البحث

عبارات مقترحة:

الحفي

كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...

التواب

التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...

المقيت

كلمة (المُقيت) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أقاتَ) ومضارعه...

لا تنتظر .. قدم معروفا وارفع رصيدك

العربية

المؤلف حسان أحمد العماري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. أمر الإسلام بصنع المعروف والمسارعة فيه.
  2. اشتهار النبي بالمعروف قبل وبعد البعثة.
  3. ثمرات بذل المعروف وعواقب الإحجام عنه .
  4. قصة في صناعة السعادة التي نحتاجها .
  5. بعض الطرق لتحقيق عبادة بذل المعروف .
  6. حث فئات المجتمع على بذل المعروف. .
اهداف الخطبة
  1. حض الأفراد والمجتمع على بذل المعروف
  2. بيان أن بذل المعروف عبادة يترتب عليها الأجر العظيم
  3. بيان حاجتنا لصنع السعادة.

اقتباس

لقد اقتضت تشريعات الإسلام وأحكامه أن لا يعيش المسلم لنفسه وحسب بل لا بد أن يتعدى نفعه وخيره للآخرين، ويقدم ما يستطيع من أعمال ينتفع بها الناس من حوله، وأن يكون... ومرت الأيام والأسابيع وكل منهما سعيد بصاحبه، وفي أحد الأيام جاءت الممرضة صباحاً لخدمتهما كعادتها، فوجدت المريض الذي بجانب النافذة قد قضى نحبه خلال الليل وفارق الحياة، ولم يعلم الآخر بوفاته إلا من خلال حديث الممرضة عبر...

الحمد للهِ حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن. 

ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- حق.

اللهم لك أسلمنا وبك آمنا، وعليك توكلنا، وبك خاصمنا، وإليك حاكمنا، فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

إنَّ الملوكَ إذا شـابَتْ عبيدُهُمُ

في رقِّهِمْ عَتَقُــوهُمْ عِتْقَ أَبْرَارِ
وأنْتَ يا خالقي أوْلَى بذا كَرَمَاً قَدْ شِبْتُ في الرِّقِّ فاعْتِقْنِي مِن النار

وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين.

فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعـد: عبــــــاد الله: لقد اقتضت تشريعات الإسلام وأحكامه أن لا يعيش المسلم لنفسه وحسب بل لا بد أن يتعدى نفعه وخيره للآخرين، ويقدم ما يستطيع من أعمال ينتفع بها الناس من حوله، وأن يكون عنصراً فعالاً في مجتمعه وأمته؛ فيقدم من وقته وجهده وماله لخدمة الآخرين، ونفعهم، وإدخال البهجة والسرور عليهم.

وجعل الإسلام هذه الأعمال والأفعال والسلوكيات دينا يتعبد به المسلم ربه، ورتب الله على ذلك الجزاء العظيم في الدنيا والآخرة، قال -تعالى-: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) [الأنبياء:73].

وأمر -سبحانه وتعالى- بفعل الخير وإسداء المعروف، وجعل ذلك من سمات الفلاح، فقال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج:77].

بل دعا -سبحانه- إلى المسارعة والمسابقة في فعل الخير وتقديم النفع، فقال -تعالى-: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة:148]، وقال -تعالى-: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [المائدة:48].

وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن كل عمل وكل حركة وكل سلوك يقوم به المسلم فإنه يؤجر عليه، قال -صلى الله عليه وسلم-: "كل سلامي من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس، تعدل بين اثنين صدقة، تعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة" متفق عليه.

والناس معادن، كل واحد منهم يحمل بين جوانحه قيما وأخلاقا تعبر عن شخصيته، وإن منهم مفاتيح للخير ومغاليق للشر، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير؛ فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه" حسنه الألباني.

إن مشاغل الحياة ومشاكلها وظروفها وأحوالها تقتضي أن يتعاون الناس مع بعضهم، وأن ينفع بعضهم بعضاً، وأن يبذل المعروف من يقدر عليه دون أن يطلب أحد منه ذلك، ولا ينتظر من الآخرين أن يكافئوه أو يشكروه، فالإنسان العظيم لا ينتظر جزاءه ممن حوله؛ بل غايته أسمى وهدفه أكبر من ذلك، ويكفيه ثواب الله ورضـاه.

هذا موسى -عليه السلام- في أرض لا يعرف فيها أحدا وهو خائف ومطارد من فرعون وجنوده، ومع ذلك لم يتأن وهو يرى امرأتين ضعيفتين لا تسقيان بسبب الزحام وكثرة الرجال، فبادر إلى بذل المعروف وتقديم النفع فسقى لهما، قال -تعالى-: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص:23-24].

سقى لهما ثم تولى إلى الظل ليشكر الله على ما حباه من النعم، وهيأ له من الأسباب لنفع الآخرين.

وكم دعا -صلى الله عليه وسلم- هذه الأمة إلى بذل المعروف وتقديم النفع للآخرين، وكم حثهم على ذلك ورغبهم في هذا العمل؛ بل وتمثل هذا الخلق وهذا السلوك واقعاً عملياً في الحياة، فنفع الله به الصغير والكبير، والرجل والمرأة، والمسلم والكافر، والطير والحيوان.

ولذلك؛ لما عرض جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- فقال: "زملوني زملوني"؛ فزملوه حتى ذهب عنه الروع.

فقال لخديجة وأخبرها الخبر: "لقد خشيتُ على نفسي"، فقالت خديجة وقد بينت خصال المعروف التي قدمها لمن حوله: كلا! والله ما يخزيك الله أبداً! إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على النوائب. رواه البخاري ومسلم.

ولذلك اقتدى به -صلى الله عليه وسلم- خلق كثير من أمته، وساروا على نهجه، فظهر في تاريخ أمتنا عظماء، رجالاً كانوا أو نساء، حكاماً أو محكومين، قدموا المعروف، وبذلوا الخير لمن حولهم؛ فنفع الله بهم البلاد والعباد، وخلد التاريخ ذكرهم إلى قيام الساعة، فهذه هي أمة الخير والعطاء.

أيها المؤمنــون عبـــاد الله: لقد جعل الله -سبحانه وتعالى- الأمر بالمعروف من العلامات التي يعرف أهل الكتاب بها النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال -عز وجل-: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) [الأعراف:157].

ثم أمر المسلمين بما أمر به نبيهم -عليه الصلاة والسلام- فقال: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104].

وإن منع الآخرين من الانتفاع بما تقدر عليه وتستطيعه ولا تحتاج إليه له عاقبة وخيمة، فإلى جانب سخط الناس وبغضهم، فإن الله -سبحانه- يجازي العباد على أفعالهم جزاء وفاقاً.

فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم"، فذكر منهم: "ورجل منع فضل ماء، فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك" رواه البخاري.

إن سيد القوم خادمهم، هكذا قالت العرب قديماً؛ ولذلك لما سأل أعرابي أناساً من أهل البصرة: من سيد القوم في بلدكم؟ فقالوا: الحسن، أي: البصري. فقال: بم سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه فنفعهم، واستغنى هو عن دنياهم. والله -تعالى- يقول: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) [الرعد:17].

وعن أبى ذر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق" رواه مسلم.

في أحد المستشفيات شاءت أقدار الله أن يجتمع مريضان في غرفة واحدة، كان بهما أمراض متعددة منعتهم عن الحركة، فكل واحد على سريره، لا يستطيع أحدهما أن ينظر إلى صاحبه بجانبه، وكانت لغة التواصل بينهما هي الكلام فقط.

كان أحدهما بجانب النافذة، وكان مسموحاً له بالجلوس في سريره لمدة ساعة يوميا بعد العصر، أما الآخر فكان عليه أن يبقى مستلقياً على ظهره طوال الوقت.

كان هذا المريض الذي سمح له بالجلوس على النافذة ساعة كل يوم يستغل هذا الوقت لينقل لصاحبه ما يدور في هذا العالم، وكان الآخر ينتظر هذه الساعة كما ينتظرها الأول، لأنها تجعل حياته مفعمة بالحيوية وهو يستمع لوصف صاحبه للحياة في الخارج.

في يوم يصف الشارع، وفي يوم آخر يصف حركة الناس، وفي يوم يصف حالة الجو، وفي يوم يصف الأطفال والمناظر الجميلة والحدائق الغناء، وهكذا. وكان المريض الآخر يشعر بالسعادة والراحة.

ومرت الأيام والأسابيع وكل منهما سعيد بصاحبه، وفي أحد الأيام جاءت الممرضة صباحاً لخدمتهما كعادتها، فوجدت المريض الذي بجانب النافذة قد قضى نحبه خلال الليل وفارق الحياة، ولم يعلم الآخر بوفاته إلا من خلال حديث الممرضة عبر الهاتف وهي تطلب المساعدة لإخراجه من الغرفة؛ فحزن على صاحبه أشد الحزن.

وعندما وجد الفرصة مناسبة طلب من الممرضة أن تنقل سريره إلى جانب النافذة، ولما لم يكن هناك مانع فقد أجابت طلبه.

ولما حانت ساعة بعد العصر وتذكر الحديث الشيق الذي كان يتحفه به صاحبه بكى لفقده، ولكنه قرر أن يحاول الجلوس ليعوض ما فاته في هذه الساعة، وتحامل على نفسه وهو يتألم، ورفع رأسه رويداً رويداً مستعيناً بذراعيه، ثم اتكأ على أحد مرفقيه، وأدار وجهه ببطء شديد تجاه النافذة لينظر إلى العالم الخارجي، وهنا كانت المفاجأة!.

لم ير أمامه إلا جداراً أصم من جدران المستشفى، فقد كانت النافذة على ساحة داخلية! سأل الممرضة: هل كانت هذه هي النافذة التي كان يجلس لينظر منها صاحبي؟ قالت: نعم، قال: لكنه كان يصف لي كل شيء جميل في هذه الحياة، وحكى لها ما كان يدور بينهما، وهنا كان تعجُّب الممرضة أكبر، فقالت له: ولكن المتوفى كان أعمى ولم يكن يرى حتى هذا الجدار الأصم! ولعله أراد أن يجعل حياتك سعيدة حتى لا تُصاب باليأس فتتمنى الموت.

أي عظمة هذه؟ وأي مروءة؟ إنه لم يبخل على صاحبه حتى بالشعور والأحاسيس، وبذل من أجله المعروف، وساعده ونفعه بأقصى ما يستطيع.

فلماذا لا يقوم كل واحدٍ منا بواجبه تجاه الآخرين من حوله حتى يكون من أهل المعروف الذين تفتح لهم أبواب السماء ويتجاوز عنهم الرب -جل جلاله- في يوم لا ينفع فيه إلا أعمال تبيض الوجوه، وترفع الدرجات؟.

عن حذيفة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم فقالوا: أعملت من الخير شيئاً؟ قال: لا. قالوا: تذكر، قال: كنت أداين الناس فآمر فتياني أن ينظروا المعسر ويتجوزوا عن الموسر، قال: قال الله: -عز وجل- تجوزوا عنه".

وفي رواية عند مسلم: "فقال الله: أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي" رواه مسلم.

إن سعادتك وراحتك تكمن في أن تدخل السرور على قلوب الآخرين، وترسم البسمة على وجوههم، وتشعر بالارتياح عند تقديم العون لهم، وتستمتع باللذة عند الإحسان إليهم.

قال عبدان بن عثمان الأزدي: "ما سألني أحدٌ حاجة إلا قمت له بنفسي، فإن تم؛ وإلا قمتُ له بمالي، فإن تمَّ؛ وإلا استعنت بالإخوان، فإن تم؛ وإلا استعنت بالسلطان".

عبــــــاد الله: إنَّ لبذل المعروف وتقديم النفع ثمراتٍ في الدنيا والآخرة تعود على من يقوم بهذا الخلق، وعلى المجتمع من حوله، فمن ذلك: صرف البلاء وسوء القضاء في الدنيا والآخرة؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة" رواه ابن ماجة.

ومن ذلك دخول الجنة؛ روي عن أبي أمامة -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وإن أول أهل الجنة دخولاً أهل المعروف" رواه الطبراني في الكبير.

وعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس" رواه مسلم.

ومن ذلك مغفرة الذنوب، والنجاة من عذاب وأهوال الآخرة؛ فعن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينا رجل بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء، فسقى الكلب؛ فشكر الله له فغفر له"، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجراً؟! فقال: "في كل ذات كبد رطبة أجر" مسلم.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخذه، فشكر الله له فغفر له" رواه البخاري.

إن بذل المعروف وتقديم النفع عبادة أحاطها النبي -صلى الله عليه وسلم- بآداب تضبطها وتحافظ عليها، وأولها أن يعي المسلمون أن بذل المعروف معاملة مع الله، لا توزن بالقلة والكثرة، بل تحمد عند الله على كل حال، فقليلها عنده كثير، وهين العمل عند الرب الكريم كبير: "فاتقوا النار ولو بشق تمرة" رواه البخاري.

يقول جابر بن سليم الهُجيميّ: أتيت رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول اللّه، إنّا قوم من أهل البادية، فعلّمنا شيئًا ينفعنا اللّه -تبارك وتعالى- به. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحقرنّ من المعروف شيئًا؛ ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تكلّم أخاك ووجهك إليه منبسط" رواه أحمد.

وبمثل هذا التعليم لأهل البادية علم -صلى الله عليه وسلم- أهل الحضر، فقال: "يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة" رواه مسلم.

ذكر عن علي زين العابدين، أن أناسا من أهل المدينة كانوا لا يدرون من أين معايشهم، فلما مات فقدوا ذلك الذي كان يأتيهم بالليل -من طعام وغيره-، ولما غسلوه -رحمه الله- وجدوا بظهره أثراً مما كان ينقله بالليل إلى تلك البيوت. "سير أعلام النبلاء".

وهذا عبد الله بن المبارك كان ينفق من ماله على الفقهاء، وكان من أراد الحج من أهل مرو إنما يحج من نفقة ابن المبارك، كما كان يؤدي عن المدين دينه ويشترط على الدائن أن لا يخبر مَدِينَهُ باسمه. "سير أعلام النبلاء".

فاللهم وفقنا لطاعتك وحسن عبادتك. قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطــبة الثانية:

عبـاد الله: إن باب المعروف كبير وواسع، وأعماله لا تكاد تحصر، وطرقه كثيرة جداً؛ فالكلمة الطيبة معروف، وتقديم النفع معروف، والنصيحة معروف، وتطييب الخاطر وإدخال السرور معروف، وتقديم المصلحة العامة على الخاصة معروف، وكف الأذى ومساعدة الآخرين والعفو والتسامح ولين الجانب معروف، والتبسم وبشاشة النفس تجاه الآخرين معروف، وقضاء الحاجة وسداد الدين وإطعام الطعام معروف.

فلنحرص على بذل المعروف، وتقديم النفع، فأبواب الخير في هذا الجانب كثيرة، والموفق من وفقه الله إلى كل خير.

وكم ستجني هذه الأمة ويجني الفرد والمجتمع من هذا الخلق! وكم من قضايا ومشاكل تعصف بالناس عصفاً سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية سيجد الناس لها حلاً! وكم ستقوى الروابط والأواصر بين أفراد المجتمع وينتشر الحب والتراحم وتطيب نفوسهم وتسعد أيامهم! وكم من حقوق سترد لأصحابها! وكم من مظلوم ستظهر براءته ويُزال الظلم عنه! وكم من ضعيف سيجد القوة في هذا المعروف عدلاً ورحمة! فقدموا المعروف وابذلوا النفع وارفعوا رصيدكم عند الله وعند الناس وأمم الأرض من حولكم.

عبــاد الله: إننا بحاجة إلى مثل هذه الأخلاق في زمن أصبح المعروف ضعيفاً في حياتنا، وربط الكثير من الناس أعمالهم بالمنافع والمصالح والمكاسب المادية حتى ساءت الأحوال بين الناس، وفسدت الكثير من العلاقات، وظهرت الكثير من الأمراض الاجتماعية.

وإنه لينبغي علينا أن نقدم ما نستطيع للآخرين من حولنا ولمجتمعاتنا ولأمتنا من الخير والمعروف، ونساهم بجد في صناعة السعادة في النفوس، كل واحد بما يستطيع وبما حباه الله من نعم.

عن أبي موسى الأشعري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "على كل مسلم صدقة"، فقالوا: يا نبي الله، فمَن لم يجد؟ قال: "يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق"، قالوا فإن لم يجد؟ قال: "يعين ذا الحاجة الملهوف"، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: "فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر؛ فإنها له صدقة" رواه البخاري.

فيا أيها السياسيون، ويا أيها الحكام، ويا قادة الأحزاب والجماعات، ويا شيوخ القبائل: ابذلوا المعروف لمجتمعاتكم بصدق، وساهموا في حفظ الدماء والأعراض والأموال ورأب الصدع وحل الخلاف، بمعروف تقدموه بين يدي الله، وعمل عظيم يسجل في تاريخ العظماء.

ويا أيها العلماء: قوموا بالمعروف وعلموا الناس دينهم وعقيدتهم، وقولوا كلمة الحق، وكونوا ورثة الأنبياء بعملكم الصالح الذي ينفع الله به البلاد والعباد.

ويا أيها التجار، يا أرباب الأموال، يا من أنعم الله عليكم: أمتكم ومجتمعاتكم ينهشها الفقر والجوع والتخلف العلمي والبطالة، ابذلوا المعروف، وقدموا ليوم لا ينفع فيه دينار ولا درهم، إلا العمل الصالح.

ويا أيها الإعلاميون، يا أهل الصحافة، يا أصحاب القنوات الفضائية: ألا يكفي تفريق الأمة وزعزعة دينها وعقيدتها ووحدتها؟ ألا يكفي إثارة الأحقاد والضغائن والطائفية والمناطقية وتخدير الأمة وتسفيه أحلامها بما يقدمه الكثير في برامجهم ومقالاتهم؟ أين معروفكم بتربية الأمة وتثقيفها وتعليمها وتوحيدها والانتصار للحق ومصالح الأمة وثوابتها؟.

ويا أيها الصغار والكبار، يا أيها الرجال، ويا أيتها النساء: اصنعوا السعادة، وقدموا المعروف لمن حولكم، وساهموا في صلاح مجتمعاتكم ورقي أمتكم، هذا واجب الجميع.

فاللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا غاية رغبتنا، واجعل الحياة زيادة لنا من كل خير، ووفقنا للقيام بالمعروف، وتقبل منا أعمالنا، وأصلح نياتنا، وألّف بين قلوبنا، ووحد صفنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].

اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن أزواجه وآل بيته الطيبين الطاهرين، وعن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين.