القاهر
كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | تركي بن علي الميمان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
عباد الله: من أخص خصائص العبودية: الافتقار المطلق إلى الله تعالى، فهو حقيقة العبودية ولبُّها، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)[فاطر:15]. فالافتقار إلى الله تعالى، أن يُجرِّد العبد قلبه من كل حظوظها وأهوائها، ويُقبل بكليته إلى ربه عز وجل متذللاً بين يديه، مستسلماً لأمره ونهيه، متعلقاً قلبه بـ...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله: من أخص خصائص العبودية: الافتقار المطلق إلى الله تعالى، فهو حقيقة العبودية ولبُّها، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)[فاطر:15].
فالافتقار إلى الله تعالى، أن يُجرِّد العبد قلبه من كل حظوظها وأهوائها، ويُقبل بكليته إلى ربه عز وجل متذللاً بين يديه، مستسلماً لأمره ونهيه، متعلقاً قلبه بمحبته وطاعته، قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام:162-163].
قال يحيى بن معاذ: "النسك هو: العناية بالسرائر، وإخراج ما سوى الله عز وجل من القلب".
والمتأمل في جميع أنواع العبادة القلبية والعملية يرى أن الافتقار فيها إلى الله هي الصفة الجامعة لها، فبقدر افتقار العبد فيها إلى الله يكون أثرها في قلبه، ونفعها له في الدنيا والآخرة، وحسبك أن تتأمل الصلاة أعظم الأركان العملية، فالعبد المؤمن يقف بين يدي ربه في سكينة، خاشعاً متذللاً، خافضاً رأسه، ينظر إلى موضع سجوده، وأرفع مقامات الذلة والافتقار أن يطأطئ العبد رأسه بالركوع، ويعفِّر جبهته بالتراب مستجيراً بالله منيباً إليه.
وفي ذلك دلالة جليَّة على تعظيم الله تعالى وترك ما سواه.
إن هذه المنزلة الجليلة التي يصل إليها القلب هي سرُّ حياته، وأساس إقباله على ربه؛ فالافتقار حادٍ يحدو العبد إلى ملازمة التقوى، ومداومة الطاعة.
ويتحقق ذلك بأمرين متلازمين هما: إدراك عظمة الخالق وجبروته؛ وإدراك ضعف المخلوق وعجزه.
أيها المسلمون: ومن أراد الوصول إلى الافتقار إلى الله تعالى، فله علامات:
منها:
(1) غاية الذل لله تعالى مع غاية الحب: فالمؤمن يُسلم نفسه لربه منكسراً بين يديه، متذللاً لعظمته، مقدِّماً حبه سبحانه على كل حب.
ومن كانت هذه حاله وجدته وقّافاً عند حدود الله، مقبلاً على طاعته، ملتزماً بأمره ونهيه؛ فثمرة الذل: أن لا يتقدم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، مهتدياً بقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)[الأحزاب:36].
وقوله: (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)[البقرة:285].
قال الحسن رضي الله عنه: "ما ضربت ببصري، ولا نطقت بلساني، ولا بطشت بيدي، ولا نهضت على قدمي، حتى أنظر أعلى طاعة أو على معصية؟ فإن كانت طاعة تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت".
ومن علامات الافتقار إلى الله:
(2) التعلق بالله تعالى وبمحبوباته: فشعور العبد بفقره وحاجته إلى ربه عز وجل يدفعه إلى الاستكانة له والإنابة إليه، ويتعلق قلبه بذكره وحمده والثناء عليه، والتزام مرضاته، والامتثال لمحبوباته.
فالمريض مثلاً: ملقى على السرير من شدة المرض، ومع ذلك يحمد الله، ويثني عليه، ويشكره، وهذا من تعلق القلب بالله.
قال بعض الصالحين: "مفاوز الدنيا تقطع بالأقدام، ومفاوز الآخرة تقطع بالقلوب".
ولهذا ترى العبد الذي تعلق قلبه بربه، وإن اشتغل في بيعه وشرائه، أو مع أهله وولده، مقيماً على طاعته، مقدماً محبوباته على محبوبات نفسه وأهوائها، لا تلهيه زخارف الدنيا عن مرضاة ربه.
ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.." وذكر منهم: "رجل قلبه معلَّق في المساجد".
ولاحظ هذا التعبير البليغ: (قلبه معلَّق)، وهذا يعني: أنه دائم الصلة بالله تعالى، دائم الاستحضار لأوامره، لا يشغله عن ذلك شاغل، ولا يصرفه عن ذلك صارف، ولهذا قال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)[النور:36-37].
ومن علامات الافتقار إلى الله:
(3) مداومة الذكر والاستغفار: فقلب العبد المؤمن عاكف على ذكر مولاه، والثناء عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى في كل حال من أحواله، دائم التوبة والاستغفار عن الزلل والتقصير، يجد لذته وأنسه بتلاوة القرآن، ويرى راحته وسكينته بمناجاة الرحمن، قال تعالى: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد:28].
إن مداومة الذكر والاستغفار آية من آيات الافتقار إلى الله تعالى، فالعبد يجتهد في إظهار فاقته وحاجته وعجزه، ويمتلئ قلبه مسكنة وإخباتاً، ويرفع يديه تذللاً وإنابة؛ فهو ذاكر لله تعالى في كل شأنه، في حضره وسفره، ودخوله وخروجه، وأكله وشربه، ويقظته ونومه، لا يغفل ساعة عن الاستعانة به والالتجاء إليه.
ومقتضى ذلك أنه لا يركن إلى نفسه، ولا يطمئن إلى حوله وقوته، ولا يثق بماله وجاهه وصحته.
ومن علامات الافتقار إلى الله:
(4) الوجل من عدم قبول العمل: فمع شدة إقبال العبد على الطاعات، والتقرب إلى الله بأنواع القربات؛ إلا أنه مشفق على نفسه أشد الإشفاق، يخشى أن يُحْرَم من القبول، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)[المؤمنون:60] أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: "لا يابنة الصديق! ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات"[أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة(162)].
اللهم رحمتك نرجو، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأصلح لنا شأننا كله، لا إله إلا أنت.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه.
(4) الوجل من عدم قبول العمل: فمع شدة إقبال العبد على الطاعات، والتقرب إلى
عباد الله: ومن علامات الافتقار إلى الله:
(5) خشية الله في السر والعلن: فالخوف من الله تعالى من أجلِّ صفات أهل الإيمان، قال عز وجل: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[الأنفال:2].
وقال:(وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)[الحج:34-35].
وخشية الله في السر والعلن من أعظم آيات الافتقار والفاقة إليه سبحانه؛ فمن عرف الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأدرك عظمته وجبروته، وسلطانه الذي لا يُقهر، وعينه التي لا تنام، وقدَّره حق قدره؛ خاف منه حق الخوف، قال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)[الرحمن:46].
وشرط الخشية الصادقة أن تكون بالغيب؛ لأن القلب لا يتعلق إلا بالله.
والخوف من الله عز وجل عبادة قلبية تدفع العبد إلى الحرص والجدية والإقبال على الطاعة، قال الحافظ عبيد الله بن جعفر: "ما استعان عبد على دينه بمثل الخشية من الله".
ويتجلى ذلك في حديث: "ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله".
فالمعصية تعرضت له بأكمل زينتها، وأبهى فتنتها، وهو بشر كالبشر، لكن ما حبسه عنها إلا الخوف من الله عز وجل.
ومن علامات الافتقار إلى الله:
(6) تعظيم الأمر والنهي: فغاية العبودية: التسليم والانقياد محبةً وتذللاً، فتعظيم الأمر والنهي من تعظيم الله جل وعلا، قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)[الحج:30].
وقال: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج:32].
وما انتشرت المعاصي، وكثرت المنكرات والأهواء في ديار المسلمين؛ إلا بسبب ضعف الإيمان، والتهاون في تعظيم أمر الله عز وجل ونهيه.
وتعظيم الأمر والنهي يعني: الوقوف عند حدود النصوص الشرعية، والالتزام الصادق بمقتضاياتها ودلائلها، والعضِّ عليها بالنواجذ، فأمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم حقه الإجلال والامتثال، قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)[الأحزاب:36].
ومن علامات الافتقار إلى الله:
(7) سرعة التوبة بعد المعصية: فالخطأ والزلل صفة بشرية ملازمة للإنسان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون، فيغفر الله لهم"[أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع(4391)].
فالتوبة إلى الله من أعظم وأجلِّ صفات أهل الإيمان، قال الله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النور:31]
فاتقوا الله رحمكم الله وافتقروا إليه في جميع أموركم وأحوالكم، فكم نحتاج إلى إحياء هذا الافتقار في القلوب، بعد أن قست بالذنوب.
ثم صلوا وسلموا على الهادي البشير.