الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
العربية
المؤلف | عمر القزابري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وأنفعُ الفكرِ الفكرُ في مصالح الميعاد، وطرق اجتلابها، وفي دفع مفاسد الميعاد، وطرق اجتنابها... فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها، وفي الدنيا وخستها وفنائها؛ أثمر له ذلك الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا، وكلما فكر في قصر الأمل وضيق الوقت أورثه ذلك الجد والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام الوقت؛ وهذه...
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالمـــُلك الأعزِّ الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا وراءه مَرْمَى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدُّسًا لا عُدْمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما.
وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عُربًا وعجمًا، أزكاهم محتدًا ومَنْمَى، وأشدهم بهم رأفة ورُحمى، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وزكَّاهُ روحًا وجسمًا، وآتاه حِكمة وحُكمًا، فآمن به وصدَّقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: إن ذكر الله -عز وجل- محمود لسببه، ومحمود لعاقبته، فأما السبب فحب الله، وأما العاقبة فرضا الله، وهو دليل حضور قلبي دائم متصل بالله، منصرف عن شواغل الدنيا وعوالق الأقدار، فالذكر رفعة وسناء، ومدحة وثناء، وفق الله له أهل محبته الذين وسمهم بالرشد ونظمهم في سلك أولي الألباب.
أما الغفلة فشُرودٌ وانفراط وانسلاخ عن حقائق الأمور، فمن نظر في الدنيا نظرة فهم واستيعاب لا نظرة سطحية وانكباب عرف أن هذه الدنيا إنما هي لعبة واهية، من أطاعها قذفته في الهاوية، والاستعلاء عليها لا يتم إلا بمعرفتها ومعرفة حقيقتها، وهل تعرف الحقائق إلا من خلال كتاب الله؟ (إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) [محمد:36، الحديد:20]، (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا) [الكهف:45].
فكلّ ما تراه أمامك في هذه الدنيا من متاع وزخارف سيصير هشيما حصيدا لا قيمة له، كأن لم يكن يوما شيئا، وإنما الاعتبار بفهم الأسرار، والأسرار أودعها الله بين ثنايا كتابه المسطور وكتابه المنظور، كتابه المسطور قرآن متلوّ، وكتابه المنظور كون مجلوّ، ومن تأمل العاقبة، لزم الطريق الصائبة.
وكنا قد تكلمنا في خطب سابقة عن الذكر وفضائله، وذكرنا بعض وسائل الشيطان في الصد عن ذكر الرحمن.
واليوم -إن شاء الله- سنتحدث عن لون آخر من ألوان الذكر، إنه "التفكر"، والتفكر محمود وممدوح، قال -تعالى-: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:190-191].
عن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة -رضي الله عنها- فقالت لعبيد بن عمير: قد آن لك أن تزورنا؟ قال: أقول يا أمّه كما قال الأولُ: "زُر غِبًّا تزدد حبًّا"، قال: فقالت: دعونا من رطانتكم هذه.
قال ابن عمير: أخبرينا بأعجب شيء رأيتِهِ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: فسكتت، ثم قالت: لما كانت ليلة من الليالي قال: "يا عائشة، ذريني أتعبد الليلة لربي". قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما سرك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجره، قالت: ثم بكي فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، قالت: ثم بكي فلم يزل يبكي حتى بل الأرض.
فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبدا شكورا؟ لقد نزلت علَيّ الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها! (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ...) الآيات".
والتفكر له عدة اتجاهات، منها ما يتعلق بعظمة الله ونعم الله، ومنها ما يتعلق في الإعجاز المبسوطةُ صورُهُ في كل ما يحيط بنا، ومنها ما يتعلق بمصير الإنسان ومعاده ورحلته إلى الدار الآخرة، وما في ذلك من موت وبرزخ وحشر وميزان وصراط وغير ذلك، وهذا من أعظم اتجاهات التفكر، ومن أكثرها نفعا، وأجلها قدرا؛ قال -تعالى- مادحا بعض أنبيائه الكرام: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) [ص:45-46].
قال المراغي -رحمه الله- في تفسيره لهذه الآية: "(إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ)، أي: إنا جعلناهم خالصين لطاعتنا، عاملين بأوامرنا ونواهينا، لاتّصافهم بخصلة جليلة الشأن لا يساويها غيرها من الخصال، وهي تذكرهم الدار الآخرة، فهي مطمح أنظارهم، ومطّرح أفكارهم في كل ما يأتون وما يذرون ليفوزوا بلقاء ربهم، وينالوا رضوانه في جنات النعيم".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وأنفعُ الفكرِ الفكرُ في مصالح الميعاد، وطرق اجتلابها، وفي دفع مفاسد الميعاد، وطرق اجتنابها... فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها، وفي الدنيا وخستها وفنائها؛ أثمر له ذلك الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا، وكلما فكر في قصر الأمل وضيق الوقت أورثه ذلك الجد والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام الوقت؛ وهذه الأفكار تعلي همته، وتحييها بعد موتها وسفولها، وتجعله في وادٍ والناس في وادٍ" اهـ.
قال أبو سليمان -رحمه الله-: "عوّدوا أعينكم البكاء، وقلوبكم التفكر". وقال الشافعي -رحمه الله-: "استعينوا على الكلام بالصمت، وعلى الاستنباط بالفكر". وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: "ركعتان مقتصدتان في تفكُّرٍ خيرٌ من قيام ليلة بلا قلب".
وقال مغيث الأسود: "زوروا القبور كُلّ يومٍ تفكّركم، وشاهدوا الموقف بقلوبكم، وانْظُرُوا إلى الْمُنْصَرَفِ بالفريقين إلى الجنة أو النار، وأَشْعِروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها"، وكان يبكي عند ذلك حتى يرفع صريعا من بين أصحابه قد ذهب عقله.
فتخيل نفسك يا عبد الله وأنت في نزع الموت وكربه وغصصه وسكراته وغمه وقلقه، وقد أخذ الملَك يجذب روحك من قدمك فأحسست ألم جذبه من أسفل قدميك ثم تواصل الجذب وتتابع النزع، حتى إذا بلغ منك الكرب منتهاه، وعمت آلام الموت جميع جسمك، وقلبك وجل محزون مرتقب منتظر للبشرى من الله بالرضا أو الغضب، وقد علمت أنه لا بد لك أن تسمع إحدى البشريين من الموكل بقبض روحك.
فبينما أنت في كربك وغمومك وقد وجدت ألم السكرات، واشتد حزنك لارتقابك إحدى البشريين من ربك، إذ نظرت إلى صفحة وجه ملك الموت بأحسن الصورة أو بأقبحها، ونظرت إليه ماداً يده إلى فيك ليخرج روحك من بدنك، فذلت نفسك لمـــّا عاينت ذلك وعاينت وجه ملك الموت، وتعلق قلبك بما سيفجؤك من البشرى، إما أن تسمع: أبشر يا ولي الله برضا الله وثوابه، أو: أبشر يا عدو الله بغضبه وعقابه.
فتستيقن حينئذٍ بنجاحك وفوزك، ويستقر الأمر في قلبك، فتطمئن إلى الله نفسك، وتحب لقاء الله؛ أو تستيقن بعطبك وهلاكك، وينقطع من الله رجاؤك وأملك، فيلزم حينئذٍ غاية الهم والحزن أو الفرح والسرور قلبك، حين انقضت من الدنيا مدتك، وانقطع منها أثرك، وحُملت إلى دار مَن سَلَفَ من الأمم قبلك.
ثم تخيل جلستك في ضيق قبرك وقد سقطت أكفانك على حقويك وحيدا فريدا لا أنيس ولا جليس، ولا شفيق ولا رفيق، إلا ما كان من عملك، ثم تخيل مطلع الملكين وسؤالهما فيه عن إيمانك بربك، فمثبت من الله جل ثناؤه بالقول الثابت، أو متحير شاك مخذول.
فتخيل ذلك؛ ثم شخوصك ببصرك إلى صورهما وعظم أجسامهما، فإن رأيتهما بأحسن صورة أيقن قلبك بالفوز والنجاة، وإن رأيتهما بأقبح صورة أيقن قلبك بالهلاك والعطب.
ثم تخيل وأنت ترى منزلتك من قبرك إما جنة عالية يأتيك من رَوحها وريحانها، أو نار موقدة ترى عذابها وتسمع زفيرها عياذا بالله الواحد الأحد! فتخيل سرور قلبك وفرحك بما عاينت من نعيم الجنات وبهجة ملكها وعلمك أنك صائر إليها، وإن تكن الأخرى فتخيل خلاف ذلك من الرعب والخوف والحزن والألم، فأعظِمْ بهذا خطرا! وأعظِمْ به عليك في الدنيا غماً وحزناً! حتى تعلم أي الحالتين في القبر حالك.
ثم الفناء والبلاء بعد ذلك حتى تتقطع الأوصال فتفنى عظامك، ويبلى بدنك، ولا يبلى الحزن أو الفرح من روحك، مترقبا بروحك بالقيام عند النشور، إما إلى رضا الله -عز وجل- وثوابه، أو إلى غضبه وعقابه.
وأنت، مع توقع ذلك معروضةٌ روحك على منزلك من الجنة أو مأواك من النار، فيا حسرات روحك وهمومها! أو يا غبطتها وسرورها!.
حتى إذا تكاملت عدة الموت، وخلت من سكانها الأرض والسماء فصاروا خامدين بعد حركاتهم فلا حس يسمع، ولا شخص يرى، وقد بقي الجبار الأعلى كما لم يزل أزليا واحدا منفردا بعظمته وجلاله وعزته وكبريائه.
قد انتهى كل شيء، وقد هلك كل شيء، وقد باد كل شيء، أين الملوك؟ أين الجبابرة؟ أين الطغاة؟ أين الوجهاء؟ أين الأقوياء؟ أين الأمم؟ أين القصور؟ عندها ينادي الملك الجبار: لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ فيجيب نفسه بنفسه: لله الواحد القهار.
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين! آمين! آمين! والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله المتفرد بالبقاء، الذي له الكبرياء في الأرض والسماء، حكم على الكل بالفناء، فليس لأحد فيها بقاء.
والصلاة والسلام على سيد الأنبياء، وإمام الأتقياء، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى جميع إخوانه من الأنبياء، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم اللقاء.
ثم تخيل نفسك وأنت في برزخك في سعادتك أو شقائك، ثم لم يفجأ روحك إلا نداء المنادي لكل الخلائق لميعاد العرض على الله -عز وجل- بالذل والصغار منك ومنهم، فتخيل كيف وقوع الصوت في سمعك وقلبك وعقلك، تدرك ساعتها بأنك تدعى إلى العرض على الملك الأعلى العظيم الأجلّ؛ فطار فؤادك، وارتعدت أعضاؤك، وشاب رأسك للنداء؛ لأنها صيحة واحدة للعرض على جبار الأرض والسماوات.
فبينما أنت فزع للصوت إذ سمعت بانفراج الأرض عن رأسك، فوثبت مغبراً من قرنك إلى قدمك بغبار قبرك قائماً على قدميك شاخصاً ببصرك نحو النداء، وقد قام الخلائق معك قومة واحدة وهم مغبرون من غبار الأرض التي طال فيها بلاؤهم.
فتخيل نفسك بعُريك ومذلتك، وانفرادك بخوفك وأحزانك وغمومك وهمومك في زحمة الخلائق، عراةً حفاة صامتين من الذلة والمسكنة والمخافة والرهبة، فلا تسمع إلا همس أقدامهم، والكل متجه نحو الصوت، وأنت معهم مقبلا نحو الصوت، ماشياً بالخضوع والخشوع والذلة، حتى إذا وافيت الموقف ازدحمت الأمم كلها من الجن والإنس عراة حفاة.
ثم أقبلت الوحوش من البراري، وترى الجبال منكسة رؤوسها لذل يوم القيامة مع أنها ليست لها خطيئة، وأقبلت السباع بعد ضراوتها وشهامتها منكسة رؤوسها ذليلة ليوم القيامة، حتى وقفت من وراء الخلائق للذل والمسكنة والانكسار للملك الجبار.
وأقبلت الشياطين بعد عتوها وتمردها خاشعة لذل العرض على الله، فسبحانه الذي جمعهم بعد طول الفناء، واختلاف خلقهم وطبائعهم وتوحُّش بعضهم من بعض، قد أذلهم البعث وجمع بينهم النشور.
حتى إذا تكاملت عدة أهل الأرض من إنسها وجنها وشياطينها ووحوشها وسباعها وأنعامها وهوامها، واستووا جميعا في موقف العرض والحساب، تناثرت نجوم السماء من فوقهم، وطمس الشمس والقمر.
فبينما أنت والخلائق على ذلك إذا بالسماء بعظمتها تنشق وتنفطر، فيا هول صوت انفطارها في سمعك! والملائكة قيام على أرجائها وجنباتها، فما ظنك بهولٍ تنشق فيه السماء بعظمها! فأذابها ربها حتى صارت كالفضة المذابة تخالطها صفرة ليوم فزع القيامة، كما قال الجليل: (فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) [الرحمن:37]، وقوله: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ) [المعارج:8-9]
فتخيل: تنزل الملائكة من السحاب بعظم أخطارهم، وكبير أجسامهم، وهول أصواتهم، وشدة خوفهم، منكسين لذل العرض على الله، حتى إذا وافى الموقف أهل السماوات السبع والأرضين السبع، كسيت الشمس حرا شديداً، وأدنيت من رؤوس الخلائق قاب قوسين أو أدنى، ولا ظل لأحد في ذلك اليوم إلا ظل عرش الرحمن، فما بين مستظل بظل العرش، وبين من قد صهرته الشمس بحرها، واشتد كربه وقلقه من وهجها.
ثم ازدحمت الأمم، وتدافعت، وتضايقت، فاختلفت الأقدام، وانقطعت الأعناق من العطش، واجتمع حر الشمس ووهج الأنفاس وتزاحم الأجسام، ففاض العرق منهم سائلا، حتى استنقع على وجه الأرض، ثم على الأبدان، على قدر مراتبهم ومنازلهم عند الله -عز وجل-،
فمنهم من يبلغ العرق كعبيه، وبعضهم حقويه، وبعضهم شحمة أذنيه، ومنهم من كاد أن يغيب في عرقه.
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرجل ليقوم يوم القيامة في بحر رشحه إلى أنصاف أذنيه من طول القيام".
فتخيل نفسك وقد علاك العرق، وأطبق عليك الغم، وضاقت نفسك في صدرك من شدة العرق والفزع والرعب، والناس معك منتظرين لفصل القضاء، إلى دار السعادة أو إلى دار الشقاء.
ثم تخيل أصوات الخلائق وهم ينادُون بأجمعهم منفردين، كل واحد منهم ينادي: نفسي نفسي! فلا تسمع إلا قول: نفسي نفسي! فيا هول ذلك وأنت تنادي معهم بالشغل بنفسك، والاهتمام بخلاصك من عذاب ربك!.
حتى إذا أيس الخلائق وطافوا على جميع الأنبياء سائلين الشفاعة، والكل يجيب: نفسي نفسي! أتوا النبي محمداً -صلى الله عليه وسلم- فسألوه الشفاعة إلى ربهم فأجابهم إليها، ثم قام إلى ربه واستأذن عليه فأذن له، ثم خر لربه -جل وعلا- ساجدا، ثم فتح عليه من محامده والثناء عليه بما هو أهله.
فذلك كله أنت تنظر وتسمع، حتى أجابه ربه إلى تعجيل عرضهم والنظر في أمورهم، فبينما أنت مع الخلائق في هول يوم القيامة وشدة كربها منتظرا متوقعا فصل القضاء والحلول في دار النعيم أو في دار الشقاء إذ سطع نور العرش، وأشرقت الأرض بنور ربها، وأيقن قلبك بالجبار وقد أتى لعرضك عليه، وكأنه لا يعرض عليه أحد سواك، ولا ينظر إلا في أمرك.
ثم تخيل وقد جيء بجهنم لها سبعون ألف زمام، سبعون ألف ملك يجرونها، فتخيلها حين اضطربت وفارت وثارت، وَنَظَرَتْ إلى الخلائق من بعد مكانها، فشهقت إليهم، وزفرت نحوهم، وجذبت خُزّانها متوثبة على الخلائق غضبا لغضب ربها على من خالف أمره وعصاه.
فتخيل صوت زفيرها وشهيقها، وقد امتلأ منه سمعك، وارتفع له فؤادك وطار فزعا ورعبا، ففر الخلائق هربا من زفيرها على وجوههم، وذلك يوم التنادي، لما سمعوا بدوي زفيرها ولوا مدبرين، (وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ) [غافر:32-33]، وتساقطوا على ركبهم جثاة حول جهنم: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً) [الجاثية:28]، فأرسلوا الدموع من أعينهم.
فتخيل اجتماع أصوات بكاء الخلائق عند زفيرها وشهيقها، وينادي الظالمون بالويل والثبور، وينادي كل مصطفى وصدّيق وشهيد ومختار وسائر الناس: نفسي نفسي!.
وتخيل وقد أقبل الله عند ذلك على رسله وهم أكرم الخلائق عليه وأقربهم إليه، فيسألهم عن الذي أرسلهم به إلى عباده، وماذا ردوا من الجواب، فقال لهم: (مَاذَا أُجِبْتُمْ)؟ فردوا عليه عن عقول ذاهلة غير ذاكرة: (لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) [المائدة:109].
قال أبو الحسن:" قلت لإسحاق بن خلف: قول الله -عز وجل- للرسل: (ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا)، أليس قد علموا ما رد عليهم في الدنيا؟ قال: من عظم هول السؤال حين يسألون طاشت عقولهم، فلم يدروا أي شيء أجيبوا في الدنيا، فهم صادقون حتى تجلى عنهم بعد ذلك فعرفوا ما أجيبوا".
فهذه عقولهم ذاهلة في هذا الموقف وهم صفوة الخلائق؛ فكيف بعقولنا نحن المتمادين في المعاصي، المصرين على المخالفات.
ثم تخيل نفسك بذلك الخوف والفزع والرعب والتحير إذ تبرأ منك الولد والوالد والأخ والصاحب والعشائر، وفرّوا منك وفررت منهم، فكيف خذلتهم وخذلوك، فلولا عظم هذا اليوم ما كان من الأدب أن تفر منهم ويفروا منك، ولكن عظم الخطب، واشتد الكرب، وتحطمت المقاييس، فلا تلام ولا يُلامون: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس:34-37].
ثم تخيل الميزان بعظمه منصوبا: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47].
وتخيل الكتب المتطايرة وقلبك واجف متوقع: أين يقع كتابك: في يمينك أم في شمالك؟ عن الحسن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان رأسه في حجر عائشة فنعس، فتذكرت الآخرة فبكت، فسالت دموعها على خد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فاستيقظ بدموعها، فرفع رأسه فقال: "ما يبكيك يا عائشة؟" فقالت: يا رسول الله، تذكرت الآخرة، هل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟.
قال: "والذي نفسي بيده، في ثلاثة مواطن فإن أحدا لا يذكر إلا نفسه: إذا وضعت الموازين ووزنت الأعمال حتى ينظر ابن آدم أيخف ميزانه أم يثقل، وعند الصحف حتى ينظر أبيمينه يأخذ أم بشماله، وعند الصراط" رواه أبو داود.
إنها -أيها الأحباب- مواقف عظيمة، ورحلة رهيبة، تعرف الإنسان بحقيقة الأمور، وتجعله يعيد الحسابات، محتاطا لخطوه، راعيا لأمره.
وسنواصل -إن شاء الله- مع بعض هذه الوقفات من التفكر.
اللهم أصلح أحوالنا...
تأملات في بعض مشاهد يوم القيامة (2)