العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
العربية
المؤلف | محمد الغزالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - فقه النوازل |
فإن موضوع الخطبة اليوم فرض نفسه على واقع لا يمكن تجاهله، وملابسات لا نستطيع أن نتغاضى عنها، موضوع هو في ظاهره تاريخي أو سياسي، ولكنه في حقيقته يتصل بعقيدتنا وحاضرها ومستقبلها. الموضوع هو أن (بابا روما) ذهب في سفرة شاقة طويلة إلى البلاد التي يطلق عليها اسم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدًا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد:
فإن موضوع الخطبة اليوم فرض نفسه على واقع لا يمكن تجاهله، وملابسات لا نستطيع أن نتغاضى عنها، موضوع هو في ظاهره تاريخي أو سياسي، ولكنه في حقيقته يتصل بعقيدتنا وحاضرها ومستقبلها. الموضوع هو أن (بابا روما) ذهب في سفرة شاقة طويلة إلى البلاد التي يطلق عليها اسم (الفلبين) وهو اسم مزور مستعار، وضعه الغزاة الإسبانيون على جزر كانت إسلامية مائة بالمائة، وبدؤوا حركة تنصيرها من بضعة قرون، ومضوا في طريقهم حتى استطاعوا أن يحققوا جزءًا كبيرًا من نياتهم وأن يبلغوا شوطًا بعيدًا من أهدافهم.
الجزر ما كانت تسمى الفلبين، ولكن (فيليب الثاني) ملك إسبانيا كان رجلاً معروفًا بتعصبه للكثلكة وقتله لأعدائها، فأخذ الاسم ووضع على مجموعة من جزر الهند الشرقية، الجزر كانت إسلامية كلها، وكان المذهب السائد هناك مذهب الإمام الشافعي، وكان العلماء من أهل البلاد أو ممن جاورها من جزيرتي (جاوه) و(سومطرة).
ثم جاء مبشر يعرف في تاريخنا الذي ندرسه بأنه مستكشف جغرافي، وهو مبشر بالنصرانية اسمه (ماجلان)، انتفع ماجلان بخبرة بعض التجار العرب ووصلوا به أو وصل بهم إلى المضيق الذي يعرف في الجغرافيا الآن بأنه مضيق ماجلان، ولما كانت الأرض التي بلغها إسلامية، وكان الرجل مبشرًا بالنصرانية، فقد حاول أن يرفع الصليب على الأرض التي بلغها فقتل هنالك وانتهى أمره.
لكن أمر الجزر لم ينته، فقد شرع الإسبان يوجهون إليها حملاتهم ويبذلون الجهود لمحو التوحيد وإقامة التثليث مكانه، وبدأ صراع فيه مرارة وفيه حرقة؛ لأن المسلمين الذين دافعوا عن دينهم لم يجدوا الكثير من العون، ولم يسعفهم إخوانهم من أماكن كثيرة، فقاتلوا في معركة تشبه أن تكون معركة انسحاب، وكان ما نزل بهم فادحًا مخوفًا.
ولا بُد من أن أذكر التاريخ، ولما كنت معتل الجسم لا أستطع أن أؤلف، ولما كانت الحقائق التي أريد نشرها وثائق، فمن الخير أن أقرأ ما ورد أو ما نشر، وما نشر لمؤلف إنكليزي ترجمه مهندس مسلم مصري هو الدكتور مصطفى مؤمن، وقد نشرت هذه الوثائق مجلة سعودية تصدرها رابطة العالم الإسلامي.
وقد بدأ غزو هذه البلاد في القرن السادس عشر -أي من أربعة قرون-، وإبرازًا للغاية المنشودة منه فقد رصت جثث المقاومين الشجعان على نحو هيئة صليب وذلك سنة 1576م، ويقول المؤلف: إنه أول صليب صنع بأجساد المسلمين، ونرجو أن يكون آخرها.
وينشر المؤلف نص الأمر الصادر من الحاكم العام الإسباني "فرانسيسكو دي ساندي" لقائد الحملة المشؤومة التي استهدفت غزو جزيرة "سولو" وهي جزيرة إسلامية مائة بالمائة يقول: اقرأ معي واحبس أنفاسك، ولتكن آذانًا وعيونًا لتفهم، يقول الحاكم الإسباني للقائد الذي قاد المعركة: "إنني آمرك بسد أفواه الدعاة إلى دين محمد؛ إذ هو دين شرور وآثام، وليس هناك من بديل عن النصرانية عقيدة ودينًا، ولما كان الدعاة القادمون من "بورنيو" مثلهم في الدعوة إلى الإسلام، فواجبك مصارحتهم بأن غرضنا هو تعميم النصرانية، ولدى اعتناقهم لها فسنتركهم يعملون في أرضهم دون أن يصيبهم أذى من جانب سادتهم النصارى الإسبان، وترصد بقوة من يدعو لدين محمد، وألق القبض عليه، ثم سقه إليَّ مكبلاً مخفورًا".
لكن الحملة فشلت فشلاً ذريعًا، وأعاد الحاكم الإسباني الكرة في السنة الثانية، وتتابعت الحملات حتى السادس من إبريل سنة 1626م؛ حيث استطاع القائد الإسباني "جواندي" أن يقتحم موقعًا خلوًا من السكان، وأن يعتلي ليلاً ربوة ذات مكان حصين، ليفاجئ منه سكان جزيرة "سولو" بضربات مدفعيته، واستبسل السلطان المسلم "دتونا" في الدفاع عن الأرض الطاهرة، ولكنه لقي هو ورجاله شهادة جماعية إجماعية، واستطاع الإسبان أن يجعلوا هذه البقعة منطلقًا لحملات غزو على بقية معاقل المسلمين في هذه الجزر.
يقول المؤلف: "وردّ السلطان "قدراك" حملة عارمة، ثم وقع اتفاقًا سنة 1645م مع السلطات الإسبانية لضمان سلامة قوافل الطرفين وتبادل المنافع، وفي مقابل ذلك سمح لهم ببناء كنيسة في جزيرة المسلمين، ولكنهم نقضوا العهد بعد أعوام قلائل، فتصدى لهم السلطان ولاذوا بالفرار، تاركين وراءهم هيكل كنيسة خاوية، وبعد مائتي سنة فقد الإسبان مستعمراتهم عدا "عذراء ماليزيا" ".
هذا كلام يحتاج إلى شرح، فإن دولة إسبانيا التي نصّرت نحو أربعين بالمائة من السكان المسلمين بطرقها التي أشرنا إليها وقعت في ضائقة مالية، فماذا تصنع؟! باعت الجزر ممن فيها وما فيها لأمريكا، فحل الأمريكيون في الفلبين محل الإسبان، وبعد خمسة أشهر قرروا شراءها مقابل مائتي مليون دولار دفعوها لإسبانيا.
وهنا أعلن الشعب برمته الحرب ضد الغزاة الجدد، واستمرت الحرب بين المسلمين والأمريكيين إلى سنة 1901م، وفي تلك السنة تألفت لجنة من الكونجرس الأمريكي لوضع تشريعات للفلبين، حاولت تحويل المسلمين عن معتقداتهم دون جدوى، فماذا تصنع؟! رأى الأمريكيون أن خير علاج للمسلمين هو اجتثاثهم بشن الحرب البكتيرية عليهم وعلى ماشيتهم، فاجتاحت أوبئة الكوليرا والجدري والطاعون البانوبي جزيرة "ميندناو" ثم جزيرة "سولو" سنة 1903م، وبلغ ضحايا حرب الأوبئة حسب تقدير لجنة "تافت" الأمريكية مائتي ألف أو يزيدون، ونفقت مئات الألوف من الدواب بأوبئة الحمرة وطاعون الماشية.
وهكذا خسر المسلمون أنفسهم وأموالهم بالخسيس المزري من الغدر، كما تعرضت للهلاك آلاف مؤلفة من الدواب العجماء التي لا تدري شيئًا.
وتحولت جزيرة "عذراء ماليزيا" تحت حكم الأمريكيين المباشر، وفي عهد الأمريكيين تكونت وزارة خاصة بشؤون "مينداناو" و"سولو"، وفي فترة الانتقال ألحق -في غفلة من الزمن- المسلمون باختصاص وزارة الداخلية الفلبينية.
ويقول المؤلف كلامًا كثيرًا خلاصته: أن الأمريكيين رعوا شؤون الفلبين على النحو الذي رعاها من قبل الإسبان -أي حرب متصلة ضد الإسلام-، وتسلطت ضد الإسلام عصابات مسيحية مكونة من المتعصبين الذين يسمون "فئران".
ويقول المؤلف: إن جماعة "إيجلاس" أو الفئران هي أخطر الجماعات الكاثوليكية وأشدها تعصبًا ضد المسلمين، ولها تنظيم هدفه الأول الاستيلاء على الأرض الإسلامية وإبعاد أهلها عنها، ويتدرب أفراد هذا التنظيم في إسرائيل.
وحفزًا لهم في إلحاق الأذى بالمسلمين والتنكيل بهم وضعت تسعيرة بالمكافآت التي تصرف لمن يصيب مسلمًا بإحدى هذه العاهات:
1- أذن المسلم ثمنها 100 بيزوس.
2- أنف المسلم ثمنها 100 بيزوس.
3- إصبع المسلم ثمنها 50 بيزوس.
4- كف المسلم أو ذراعه ثمنها 250 بيزوس.
5- عين المسلم ثمنها ألف بيزوس، أي ما يوازى خمسة وثلاثين جنيها إسترلينيًّا.
ما أرخص المسلمين!!
وتشن هذه العصابة حرب إبادة ضد المسلمين لإخلاء الأرض منهم وتوريثها للصليبيين، وقد أصبحت معسكرات اللاجئين المسلمين تضم ما يربو على خمسمائة ألف لاجئ أو مشرد.
وقد كشف المسلمون الأقنعة عن وجود تواطؤ خبيث بين حكومة "ماركس" -الحاكم الحالي- وأولئك الفئران المسلحين.
ويمضي الكاتب في عرضه لأمور ما نحتاج إلى تفاصيلها، لكن الذي قرأته واستمعت إليه في الإذاعات أن "بابا روما" لقي المسلمين في جنوب "مينداناو"، وقد استمعت إلى تلخيص ما قاله فوجدت أنه يريد تفاهمًا وحقوقًا متبادلة وكلامًا من هذا النوع، ولعله قال لهم: إن الله محبة، ولعله قال لهم كلامًا من هذا النوع الذي نعرف قيمته الشكلية وندرك أن حقيقته جوفاء لا شيء فيها.
قلت في نفسي: هل يعي المسلمون في شرق العالم العربي وغربه من الأطلسي إلى الخليج هذه الحقائق؟! لا، المسلمون لا يدرون شيئًا عن تاريخ الإسلام وامتداداته في شرق آسيا التي انتزع جزء منها وسمِّي الفلبين، المسلمون هنا لا يدرون شيئًا، إنما الذي أذكره أن المسلمين هناك يحبون الإسلام ويدفعون عن أهله، وعندما تورط العرب هنا في حروب صليبية فإن إخوانهم المسلمين من جاوة، وسومطرة، وتركستان، وأفغانستان، وبلاد ما وراء النهر، لم يتركوا العرب وحدهم، فالذي قهر الصليبيين هو صلاح الدين الكردي، والذي قهر التتار وهزم المغول هزيمة منكرة هو قطز وهو من تركستان.
لا بأس أن يُعرف الفارق بين ما فعله المسلمون القادمون من هذه البلاد البعيدة بعد أن انتصروا على الصليبيين، وبين ما فعله غيرهم، وينبغي أن تعرف أخلاقنا وأخلاق غيرنا.
معي كتاب مترجم أيضًا، يتحدث الكاتب -وهو رجل إنكليزي- عما فعله صلاح الدين عندما استرد بيت المقدس ووقع نحو مائة ألف صليبي في يده، فيقول: "الواقع أن المسلمين الظافرين اشتهروا بالاستقامة والإنسانية، فبينما كان الفرنج منذ ثمان وثمانين سنة يخوضون في دماء ضحاياهم، لم تتعرض الآن دار من الدور الصليبية للنهب، ولم يحل بأحد من الأشخاص مكروه، إذ سار رجال الشرطة بناءً على أوامر صلاح الدين يطوفون بالشوارع يمنعون كل اعتداء يقع على المسيحيين، وقد دهش المسلمون عندما رأوا البطريرك يؤدي عشرة دنانير مقدار الفدية المطلوبة منه ويغادر المدينة وحده وقد انحنت قامته لثقل ما يحمله من الذهب، وقد تبعته العربات التي تحمل ما بحوزته من الطنافس والأواني المصنوعة من المعادن النفيسة، وبفضل ما تبقى من منحة الملك هنري الثاني تقرر إطلاق سراح سبعة آلاف من الفقراء".
يقول المؤلف الإنكليزي: "من المناظر التي تدعو إلى الأسى والحزن ما حدث من التفات العادل -وهو لقب شقيق صلاح الدين- التفت إلى أخيه صلاح الدين يطلب منه إطلاق سراح ألف أسير على سبيل المكافأة عن خدماته له، فوهبهم له صلاح الدين، فأطلق العادل على الفور سراح ألف أسير مسيحي".
وإذا اجتهد البطريرك هرقل لأن يلتمس هذه الوسيلة الرخيصة لفعل الخير لم يسعه إلا أن يطلب أيضًا هو الآخر من صلاح الدين أن يهب له بعض الأرقاء ليعتقهم، فأعطاه صلاح الدين سبعمائة أسير، كما جعل صلاح الدين لبليان خمسمائة أسير، ثم أعلن صلاح الدين أنه سوف يطلق سراح كل شيخ وكل امرأة عجوز، ولما أقبل نساء الفرنج اللائي افتدين أنفسهن وقد امتلأت عيونهن بالدموع، فسألن صلاح الدين: أين يكون مصيرهن بعد أن لقي أزواجهن أو آباؤهن مصرعهم أو وقعوا في الأسر؟!
أجاب بأن وعد بإطلاق سراح كل من في الأسر من أزواجهن، وبذل للأرامل واليتامى من خزانته العطايا كل بحسب حالته. والواقع أن رحمته كانت على نقيض أفعال الغزاة المسيحيين في الحملة الصليبية الأولى.
هذا ما كتبه المؤلف الإنكليزي، وفي الجزء الثالث من كتابه -الذي نشرته دار الثقافة ببيروت- يقول عن أفعال الغزاة المسيحيين: اضطر الغزاة إلى أن يفكروا في ترك البلاد، لكن صار الأسرى المسلمون مصدر حيرة لهم، فماذا يصنعون؟! أعلن قائدهم في برود شديد يوم 30 أغسطس سنة 1191م أن صلاح الدين قد نقض عهده، وأمر بالإجهاز على ألفين وسبعمائة أسير من المسلمين كانوا على قيد الحياة، فاشتد حماس عساكره للقيام بهذه المجزرة.
حاول المسلمون أن يبذلوا الجهود لوقف المذبحة ولكنهم عجزوا عن الوصول إلى إخوانهم، وعندما وصلوا لم يجدوا إلا بقعة تناثرت عليها الجثث المشوهة المتعفنة.
هذا تاريخ، الذي أسأل عنه: هل يدرس هذا التاريخ؟! حقيقة الوضع في الفلبين أن المسلمين هناك صدرت أوامر بإخراجهم من الأرض الخصبة التي يزرعونها، وبدأت الحكومة تقاتلهم لإخراجهم من هذه الأرض.
وتصوروا أن المصريين في الدلتا صدر أمر بإخراجهم من الدلتا ليعيشوا في الصحراء، ماذا يصنعون؟! لابد أن يقاتلوا، وقاتلوا منذ تسع سنين إلى الآن، الجريمة التي ترتكب في الفلبين جريمة إبادة جنس؛ ما ينص على معاقبة مرتكبها قانون الأمم المتحدة، لكن القانون لا يطبق إذا كان الذين يبادون من المسلمين.
أين هذه البلاد التي كانت عامرة بالإسلام؟! لا وجود لها، كل ما أذكره الأبيات التي قالها أحد الشعراء في الأندلس:
تبكي الحنيفية البيضاء من أســف | كما بكى لفراق الإلف هيمان |
على ديـار مـن الإسـلام خـالية | قد أقفرت ولها بالكفر عمران |
حيث المساجد قد صارت كنائس ما | فيهن إلا نـواقيـس وصلبان |
حتى المحاريب تبكـي وهي جامـدة | حتى المنابر تـرثي وهي عيدان |
أعندكم نبـأ عـن أهـل أنـدلس | فقد سرى بحديث القوم ركبان |
كم يستغيـث بنا المستضعفون وهم | أسرى وقتـلى فما يهتز إنسان |
ماذا التقاطـع في الإسـلام بينـكم | وأنتمُ -يا عبـاد الله- إخوان |
ألا نـفـوس أبِيِّـاتٌ لـها هـمم | أما على الخير أنصار وأعـوان |
هذا كلام أذكره على أنه تاريخ، ولكن هذا التاريخ يمكن أن يتكرر، ويمكن أن ينتقل من مكان لمكان، وفي دراستي لهزائم المسلمين -ابتداءً من أُحُد- ما وجدت هزيمة وقعت بالمسلمين إلا كانوا هم سببها، حتى إن القرآن الكريم لما حدث المسلمين أو أجابهم عن تساؤلهم (أَنَّى هَذَا) كان الجواب (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ).
الصليبية تطارد الإسلام من قديم، وهذه حقيقة يجب أن تدرس وأن تعرف، ومحاولة التغطية عليها محاولة سمجة وفاسقة، ولذلك رأيت أن أكشف زيارة بابا روما للفلبين؛ لأن الرجل يريد أن يضع طابعه على ما بقي من أرض الإسلام هناك.
ثم انضم إلى الصليبيين في عدوانهم على الإسلام الشيوعيون، والتمدد الشيوعي خطير، وقد أخذ نصف العالم الإسلامي في آسيا، لأنه -كما ذكرت في كتابي الإسلام في وجه الزحف الأحمر- كانت سيبيريا مسلمة وقد قتل ملكها وفقئت عينه وهو يدافع عنها، كانت القرم مسلمة، كانت الآرال مسلمة، كانت أذربيجان مسلمة.
امتد الروس -والروس في مساحتهم الطبيعية ما يملكون أكثر من أرض تشبه مساحة مصر- في الشرق، وأخذوا آسيا حتى بلد البخاري في أوزبكستان، وضعوا يدهم عليها.
الأمة الإسلامية تشبه المغفل الذي لا يحميه القانون؛ لأنه لا يعرف مصلحته، ويخيّل إليّ أن المسلمين أصيبوا بمرض فقدان الذاكرة، فهم ما يدرون ما وقع لهم، وبالتالي لا يعرفون ما سيقع لهم، وبقاء الأمة على هذا النحو خطر تتعرض له عقيدة التوحيد نفسها، ولذلك وجدت أن الدين يفرض عليَّ أن أنفخ التراب عن هذه الحقائق، وأن أبدي الصورة القبيحة لهذه الأوضاع حتى يراها المسلمون فيخجلوا من تفريطهم ومن نسيانهم لربهم.
أنا لا أخاف والله من الضغط الصليبي أو الضغط الشيوعي، ولكني أخاف من الغفلة الإسلامية، وهذه الغفلة تبدو في مظاهر كثيرة.
وقد بدأت نهضة، ولكن الذين يحاربون النهضة أخذوا يجعلون المسلمين يفقدون ميزان الأولويات، يعني لو أن عندك مائة جنيه وبيتك خالٍ من كل شيء، فإن المائة جنيه تصرف ابتداءً في شراء تموين، في شراء الضرورات التي لابد منها للبيت، فإذا ذهب المغفل واشترى راديو أو تليفزيون فماذا يصنع بهذا؟!
الأمة الإسلامية فيها أزمة أخلاق، فيها أزمة عبادات صحيحة، فيها أزمة دفاع عن العقائد الحقيقية، ومع ذلك فإن أعدادًا من المسلمين يفكرون في أمور ما يفكر فيها عاقل.
والآن وجدت أن عدوين يشقان طريقهما إلى الأرض الإسلامية:
العدو الأول يقول: الإسلام كتاب من غير سنة!! وقد رأيت هؤلاء في باكستان، ورأيتهم في السودان، وامتدت أخطارهم أخيرًا إلى القاهرة، وقادهم -فيما أعلم- العقيد معمر القذافي.
والواقع أنه عندما تضيع السنة فسيضيع القرآن بعدها، كأن العدو بلغ من خبثه أن قال: اقسِّم المعركة قسمين: اضرب السنة أولاً، فإذا انتهيت منها، انفردت بالقرآن فأجهزت عليه.
وضرب السنة جنون؛ لأن المفسر الأول للقرآن هو محمد -عليه الصلاة والسلام- في قوله وفعله وتقريره، فإذا ضاع التفسير أو إذا ضاعت المذكرة التفسيرية للقانون فماذا يبقى؟!
العدو الثاني يقول: الإسلام دين لا دولة!! وقد استؤجر لهذا أناس أصحاب أسماء لامعة كمصطفى كمال أتاتورك، وجمال عبد الناصر، أما مصطفى كمال فقد صنع له الحلفاء زعامة ليجعلوا منه رجلاً، وما كان رجلاً، كان جاسوسًا مرتدًا خائنًا قذرًا، وأما جمال عبد الناصر فشخص متهور، مقامر لا مغامر، ما دس يده في خضراء إلا يبست، ولا دخل معركة إلا انهزم فيها، وقيل: إنه أبو العباقرة!!
الإسلام دين ودولة، كتاب وسنة. الإسلام له ماضيه وحاضره ومستقبله. الإسلام له أمة في المشرق والمغرب لا يمكن قبول تقسيمها. باسم التثليث يخرج، رجل من روما ليذهب إلى أقصى المحيط الهادي ليلقى إخوان العقيدة!! أما عقيدة التوحيد فلا رباط لها، ولا أبوة ثقافية أو روحية تلم شملها!!
هذه الحقائق لابد أن تُعرَف، وعلى المسلمين -إذا كانوا عقلاء- أن يعرفوا الأولويات، فإذا كان أعداؤنا قد أجمعوا كلهم على إذهاب قلبنا ومعتقداتنا وأخلاقنا وتقاليدنا وشرائعنا وكل ما له أثر في حاضرنا ومستقبلنا، فما يجوز بتة أن يشتغل المسلمون بالتوافه أو أن يتعاركوا على ما لا معنى له.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدًا رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد:
أيها الإخوة: أضرب لكم مثلاً لتعرفوا أن قلة الفقه تضع الإسلام في مآزق حرجة، جاءني ذات يوم رجل من الناس يشكو خطيبًا في أحد المساجد -كنت يومئذٍ مسؤولاً عن المساجد- قال: الإمام يتهم الرسول بالنفاق. قلت له: أعوذ بالله، يا رجل ما يفكر في هذا أحد، ولا يخطر ببال امرئ من الناس. قال: ذكر لنا أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: استأذن رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ائذنوا له؛ بئس أخو العشيرة أو ابن العشرة، فلما دخل ألان له الكلام، قلت: يا رسول الله: قلت الذي قلت ثم ألنت له الكلام، فقال: "أي عائشة: إن شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه". قلت له: الحديث صحيح. قال: أليس هذا نفاقًا؟! قلت له: أنت جهول لا تحسن الفهم، هذا أدب اسمه مداراة السفهاء، وهو أدب عالمي، وكان معي المرحوم كامل كيلاني فقال: في شعر شكسبير كلام عن مداراة السفهاء يشبه ما قاله الشاعر العربي:
لو أن كل كلب عوى ألقمته حجرًا | لأصبح الصخر مثقالاً بدينار |
مداراة السفهاء أدب عالمي لا يزال الناس مكلفين به في كل زمان ومكان. هذه واحدة.
أمس قرأت ردًّا على شيء كنت ذكرته وهو حديث: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم".
هذا الحديث فهمه أحد الناس على أن الإسلام ينتشر بالسيف، وجاء آخر فكذب الحديث.
قلت: كلا الفريقين جاهل، وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- وظيفته فقال: "أنا محمد، وأحمد، والمقفى، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة، ونبي الملحمة".
يعني أنا نبي السلام، وأنا نبي القتال، من سالمني سالمته، ومن قاتلني قاتلته، فإذا حرض على قتال البغاة والمعتدين فهو نبي الملحمة، وعندئذ يقول: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف"، والسيف هنا محكوم بقول الله -جل جلاله-: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "وجعل رزقي تحت ظل رمحي"، إشارة للمجاهدين أن لا يخافوا، فإن خسائر الحرب قد تكون مرهقة، ولكن ثمراتها في النهاية تكون رغدًا لمن يضحكون أخيرًا؛ لأنهم يضحكون كثيرًا.
هذا معنى الحديث، والحديث ليس من رواية البخاري ومسلم، ولكنه من رواية أحمد بسند صحيح.
الأمر يحتاج إلى الفقهاء، من قديم كان هناك بعض الناس معروفون بالنزق، يجرون وراء كل شيء بدون تثبيت، فقال الله معاتبًا هؤلاء: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ).
لعلمه من؟! أي صعلوك؟! لا، (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)، للأسف يجيء ولد الآن يقول: الشافعي أفسد مصر، ثم يقول: هم رجال ونحن رجال، والله الشافعي رجل وأنت عيِّل. يا مسلمون: الأمة الإسلامية في مهب الرياح، وهناك أولويات تتطلب أن نلتفت إليها، أما أن تضيع الفلبين، وتبدأ إضاعة إندونيسيا، وقد حدد لها خمسون سنة كي تضيع، أما أن أقرأ أنه قد وضع لإفريقيا أن لا ينتهي القرن العشرون إلا وثمانون بالمائة منها قد دخلوا في المسيحية، أما أن أقرأ هذا وذاك ثم أجد صعاليك في ميدان الفكر الديني تمزِّق الأمة بكلام تافه وقضايا محقورة وأمور لا معنى لها، فإن هذا ليجعلني أخشى على الأمة وعلى مستقبلها، بل على يومها القريب لا على غدها البعيد.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
أقم الصلاة.