التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن صالح الدهش |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | فقه النوازل |
والتواصي في أسباب مدافعة الله عن هذه البلاد واستبقاء قوتها بالحق، وقيامها بالشرع، من آكد ما نتباحثه، ونتذاكر به، مع الخاصة والعامة، كل بحسبه؛ فكلنا في سفينة واحدة! وفيما حولنامن...أبَعْدَ هذا نتطلب نصراَ للمظلومين من منظمات حقوق الإنسان، أو هيئات شرقية أو غربية؟ إذن؛ حفظ حقوق الإنسان بضاعتنا -أهل الإسلام- أخذها المتشدقون بحفظ حقوق الإنسان، المتفيهقون...
أما بعد: فعن المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- قال: لقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن السعيد لَمَن جُنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن" رواه أبو داود وغيره، وصححه الألباني.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ستكون فتنٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي؛ ومن تشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به".
نعود بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
أيها الإخوة: في وقت الفتن يتبين جانب كبير من ضعفك يا ابن آدم، لا تتغلب عليه بذكائك، ولا شدة حيلتك، ولا قوة بدنك.
فأنت تدري، ولا تدري! وتريد وتريد ألّا تريد! تقول الكلمة ثم تتمنى بكل مالك أن تُرجعها إلى فيك وتكون حبيسة فمك! وهيهات هيهات وقد خرجت! تخُط الكلمة ثم ما تلبث أن تقول: آه! لو أني خططت عليها فذهبت معالمها.
سبحان الله وبحمده! من يزيل هذا الضعف، ويقوي هذا القلب، ويدفع هذا التردد؟! لا يدفعه إلا الذي خلقك، وعلم ضعفك، وحاجتك؛ بل ضرورتك إلى عون من ربك! (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14].
ومن كلمات الخليل إبراهيم -عليه السلام- الذي قال الله عنه: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ) [الأنبياء:51]، من كلماته التي سجلها القرآن: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء:77-80]، وفي مقام آخر قال الله عنه: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات:99].
الله أكبر! حاجتك يا ابن آدم إلى هداية الله، لا سيما في زمن اختلاطِ الأمور، أعظم من أي حاجة، قدمها إبراهيم -عليه السلام- على حاجته للطعام والشراب والشفاء من المرض.
فلا عجب إذن أن يكون من أول دعوات النبي -صلى الله عليه وسلم- التي يبادر بها مناجاة ربه في زمن النزول الإلهي في آخر الليل: "اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك"، فهو بحاجة إلى هدايةٍ بإذن الله!.
والدعاء الذي لا يقوم غيره مقامه، وهو فرض في صلاتك: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة:6].
لذا وجب علينا أن نستشعر حاجتنا إلى هداية ربنا، ملحين بالدعاء، راجين هدايته.
ألا وإن من معالم الهداية أن يحفظك الله أن تقع في مظلمة أحد من عباده في قول أو فعل.
وانظر إلى سر ذلك في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أول خروجه من بيته: "اللهم إني أعوذ بك أنْ أَضِل أُو أضلّ، أو أزِلَّ أو أُزَلّ، أو أظلِم أو أُظْلم".
فالاتصال بالناس مَظِنة لأن يَضل العبد أو يُضل، أو يَزل أو يُزل، أو يظلم أو يظلم. ولا عاصم من هذه إلا توفيق الله وحفظه.
كل هذه -أيها الإخوة-: لا تنافي مطالبة الإنسان بما له من حق، فيستدرك حقاً ضائعاً، أو مضاعاً.
فالمطالبة بالحقوق الصحيحة أمر فطر الله عليه الخلائق، ليس ابن آدم فقط.
ومن عجيب المطالبات وحفظ الحقوق قصة (الحمرة)! طائر! فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تعرش -أي تشكو للنبي صلى الله عليه وسلم-! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ فجع هذه من فجَع هذه بولدَيْها رُدُّوا ولدَيْها إليها" رواه أبو داود.
ثم هذه المطالبة إن وافقت أذنا صاغية، وعقولا راجحة، ونفوساَ منصفة، سعد الطالب والمطلوب، وشُكر المطلوب، ورضي عنه الطالب.
ثم إن كانت هذه المطالب بين راع ورعيته دامت مودة بينهما، وأغلقت ثغرات المتربصين، ونكست أعلام الحاسدين، وطأطأ رؤوسهم المشاغبون.
وتحقق بين الراعي ورعيته ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلُّون عليهم" أي: تدعون لهم ويدعون لكم.
ولاءٌ صادقٌ، ترجمتُه دعوات متبادلة، لا رياء ولا تزلفاً. ما أعظمه من دين! وأكرِمْ بالمتمسكين به من متدينين!.
أبَعْدَ هذا نتطلب نصراَ للمظلومين من منظمات حقوق الإنسان، أو هيئات شرقية أو غربية؟ إذن؛ حفظ حقوق الإنسان بضاعتنا -أهل الإسلام- أخذها المتشدقون بحفظ حقوق الإنسان، المتفيهقون بالحرية، المخادعون بالديمقراطية.
وليتهم قالوا: هذه بضاعتكم ردت إليكم! ولكنهم قالوا: نحن حماتكم، وإلينا مظالمكم، وهذه نظم حقوقكم.
ولقد حفظوا من خلالها حقوق شعوبهم، وأكرموا رعاياهم، ولما جاؤوا إلى الرجل المسلم، والشعوب المنكوبة المظلومة، لم يجدوا لها إلا فتات الحقوق يسترضونهم بها، وما هم على رضاهم بمشفقين، ولا حريصين.
فالشجب والتنديد، ومجالس النقاش والتمطيط هو غاية ما عندهم تجاه قضايا المسلمين.
ومن نكَدِ الدُّنيا على الحُرِّ أنْ يرى | قضاياه يقضيها عدوٌّ مُعانِدُ |
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين...
فلا عُتْبَ على مُطالبٍ بحقٍّ بطريقته المشروعة، ووسائله المرعية، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "إن لصاحب الحق مقالا"؛ فقوَّتُه يستمدها من صحة ما يطالب به، فهو لم يطالب بإثم، ولا قطيعة رحم.
ويزيده قوة إلى قوته مادامت طرقه سليمةً، فهو لم يأت البيوت من ظهورها، وإنما يأتي البيوت من أبوابها.
ويزيده قوة إلى قوته أنه لا يعير عقله لغيره، فهو لا يقبل توجيها يُملى عليه بكرة وأصيلا.
فهو أدرى بقضيته ممن هم خلف شاشات الحاسوبات، وينقرون في الجوالات يقولون افعل كذا، ولا تفعل كذا.
كيف وقد اندس في هؤلاء ذوو المصالح؟ وكل ضرب بسهم، فالرافضيُّ مِن دأَبِه السب والفساد في الأرض، لديه توجيه وله رأي، ومن له مواقف من الدولة لشيء في نفسه، ها هي فرصة سنحت لن يضيعها!.
أيها الإخوة: إن صاحب القضية المطالب بها على جلالة قضيته، وعظم المظلومية التي يعتقدها ويتجرعها، وشدة مرارتها، لا تفقده صوابه إلى طرق ملتوية، أو فوضوية، أول عواقبها الوخيمة خسران قضيته، ودخوله مضايق كان في عافية منها.
ولقد نادى قوم في فترات مضت، وظروف خلت إلى مظاهرات حددوا وقتها وأماكنها، ولكن دفعها الله بتوفيق من عنده، ثم بجهود المصلحين، وفتاوى العلماء الغيورين
فخمدت الفتنة، وانطفأت نارها.
ولكن موقديها لا يزالون يتطلعون إليها، محاولين إضرامها، وتسمعون وتقرؤون في مواقع التواصل الدعوة إلى المظاهرات، بين فترة وأخرى، وأضافوا إليها السلمية استعطافاً للقلوب، وخداعاً بالدعوات.
أما علموا أن أعتى المظاهرات في الدنيا وأشدها، وأرقاها وأرقها، كلها خرجت باسم السلمية، فكان من نهايتها ما كان!.
معاشر الإخوة: أمْن البلد حتى يسلم الناس، ويأمنوا في طرقاتهم إلى المساجد والمتاجر، لا يمكن أن ندفعه ثمناً لزاعمين تحقيق قضية ما عامة أو خاصة مهما كان وضوح الحق فيها!.
معاشر الفضلاء: حينما تعالج الأمور بآراء الرجال، وأهواء ذوي العواطف المنفعلة تخرج العربة عن مسارها، وتنسى القضية الأم، وتحقن النفوس تجاه أشخاص مسؤولين أو غير مسؤولين، ويصبح عدوك كل من لم يوافقك على طريقتك، وصرت تحذر كل من لم يهز رأسه ويلوح لك.
وفي الكتابات والمقاطع المتداولة السيارة انظروا كيف حوِّل العلماء إلى عملاء وفقهاء سلاطين، والأمراء إلى أقبح أوصاف أنت سامعها!.
نعم، لا قداسة لأحد، ولا عصمة إلا لأنبياء الله ورسله، والدخن موجود في العلماء والأمراء، والمسؤولين والوجهاء، ولا نكلف أنفسنا دفاعاً عن أحد، ولكن العدل مطلوب، ولا يؤخذ أحد بذنب أحد، ولا يضيع جهد الناصحين المصلحين ذوي الغيرة إن لم نعلم به، أو لم يُسمع منهم، أو شوهت سمعتهم، ولمز فعلهم، و"مَن قال هلك الناسُ فهُو أهلكُهم".
لقد مرت بلادنا في تاريخها الحديث بأزمات، وقوارع داخلية وخارجية؛ ولكن الله دافع ودفع، (فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأعراف:69].
والتواصي في أسباب مدافعة الله عن هذه البلاد واستبقاء قوتها بالحق، وقيامها بالشرع، من آكد ما نتباحثه، ونتذاكر به، مع الخاصة والعامة، كل بحسبه؛ فكلنا في سفينة واحدة!.
وفيما حولنا من القرى عظة ودروس: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأحقاف:27]، (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) [يونس:102].
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران:103].
والذين ينخرون في الفضيلة ويسعون في بث الرذيلة، وإيجاد الفجوة بين الحاكم والرعية، وخلق الوحشة بينهما؛ ليسهل عليهم اختراق الصف، لهم في ذلك حيلهم، ويعملون، مكر الليل والنهار، وما تخفي صدورهم أكبر.
والله المستعان، ولا حول لنا ولا قوة إلا بالله.
فاللهم لا تفرح علينا أعداءنا، ولا تشمت بنا حاسدينا.
اللهم احفظ لنا إيماننا، وأدم علينا أمننا، ووفق علماءنا وولاة أمرنا.
اللهم ولاة أمورنا أعطهم رشدهم، وقهم شرور أنفسهم، اللهم هيئ لهم البطانة الصالحة التي تصدقهم القول والعمل، وتسعى في تجنيب البلاد الفتن والزلل.
اللهم هيئ للمستضعفين قوة من عندك، وللمظلومين فرجا من لدنك.
اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا... ولا بما فعل السفهاء منا، ولا تجعل بأسنا بيننا، فنفشل ويذهب أمرنا.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان...