريد أن يجعل من الارتداد لونًا من حرية الرأي، يريد أن يجعل من الارتداد نوعًا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد:
ففي بدء الدعوة إلى الإسلام كان الذين يدخلون في هذا الدين يعتنقونه مخلصين، وتنشرح صدورهم به، فيتحملون من أجله الأذى والتعب، ولذلك لم يكن في مكة نفاق.
عندما بدأت الدعوة إلى الإسلام كان الناس أحد رجلين: إما رجل آمن بالله فهو يتحمل في سبيل إيمانه غربة الروح وتعب الذين تنكروا له وضاقوا به، أو رجل كافر يحارب الإسلام في صراحة ويضع العوائق في طريقه علانية، ومن هنا يقول التاريخ: لم يكن في مكة نفاق.
كان الناس إما مؤمنًا صريحًا أو كافرًا صريحًا، فلما انتقل الإسلام من مكة إلى المدينة دخل في مرحلة أخرى، ربما وجد ذوو الأطماع الذين يطلبون المال أو الوجاهة أو المظاهر، ربما وجدوا أنفسهم مسوقين إلى أن يلتحقوا بهذا الركب المتحرك، وربما زينت لهم مآربهم أن مغانم الدنيا في اللحاق به.
هؤلاء الذين التحقوا -وإيمانهم مزعوم أو واهن- أحرجتهم تعاليم الإسلام؛ ذلك لأنهم تظاهروا بالإيمان وقلوبهم منه خاوية، لكن الإيمان لا يدع أصحابه ينتسبون بأفواههم ويتمردون عليه بأعمالهم: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).
وكان الاختبار الذي محّص النفوس وسبر غورها، وكشف المعادن وبين زيفها، كان ذلك ما تضمنه الإسلام من تعاليم كثيرة، فإن شعب الإيمان شتى، والمؤمن عندما ينتسب إلى الدين فإنه يكلف بين الحين والحين أن يتردد على المسجد للصلاة، يكلف بين الحين والحين أن يدفع مالاً يطلب منه زكاة أو نفقة.
هذه التكاليف كانت بلاءً شديدًا على ضعاف الإيمان، فالمنافقون الذين طووا قلوبهم على الكفر -وإن أظهروا الإسلام- كان يضايقهم أن يُتفقدوا بين صفوف المصلين فلا يوجدون، كانوا يتكاسلون عن الذهاب إلى المسجد للصلاة الجامعة (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا)، وإذا كُلِّفوا بنفقة فدفعوها اعتبروا ما دفعوه غرامة موجعة، ورأوا أنفسهم مضطرين إلى دفعها فما ينتظرون عليها ثوابًا؛ لأنهم لا يؤمنون بالله ولا بما يدخر عنده، إنهم مكرهون: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
هذا النوع من الناس -من المنافقين- كان يحرجهم أمران شديدان جدًّا: الأمر الأول: الجهاد في سبيل الله، والأمر الثاني: الحكم بما أنزل الله.
فأما الأمر الأول: فإن الجهاد فريضة لتأمين الدعوة، وحماية المجتمع، وكسر عدوان الطاغين، ورفع راية التوحيد، هذا الجهاد -وفيه مشقات كثيرة، وتعريض النفس والمال للضياع- ما يرضى به أو يسرع إليه إلا مؤمن واثق من ربه، مُلْقٍ قياده إليه، ولذلك يقول -جل شأنه- في وصف المؤمنين والمنافقين: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ).
وكما كشف الجهاد عن طبائع المنافقين فإن إلزام الناس بشرائع الله كان يحرج القلوب الخادعة والأفئدة المنافقة، ويكشف ضعف صلتها بالإسلام، ولذلك أنزل الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
انكشفت ملامح النفاق عن طريق الوحي تارة، وعن طريق التكاليف التي حددت مواقف المؤمنين والكافرين تارة أخرى، وانتهى أمر المنافقين على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى واحد من أمرين: إما أن يؤمنوا إيمانًا صريحًا، وإما أن يتواروا فيما هم فيه فلا يشعر بهم أحد.
لكن بعد أن لحق النبي -عليه الصلاة والسلام- بالرفيق الأعلى انفجر الضلال انفجارًا رهيبًا في المجتمع الإسلامي، وكشف الكفر عن وجهه صراحة؛ إذ ارتد عدد كثير من الناس، وأخذ الارتداد صورة من صورتين: إما الرفض الصريح للإسلام، وإما القبول الجزئي للإسلام، والرفض للصلة العملية التي تربط بين الناس وبين الدولة المسلمة وهي الزكاة مثلاً.
تعرض الإسلام بعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام- لمحنة قاسية، غير أن الخلفاء الراشدين والسابقين الأولين والكتائب المؤمنة بربها، والرجال الذين أخلصوا قلوبهم لله وأسلموا وجوههم إليه، هؤلاء جميعًا التفوا حول أبى بكر الصديق وقاتلوا المرتدين، سواء كان الارتداد دعوة إلى الشرك أم رفضًا لدفع الزكاة.
أريد أن أشرح هنا شيئًا يعرف منه الارتداد؛ لأن موضوعنا الذي تدور عليه اليوم، ونريد أن نشرحه، ونحدد دائرته، ونبيّن مواقف الناس منه، ونحاكم المسلمين وغير المسلمين إليه، هو الارتداد.
ما هو الارتداد؟!
إن أحدًا يبخل بالزكاة، لأنه بخيل، لأن في نفسه كزازة، ولكنه إذا أكره على دفعها دفَعها ويده ترتعش أو ونفسه مضطربة، ولكنه يدفعها، يعزي نفسه بشتى الأمور، يمكن أن يقبل إسلامه، ولو أنه لم يدفعها وفر منها وتظاهر بالإسلام يمكن أن يوصف بأنه مسلم مريض القلب أو مسلم منحرف السلوك.
أما أن يقول أحد الناس: لا أدفع الزكاة، ولن أدفعها، ولن أسمح لأحد أن يطلبها مني، وسأوعز إلى الآخرين أن لا يدفعوها. فمعنى ذلك أن هذا الرفض تحول إلى عداوة مكشوفة حاسمة للوحي الإلهي والأمر الإلهي، وأن هذا الإنسان اختار في وضح النهار موقفه وأراد أن يجعل هذا الموقف وضعًا اجتماعيًّا مقررًا. ومن هنا فلا كلام في أنه مرتد، ارتد عن الإسلام ولو قال: إنه موحد، ما دام قد أعلن خلعه لربقة الإسلام في ركن من أركانه أو فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، فمعنى هذا أنه كفر كفرًا تامًا.
ولأضرب المثل من عالمنا الحالي: لو أن امرأة كاتبة قالت: أنا أرفض أن يكون الرجل أكثر حظًّا من المرأة في الميراث، إن هذا ظلم، إن هذا تحقير للمرأة، إن هذا نوع من الرجعية في رسم أوضاع الأسرة.
هذا كلام لا يقبل البتة أن يكون معه إيمان، ولا يمكن أبدًا أن نعد صاحبته مسلمة، هي بهذا مرتدة بيقين.
لو أن رجلاً من الناس رسم موقفه في الحياة على أنه لا يمكن أن تحرم الخمر، ولا يمكن أن يحرم الزنا، ولا يمكن أن تقطع يد السارق، ولا يمكن أن يجلد القاذف، ولا يمكن كذا وكذا. فهذا النوع من الناس -بموقفه هذا- أعلن بيقين أنه انسلخ عن الإسلام، ورمى ربقته من عنقه، وأصبح لا دين له ولو قال في بجاحة: أنا مسلم. إنه كاذب كاذب، هو مرتد بيقين، اتفق العلماء على أن إنكار معلوم من الدين بالضرورة كفر بالله واليوم الآخر.
قصة الارتداد ترجع بنا إلى الوراء في التاريخ الإسلامي كي نتعرف موقف الإسلام من المرتدين، فإن بعض الناس -في عصرنا هذا- يريد أن يجعل من الارتداد لونًا من حرية الرأي، يريد أن يجعل من الارتداد نوعًا من التفكير الذي ينبغي أن يأخذ حماية من القانون أو حماية من المجتمع، وبالتالي يريد أن يفرض نفسه على أنه شيء لا ينبغي أن يستغرب ولا أن يعترض.
قلت: إن مكة ما كان فيها نفاق، وقلت: إن المنافقين في المدينة كشف أمرهم، وفضحت أحوالهم، وبرئ الله ورسوله منهم، وأقيم المجتمع الإسلامي إقامة بنيت على الخُلّص من المؤمنين وعلى الواضح المستقر من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
في أثناء تكوين الدولة وبناء المجتمع حدثت حركات ردة جزئية أو موضعية، فمثلاً أراد اليهود أن يعبثوا بالإسلام وأن يصدوا الناس عنه وأن يمنعوا تهمة التعصب عن أنفسهم، فقال بعضهم للبعض الآخر: ما علينا من حرج لو أننا أعلنا الدخول في الإسلام بعض الوقت، وحتى ينتشر هذا الإعلان ويعرف الناس أننا دخلنا في الإسلام ولسنا متعصبين، ثم نرتد عنه ونقول: بدا لنا أنه دين غير صحيح، وبدا لنا أن هذا الدين ينبغي أن يترك، وإذًا فالناس سيتركونه جميعًا ويقولون: إن أهل الكتاب أعرف منا بطبائع الأديان وحقائقها، وما كان لديهم تعصب، فقد أسلموا ولكنهم وجدوا أن الإسلام لا يجدي فارتدوا.
في هذا الموقف يقول رب العالمين: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
حركات الارتداد المفتعلة من هذا النوع كان يجب أن تقاوم، ولذلك جاء حديث: "من بدل دينه فاقتلوه".
لقد كان اليهود آمنين على أنفسهم ما داموا يهود، أما أن يفتعلوا مؤامرة ليدخلوا الإسلام ثم ليخرجوا منه حتى يزلزلوا قواعده بهذا الأسلوب فلابد أن يعاقبوا.
هذه واحدة، شيء آخر لابد أن يعرف، وهو أن معاهدة الحديبية عندما عقدت أراد النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يتخلص من كل مهزوز الضمير ضعيف الإيمان في المدينة، فأباح لمن يرتد أن يخرج إلى مكة دون حرج، وما ارتد أحد، لقد تكشفت الأمور وعرف الناس الحق من الباطل.
لكن الارتداد على أنه نوع من حرية الرأي مسألة يجب أن تناقش، ونحن نناقش علنًا، لو أن امرأً كفر بالله وحده وبنى حياته الشخصية على ذلك، وزوى عنا جانبه، وطوى على الضلال قلبه، ما استطعنا أن نصنع له شيئًا، فإن القلوب إلى الله وهو علام الغيوب، وهو الذي يحاسب الناس على إخلاصهم أو غشهم، على إيمانهم أو كفرهم، لكن الإيمان في المجتمع الإسلامي هو وقود الدولة عندما تتحرك، وأساس المجتمع عندما ينهض، والرباط الذي يشد التعاليم ويصون الأمن ويقيم الحدود ويجمع الشمل، بمعنى أن الإيمان عندنا ليس رأيًا شخصيًّا، لا، لقد عرف القاصي والداني أن الإسلام عقيدة وشريعة، أن الإسلام إيمان ونظام، أن الإسلام عبادة ومعاملة، وليس في الدنيا مجتمع يسمح للمنتسبين إليه أن يعملوا المعاول في جدرانه لينقضوها ويهدوها، ليس في الدنيا دولة تقول للناس: من حق أي إنسان أن يسقطني أو أن يتمرد عليّ، أو أن لا ينفذ تعاليمي، أو أن يهدم قوانيني، أو ما إلى ذلك، ليس في الدنيا دولة تصنع هذا.
وعندما يقيم الإسلام دولته فهو يقيم حدودًا، ويضع قواعد، وبالتالي فإن الارتداد لن يكون حركة قلب زائغ، ولو اكتفى بهذا فإن الله يعلمه، وهو الذي يتولاه، ولكن الارتداد هنا سيكون محاولة لقلب نظام الدولة وهدم تعاليمها، وهو ما يرفضه الإسلام، وبالتالي فإن الإسلام جعل الارتداد يعاقب بالقتل.
الارتداد جريمة تسمى في العصر الحديث الخيانة العظمى، هل تسمح دولة من الدول أن تبيح لفرد من أفرادها تسليم أسرارها لأعدائها؟! هل تسمح دولة من الدول لواحد منها أن يعين أعداءها عليها أو ينقض نظامها؟! هذا ما لا يمكن، وذاك السر في أن الإسلام رفض الارتداد.
الارتداد عُرف فرديًّا، ولكنه في العالم العربي والإسلامي الآن يشكل تيارات جماعية، كيف؟!
إن الاستعمار العالمي عندما هجم على البلاد الإسلامية منذ قرون -أيًّا كان مصدره شرقيًّا كان أم غربيًّا- استهدف أن يقضي على الإسلام، والقضاء على الإسلام لا يلجأ إليه أصحابه بوسائل صبيانية أو طفولية، لا، إنهم لن يقولوا للناس: كفرنا بالله لأننا لم نجده، لن يقولوا للناس: كفرنا بمحمد لأنه بدا لنا أنه كذاب، لن يقولوا للناس: تركنا الإسلام لأنه رجعية.
إن هذه المشاقّة الصريحة تكشف جانبهم، وتعري نياتهم، وتعرضهم للفشل، ولكنهم يريدون أن يكفروا الناس بالله وبنبيه وبتعاليم الإسلام بأساليب ملتوية وبطرق مختلفة.
عندما دخل الاستعمار العالم الإسلامي استمات في أن يلغي في العالم الإسلامي شرائعه التي يقوم عليها، وأن يبيح فيه الخمر والخنا، وذلك حتى ينشر في كيان الأمم الإسلامية جراثيم العفن والضياع، وقد فعل ووصل في أغلب البقاع إلى ما يريد، لولا المقاومة الباسلة التي تبديها جماهير المؤمنين في أرجاء العالم الإسلامي، أولئك الذين أبوا أن يحنوا رؤوسهم للضلال، ورفضوا أن ينقادوا للتيار الآثم الفاسق الذي يتمرد على كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والذين جعلوا ولاءهم ومحبتهم لدينه وحرصهم على تعاليمه صبغة ثابتة في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، بقي هؤلاء -إلى الآن- يقاومون التيارات الآثمة الماجنة التي تريد أن تضيّع الإسلام وسط بلاده.
ثم هجم على المسلمين -وذاك قدر الله- اليهود في العصر الحديث، وبدأ الهجوم سياسيًّا أولاً ثم عسكريًّا أخيرًا، وتمكن اليهود من أن يقسموا الأرض الإسلامية قسمين، رموا بأحدهما شرقًا وبالثاني غربًا، واستطاعوا أن يفصلوا بين شرق العالم الإسلامي وغربه برًّا بإسرائيل التي أنشؤوها، وهم يريدون توسيع رقعتها شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا.
وظاهر أن اليهود لما هجموا لم يضعوا نقابًا على وجوههم، ولم يضعوا ستارًا على نياتهم، لقد جاؤوا معلنين بأنهم يهود، وبأنهم يريدون إقامة مملكة إسرائيل، لقد عالنوا بهذا في وقت كان قادة الفكر العربي والإسلامي في بلادنا يحاولون إبعاد الدين عن المجتمع، ويصفون الذين يتمسكون بالدين بالتأخر والرجعية. ولأضرب مثلاً يتكشف منه الناس بدقة ما وصلوا إليه وما يمكن أن يصلوا إليه إن لم يستيقظوا.
إن الضربات المتتابعة تنزل بالعالم الإسلامي والعربي بوصفه دماغ الإسلام وقلبه، وهذا العالم العربي يوشك أن يدخل في صراع دام مع اليهود، وهذا الصراع الدامي إذا بقيت الأمور تمشي على النحو الذي كانت تمشى عليه قديمًا فإن النتيجة ستتكرر، ونحن ما انتصرنا على اليهود في حرب إلى الآن؛ لأننا ما كنا نقاومهم بدين، بينما كانوا يهجمون علينا بدين، وما يفل الحديد إلا الحديد.
في بعض القرى أو في بعض الحارات يوجد ناس مجرمون أوغلوا في الجريمة، ما يعرفون غيرها، يجيئهم المجرم الصغير أو الغر يقول لهم: أنا آكل من اللصوصية -أنشل الركاب- ولكني سجنت، فيقولون له: دع النشل، وجرب السطو على البيوت ليلاً، ويعود بعد أن يأخذ عقوبة في السجن، فيقولون له: جرب تزوير النقد، ويجرب تزوير النقد ثم يعاقب ويجيء، فيقولون له: جرب القمار، إنهم يقولون له كل شيء إلا أن يقولوا له: جرب المشي على الصراط المستقيم، جرب أن تكسب رزقك من حلال، جرب أن تؤمن بالله وتكدح وتأكل من عرق جبينك، لماذا؟! لأنهم مجرمون موغولون في الإثم، ما للإيمان في قلوبهم أثر ولا لله في أفئدتهم من وقار ولا من خشية، فكيف ينصحون؟!
ويوجد الآن من يقول للعالم العربي: اعتمد على روسيا، اعتمد على أمريكا، اعتمد على فرنسا، اعتمد على إنجلترا، إنهم يكتبون كثيرًا في تضليل العالم العربي وفى إتاهته عن طريق الله، وما يقول أحدهم أبدًا للأمة المشردة الجريح المنكوبة: جربي الصراط المستقيم، جربي العمل بالإسلام والتجميع عليه، جربي أن تحاربي تحت راية التوحيد، جربي أن يكون القرآن المحور الذي تدور عليه حركة المقاومة وتنطلق منه جيوش التحرير، هؤلاء يقولون: أرسلوا للجنود صور الغانيات المومسات، لعل الجندي يموت وفي أحضانه صورة مومس.
إذا كان الغراب دليل قوم | يمر بهم على جيف الكلاب |
إن هؤلاء الذين يقودون حركة الفكر أو يمسكون بزمام القلم في العالم العربي إذا لم يكونوا مرتدين -وأنا أعلم أنهم مرتدون عن الإسلام-، فهم طابور خامس يعمل لحساب الاستعمار العالمي أيًّا كان نوعه أحمر أو أصفر، هؤلاء خطيرون على مستقبل أمتنا، وينبغي أن يكذبوا ويجبهوا عندما يرسمون وسائل الكفاح لبلدنا.
إن الناس تمسكوا بأديانهم، وليس الإسلام عارًا حتى يكون التمسك به مسبة، إن المرتدين من حملة القلم يريدون أن ننهزم في حرب رابعة وفي حرب خامسة لأنهم لا يعرفون إلا طريق الهزائم، إن الكتاب الذين يكرهون كل تجمع إسلامي ويضيقون به، هؤلاء لابد أن يعرف أنهم ارتدوا من قديم عن الإسلام، ليس لهم بالله إيمان، ما شرفت أجسادهم بسجدة لله في محراب للعبادة، هؤلاء يجب أن يُعرَفوا.
إن العودة إلى الإسلام لا تعني فقط نقل قضية فلسطين من الميدان العربي إلى ميدان أكبر منه، ولكنها تعني ما هو أخطر من ذلك، تعني أننا نحارب الخمول والبرود وعدم المبالاة وقلة الاكتراث والاستهانة بالقيم، إننا نحارب البلادة الشائعة، والفتور المنتشر، والاختلاسات والسرقات، والاستهانة بالمال العام.
أنا لو كنت عربيًّا مسيحيًّا ومخلصًا لبلدي لقلت للعرب: يا أهل البلد: إنكم في تاريخكم الماضي ما تكونتم أمة إلا بالإسلام، وما ارتفعت لكم راية، ولا نضرت وجوهكم كرامة إلا بالإسلام، وأنتم تواجهون دينًا يريد أن يقص أجنحتكم، بل أن يخلع قلبكم من بين أضلاعكم، ولابد أن تحاربوه بعقيدة، إن القوميات إلى الآن جربت نفسها وفشلت فلم لا يترك للإيمان أن يجمع؟! وللإسلام أن يتحرك وأن ترتفع رايته؟!
ما قال أحد من العقلاء أو دارسو التاريخ قديمًا وحديثًا: إن حرب فلسطين حرب سياسية أو حرب تجارية، لقد قيل قديمًا وحديثًا: إنها حرب دينية، حتى جاء التافهون ممن لا علم لهم ولا عقل يريدون تغيير التاريخ وتشويه الحقائق، فسموا الحروب الصليبية القديمة حروبًا تجارية أو سياسية، أصحابها قالوا: إنها صليبية، وآباؤنا قالوا: إنها صليبية، والإثارات كلها كانت دينية، حتى جاء التافهون في هذا العصر يقولون: إنها ما كانت حربًا دينية!! هذا الكذب عل التاريخ إلى متى؟! حتى تضيع العواصم كلها وتسقط المدينة المنورة في أيدي اليهود؟! لابد أن تصحو الأمة، لابد أن يكون التجميع على الإسلام، ما دامت الحرب يهودية علنية فليكن الدفاع إسلاميًّا علنيًّا، نربي على الإسلام، نجمع على الإسلام، نستثير الشعوب الإسلامية في الشرق والغرب، إن الحرب عندنا في فلسطين لاستنقاذ المسجد الأقصى حرب دينية، والمسجد الأقصى ليس ملك بعض القبائل في (الدلتا) أو في (الصعيد) أو في (الأردن) أو في (سوريا)، إنه بيت الله وملك المسلمين قاطبة.
الحرب دينية، ويجب أن تأخذ طابعها، وأن يكون التجميع باسم الإسلام وعليه، والمسيحيون العرب بين أمرين: إن شاؤوا الوفاء لذمتهم وأرضهم وكانوا إلى جوارنا في هذه الحرب فبها ونعمت، وإلا فليتركونا وليصمتوا وما نلومهم، وإذا كنا -نحن المسلمين- عجزة عن القتال إلا بهذا العون، فبطن الأرض خير من ظهرها، إما أن نحيا -كما نريد- باسم الإسلام، أو لنمت كما نريد. أما أن نسمع للكذابين يكتبون في الصحف الكثير عن الحرب وأطوارها وأوهامها وما ينتظر منها وما يرجى لها، وما يفكر أحد من هؤلاء في ذكر الله ولا العودة بالأمة إلى كتابه ولا استثارة المشاعر الدينية الرابية النامية من أربعة عشر قرنًا في أرضنا، فهذا ما لا ينبغي أن يكون.
هؤلاء قادونا إلى العار قديمًا، ولا تزال دور هذه الصحف كعشش البوم، ما ينعق فيها إلا طلاب الخراب لهذه الأمة، فلنحذرهم على ديننا وعلى بلدنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.