الغني
كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...
العربية
المؤلف | فريد بن عبد العزيز الزامل السليم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
فإن من أكبر الجنايات على الهوية الإسلامية أن يستبدل بتأريخها الديني تأريخًا أجنبيًا عن دينها وثقافتها، وإن ذلك امتداد لطمس هذه الهوية والارتماء في أحضان التبعية. إن في الاعتزاز بالثوابت والموروثات الدينية والثقافية والتي منها التأريخ الهجري إبقاءً على كيان الأمة، وهذا ما لم يُرضِ أعداءها، ومن أجل هذا سعوا إلى زعزعة تلك الموروثات من أكثر من طريق، ومن أظهر تلك الطرق ما كان في حقبة الاستعمار، وكان أول ما اعتمد التأريخ الإفرنجي إلى جانب التأريخ الهجري في مصر عام 1292هـ، وكان ذلك قبل الاحتلال البريطاني بسبع سنواتٍ فقط.
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فاتقوا الله -يا عباد الله-، وتأملوا في سيرة نبيكم محمد –صلى الله عليه وسلم-، فإن هديه خيرُ الهدي، واتباعَه هو السبيل الوحيد الذي لا سبيل غيره إلى نعيم الدارين: الدنيا والآخرة.
عباد الله: لقد كانت هجرته -صلى الله عليه وسلم- معلمًا بارزًا وحدثًا مهمًا في الإسلام، وكان تحولاً جذريًا في طرائق الدعوة وفي التعامل مع المعارضين لها، لقد كانت الهجرة مقدمة لنصر عظيم للإسلام وأهله، بلغ قبل نهاية المائة الأولى منها أكثر من ثلث الأرض.
ولأجل هذه المكانة للهجرة كان رأي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سديدًا، إذ جعلها تأريخًا لهذه الأمة، تضبط به أحداثها، ويسجل فيه مجدها وعزها، ويكون شعارًا لها في كل حين، في العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية وغير ذلك من الأمور.
ففي السنة السابعة عشرة من الهجرة جمع عمر -رضي الله عنه- الصحابة، واستشارهم في وضع تأريخ يتعرفون به أمورَهم، فأشير عليه بالتأريخ بمبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- وبموته وبهجرته، فاختار عمر الهجرة، فاتفقوا معه على ذلك، ثم استشارهم في أي شهر نبدأ؟! فقال بعضهم: من رمضان، وقال آخرون: من ربيع الأول، وقال بعضهم: من المحرم، فاختار المحرم وأجمعوا عليه؛ لأنه يلي ذا الحجة وهو الشهر الذي بايع فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- الأنصار على الهجرة، وتلك المبايعة من مقدمات الهجرة، فكان أولى الشهور بالأولية شهر المحرم.
قال السهيلي -رحمه الله- في الروض الأنف: "وفي قوله سبحانه: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) [التوبة: 108]، وقد علم أنه ليس أول الأيام كلها، ولا أضافه إلى شيء في اللفظ الظاهر، فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمر، فيه من الفقه: صحة ما اتفق عليه الصحابة مع عمر حين شاورهم في التأريخ، فاتفق رأيهم أن يكون التاريخ من عام الهجرة، فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل، وفهمنا الآن بفعلهم أن قوله سبحانه: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ)، أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي يؤرخ به الآن".
عباد الله: وإن مما يؤسف له أن لا يَقْدُرَ بعض المسلمين لهذا التأريخ قدره، وأن يستبدلوا به تأريخًا آخر، بأن يجعلوه معتمدًا في معاملاتهم كافة، وهذا خطر عظيم ربما غُفِلَ عنه. إن التأريخ الميلادي لا يمكن أن يحل محل التأريخ الهجري؛ لما بينهما من تباين يمس الدين والهوية.
إنَّ التأريخ الهجري تأريخ مرتبط بالدين وُضِع من أجله، فبالأشهر القمرية تربط أحوال الزكاة وآجال الديون والرهان وعدد الطلاق ومُدد الإحداد والإيلاء وغير ذلك؛ ولذا قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) [يونس: 5]. ومن حكمة ذلك أن الشهر القمري ظاهر للناس كافة، معلوم وقت دخوله ووقت خروجه، يعرفه المتعلم والأمي، والذي في الحاضرة بين الناس والذي في البادية مع ماشيته لوحده، وهذا من رحمة الله وتيسيره لعباده.
أما الميلادي فإنه مرتبط بدينين باطلين، أولهما وثنية الرومان، فإن الأشهر الغربية يناير وفبراير تمجيد للآلهة الأسطورية للرومان، ولاثنين من القادة المحبوبين الرومانيين، فيناير مأخوذ من (يانوس) إله الشمس، ومارس اسم إله الحرب، ومايو اسم إلَهَة الخصب، ويونيو اسم إلَهَة القمر، أما يوليو فهو اسم للقيصر كاليوس يوليوس، وكذا أغسطس اسم أحد القياصرة، والأشهر التي تحمل أسماء الآلهة المزعومة والقادة المحبوبين جعلوا أيامها تكتمل إلى واحد وثلاثين يومًا من باب التفاؤل، والأخرى تحمل ثلاثين يومًا لأنهم يتشاءمون من الأعداد الزوجية، أما أغسطس فإنه الشهر الثامن وكان ثلاثين يومًا، ولكنهم جعلوه واحدًا وثلاثين يومًا لكي لا يشعر (أغسطس) أنه أقل منزلة من يوليوس.
أما الأشهر الشرقية: كانون ونيسان وتموز فإنها كانت أشهر التقويم السرياني الذي اندثر قبل ثلاثة قرون تقريبًا، إلا أن أسماء الشهور بقيت وربطت بأسماء الشهور الغربية، ويحمل أحد هذه الأشهر -وهو تموز- اسم إله بابلي يموت ثم يعود، وأيلول معناه النوح؛ إذ ينوحون فيه على الإله الميِّت، أما نيسان فهو مستهل السنة الدينية المقدسة عند البابليين.
أما الدين الآخر الذي ارتبط به هذا التأريخ فهو النصرانية، فقد اعتمدوا التقويم الروماني بعد اجتماع للمجمع الكنسي أقر فيه الاعتماد عليه، ثم ربط بعد ذلك بميلاد المسيح -عليه السلام-، وذلك في القرن السادس أو الثامن من ميلاده، ومن هنا نعلم أن نسبة هذا التأريخ إلى ميلاد المسيح جاءت متأخرة جدًا عن ميلاده، كما أنها غير دقيقة، فإن بعض باحثيهم صرح بأن ميلاد المسيح كان قبل هذا التاريخ بأربع سنين على الأقل، ولما كانت السنة الشمسية ثلاثَمائة وخمسةً وستين يومًا وخمس ساعاتٍ وتسعًا وأربعين دقيقة، و56 من الألف من الثانية تقريبًا، كان هناك فرق سنوي، قدره إحدى عشرة دقيقة تقريبًا بين الحساب والواقع الفعلي، ومن هنا كان لا بد من التغيير، حتى يضبط ميعاد عيد الفصح الذي يشكل أحد المعالم الرئيسة في التقويم الكنسي، ما دعا بابا النصارى جريجوري الثالث عشر إلى إجراء تعديل، فقرر زيادة عشرة أيام في التاريخ، فعدل التاريخ في ذلك الوقت من الخامس من أكتوبر عام 1582م، حتى كان الخامس عشر منه. وقد أُقِر هذا الإصلاح بأمر بابوي، وسمي هذا التاريخ بعد تعديله بالتاريخ الجريجوري، وهو المعمول به الآن.
عباد الله: من هنا عرفنا أن هذا التقويمَ وضعي، غيرُ مبني على أساس كوني في تقسيم شهوره، بل إن القياصرة والباباوات تغير فيه حسبما ترى، ولذا لما قصرت الأيام اختاروا فبراير مكانًا للنقص، فكان ثمانية وعشرين يومًا في السنوات البسيطة، بخلاف التقويم الإسلامي المربوط بظاهرة كونية يدركها كل الناس، قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [البقرة: 189].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فإن من أكبر الجنايات على الهوية الإسلامية أن يستبدل بتأريخها الديني تأريخًا أجنبيًا عن دينها وثقافتها، وإن ذلك امتداد لطمس هذه الهوية والارتماء في أحضان التبعية.
إن في الاعتزاز بالثوابت والموروثات الدينية والثقافية والتي منها التأريخ الهجري إبقاءً على كيان الأمة، وهذا ما لم يُرضِ أعداءها، ومن أجل هذا سعوا إلى زعزعة تلك الموروثات من أكثر من طريق، ومن أظهر تلك الطرق ما كان في حقبة الاستعمار، وكان أول ما اعتمد التأريخ الإفرنجي إلى جانب التأريخ الهجري في مصر عام 1292هـ، وكان ذلك قبل الاحتلال البريطاني بسبع سنواتٍ فقط.
لقد بلغ الأمر في هذا الزمان أن أحدنا إذا سمع الشهر الحالي أو الشهر القادم أو العام المنصرم لا يدري هل المقصود شهر المحرم أو فبراير أو 1424هـ أو 2004م، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
عباد الله: إن الواجب على الأفراد والمؤسسات أن تنظر في هذا الأمر نظرة الجد، وأن تُجعَل طاعةُ الله تعالى وعزةُ دينه أمام الأعين.
عباد الله: اقدروا للأمر قدره، ولا تستهينوا بذلك، فإن أول خطوة في طريق العزة والرفعة هي القناعة النفسية بالمبادئ والأهداف والغايات، وفقني الله وإياكم لكل خير.
عباد الله: جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "صوم يوم عاشوراء يكفر السنة الماضية"، وقال: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع". فاحرصوا -رحمكم الله- على هذه المنحة الجليلة، إنه فضل من الله تعالى، إذ يكفر ذنوب سنة من الصغائر بصيام يوم واحد، واحرصوا على صيام يوم قبله أو يوم بعده؛ مخالفة لليهود الذين كانوا يصومون العاشر فقط، فرحًا بنجاة موسى وقومه من فرعون وقومه، وقد أُمرنا بمخالفتهم فيما كان من خصائصهم.
عباد الله: إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا -عباد الله- وسلموا على أزكى البرية أجمعين محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والتسليم، فإن من صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهرًا وباطنا، اللهم توفنا على ملته، اللهم اسقنا من حوضه، اللهم أدخلنا في شفاعته، اللهم اجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.