العليم
كلمة (عليم) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...
العربية
المؤلف | مشعل بن عبد العزيز الفلاحي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
دعني أسألك وأنت تلبس حلل هذه النعمة وتنعم بآثار هذا الدين: كم هي خدمتك لدينك؟! كم ساعة تبذلها من وقتك لأجل دينك؟! ما مشروعك الذي تودّ أن تخدم به دينَك وتدخل به إلى عالم الجنان غدًا بإذن الله تعالى؟! إن بإمكان الواحد منا أن يكون مشروعًا في...
الخطبة الأولى:
أيها المسلم: الحديث عن الإسلام حديث عن الشرف والعز والرسالة والغاية في حياة كل إنسان يتنفّس الهواء في هذه الدنيا، إن الله تعالى خلقنا لعبادته، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، وجعلنا خير أمم الأرض رسالة، قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 108]، وختم بنا الأمم، وجعلنا شهداء الله تعالى على أمم الأرض كلها، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة: 143].
أيها المسلم: أرجوك أن تمعن فيما ذكرت لك، فكر في هذا العز الذي ألبسك الله تعالى إياه، فكر في هذه المكارم التي تحقّقت لك، واعلم أن ذلك محض فضل الله تعالى وتوفيقه، واعلم كذلك أن أممًا على وجه الأرض إما أنها لم تسمع بهذا الإسلام فلا زالت في عمى الجهل والكفر والغواية، وإما أنها سمعت لكنها لم تشرف بهذه المنازل، ولم تتوفّق لنيل هذه المكارم، فلا زالت حائرة في الضلالة، ضائعة عن الهدف، غاوية في الطريق، وأنت تنعم في أعظم دين لا حرمك الله التوفيق.
أيها المسلم: دعني أسألك وأنت تلبس حلل هذه النعمة وتنعم بآثار هذا الدين: كم هي خدمتك لدينك؟! كم ساعة تبذلها من وقتك لأجل دينك؟! ما مشروعك الذي تودّ أن تخدم به دينَك وتدخل به إلى عالم الجنان غدًا بإذن الله تعالى؟!
إن بإمكان الواحد منا أن يكون مشروعًا في حياة نفسه وأسرته ومجتمعه وأمته، يقول الدكتور عبد الكريم بكار وهو يتحدث عن مشروع العمر للإنسان: "يستطيع كثير من أفراد هذه الأمة أن يتخيّل أن حياته عبارة عن مشروع أنشأته أمّة الإسلام، واستثمرت فيه، ثم أوكلته إليه ليديرَه ويتابعَه، ويبذل فيه من ماله ووقته وجهده، وقد قبل هذه الوكالة وشرع يحاول في جعل ذلك المشروع ناجحًا ومثمرًا، بل يحاول أن يجعل منه مشروعًا نموذجيًّا بين المشروعات المناظرة. وأود هنا أن أشير إلى فكرة مهمة هي أن الأمة الفقيرة ليست تلك التي لا تملك الكثير من المال، لكنها التي يتلفّت صغارها وكبارها فلا يرون إلا رجالاً من الدرجة الرابعة، ولا يجدون نماذج رفيعة حيّة يقتدون بها ويقبسون من روحها وسلوكها ما يشكّل قسمات حياتهم.
إننا نريد من كل واحد منّا أن يفكّر هل يمكن أن يقدّم نموذجًا في الحفاظ على الوقت أو القراءة أو الحرص على صلاة الجماعة!! أو نموذجًا في الصدق أو التواضع أو خدمة المجتمع أو بر الوالدين أو الغيرة على حرمات الله تعالى أو نصح المسلمين؟! وحين يتمكّن 5% منّا تمثُّل هذه الفكرة وتطبيقها ثم نشرها والدعوة إليها فإنني أعتقد جازمًا أن وجه العالم سيتغيّر تغيّرًا واضحًا". اهـ.
أيها المسلم: لعلك تودّ أن تتعرّف على مشروع العمر ما هو؟! إن مشروع العمر هو مشروع تتّضح في ذهن صاحبه أهدافه، وتستولي فكرته على فكره وعقله، ويبذل له جميع طاقاته. هذا هو مشروع العمر، مشروع يتناسب أولاً مع قدراتك وإمكاناتك، ثم تعيش همّه في كل لحظة من حياتك، ثم تبذل له جميع ما تملك من فكر وعمل ومتابعة.
إنّ بإمكان الواحد منا أن يكون مشروعًا خاصًّا في حياة أمته فقط حين يتحرّر من الوهن والضعف وتقزيم النفس؛ ليركب نحو المعالي، كاتبًا في حياته الشخصية أنه أحد الكبار في حياة أمته.
أيها المسلم: أودّ أن أقرّب لك الصورة أكثر، في السنة النبويّة ورد ذكر امرأة كان لها مشروعها الشخصي الخاص، أتدري ما هو مشروعها؟! كانت تقمّ المسجد، هذا هو مشروعها، كانت تحرص على أن يكون مسجد رسول الله نظيفًا، وهي بهذا تشارك في خدمة هذا الدين، وفي النهاية رحلت من الأرض، ماتت في ساعة متأخرة من الليل، غسلها الصحابة ودفنوها ولم يخبروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ظنًا منهم أنها ليست بذات الشأن، وفي الصباح دخل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إلى مسجده فتلفّت فلم يرَ المرأة، فسأل عنها فأخبروه أنها ماتت، فقال: "أفلا آذنتموني؟!"، أي: أخبرتموني، قالوا: إنها ماتت في ساعة متأخرة، فيقوم -صلى الله عليه وسلم- متوجّهًا إلى المقبرة، ويتبعه الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-، ويقف على قبرها ويصلي عليها، ثم يقول: "إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله تعالى ينوّرها بصلاتي عليهم". ولا يُعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تتبع جنازة امرأة غير هذه، ما يدلّك على عظمة صاحب المشروع.
وهذا رجل آخر كان له مشروعه الخاصّ به، فتح الله تعالى عليه ورزَقه مالاً، وأراد أن يكونَ شيئًا، فصار يداين الناس وييسّر عليهم في القضاء، فيرسل رسوله ليأخذَ دينه لكنه كان يرسله ويذكره بقوله: خذ ما تيسر واترك ما عسر وتجاوز لعل الله تعالى أن يتجاوز عنا، ثم مرّت الأيام ومات الرجل، فلقي الله تعالى وسأله الله تعالى: هل عملت خيرًا قط؟! قال: لا، إلا أنه كان لي غلام وكنت أداين الناس، فإذا بعثته يتقاضى قلت له: خذ ما تيسر واترك ما عسر وتجاوز لعل الله تعالى يتجاوز عنا، فقال الله تعالى: قد تجاوزت عنك.
أيها المسلم: خذ سيرة أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، صحابي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي ملأ الدنيا ذكرًا وصيتًا وحياة، وتأمل سيرته كاملة، لا تجد فيها سوى مشروع واحد كوّن له هذا الصيت في الأرض، لقد كان مشروعه حِفظ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم يغادر الدنيا حتى تجاوزت محفوظاته خمسة آلاف حديث، ولا يكاد يذكر نبيّك -صلى الله عليه وسلم- اليوم في مجلس إلا وجدت لصيقه هذا الصحابي الجليل.
وهكذا هي المشاريع تجعل من أصحابها كبارًا لهذه الدرجة الكبيرة، لكن ينبغي أن تعلم أن هذا ما جاء من غفلة أو نوم أو انشغال بظروف خاصة، بل جاء من عمل وتعب نال به هذه المنزلة الرفيعة، يقول -رضي الله عنه- حاكيًا ذلك: إنكم تقولون: أكثر أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والله الموعد، وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرأً مسكينًا ألزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ملء بطني، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا: "لن يبسط أحد منكم ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه، ثم يجمعه إلى صدره فينسى من مقالتي شيئًا أبدًا"، فبسطت نمرة ليس عليّ ثوب غيرها حتى قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- مقالته، ثم جمعتها إلى صدري، فوالذي بعثه بالحق ما نسيت من مقالته تلك إلى يومي هذا.
أيها المسلم: لعلك فهمتَ عني ما قصدتُ إيصاله إليك، قف مع نفسك لحظات، فرّغ ذهنك من ضجيج الدنيا، وتأمل واسأل نفسك هذا السؤال: ما مشروعي الذي أدخل من خلاله إلى الجنة؟! ما المشروع الذي يتناسب مع قدراتي وظروفي وحياتي لأكون رقمًا كبيرًا في ذاكرة هذا الدين في يوم من الأيام؟! ثم إذا توصلت لذلك استخر ربك، وشاور صحبك، وجرّب، حاول، ثم ادع الله تعالى بالتوفيق. ولا يسعني هنا إلا أن أقول لك: هنيئًا فقد وضعت قدمك على بداية الطريق، والملتقى الجنان -إن شاء الله تعالى-.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
وبعد:
لعل أحدكم وأنا أتحدث كان يتمنى أن يقول لي: ذكّرنا بأصحاب المشاريع من المعاصرين ممن عاشوا زماننا ومكاننا وحياتنا حتى نتأمل الصورة أكثر، وهذا هو الذي أود أن أذكرك به الآن.
لم تكن المشاريع حصرًا على أفراد في ذاكرة التاريخ، كلا، وإنما هي كذلك ممتدة حتى تاريخنا الذي أحدثك به. خذ على سبيل المثال الألباني -رحمه الله تعالى-، مشروعه لا يغيب عن ذاكرة أيّ إنسان في عصرنا الحاضر، مشروعه تحقيق الحديث النبوي، بما تجزم معه اليوم أنك لا تجد عالمًا أو متعلمًا على ظهر الأرض إلا وكُتُب هذا العَلَم أحد مراجعه في التحقيق.
ولعلك تسأل: كيف بدأ الألباني؟! وأخبرك أنه كان في صغره عاملاً يصلح الساعات وليس له هم إلا تلك الصنعة، حتى وقعت بين يديه إحدى المجلات وجد فيها فكرة المشروع، ثم أقبل على هذا المشروع حتى ملأ الدنيا أثرًا وتأثيرًا.
لعلك تحتاج إلى مثال آخر، عبد الرحمن السّميط طبيب كويتيّ، أراد أن يكون مشروعه الخاصّ الدعوة إلى الله تعالى، ولعلك تسأل: كيف بدأ؟! يقول: أردت أن أجمع لمشروعي ألف ريال من أجل البداية، وبقيت لمدة ثلاثة أشهر لم أتمكن من جمع ألف ريال. أود هنا أن أنقلك إلى النهاية التي وصل إليها الرجل في مشروع الدعوة إلى الله تعالى، واصَل فذهب إلى إفريقيا يدعو إلى الله تعالى، واسمع إلى تلك النهايات: أسلم على يديه إلى الآن ما يزيد على مليونين ونصف مليون إنسان، وعلَّم ما يزيد على نصف مليون، ورسولك -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم".
أيها المسلم: لعلك تسأل: ما المشاريع التي يمكن أن يبدأ فيها الإنسان ويحقق بها أمثال هذه الأحلام؟! ولعل من نافلة القول أن أذكّرك بمشروع تربية الأبناء في البيت وجعلهم مشروع الإنسان الشخصيّ تعليمًا وتربية، وما يدريك أن يكون منهم علَم الأمة ومجدّدها في الأيام القادمة.
خدمة الناس وتفريج كروبهم وعونهم مشروع كبير يمكنك تحقيقه من خلال المشاركة في جمعيات البر، وهو مشروع فيه قول رسولك -صلى الله عليه وسلم-: "أنا وكافل اليتيم في الجنة، والساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله".
تعليم الناس كتاب الله تعالى قراءة وحفظًا مشروع ضخم فيه قول رسولك -صلى الله عليه وسلم-: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، ويمكنك تحقيق ذلك من خلال المشاركة في جمعيات تحفيظ القرآن الكريم.
الصلح بين المسلمين وجمع شمل المتخاصمين مشروع يمثل أهميته قول الله تعالى: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) [النساء: 114].
توزيع الشريط وتعليق إعلانات المحاضرات والدروس والقيام على تربية الشباب في التعليم أو القرى يمكن أن يكون مشروعك، أن تكون أديبًا، شاعرًا، كاتبًا، عالمًا، مفكرًا، قائدًا، معلمًا، وغير ذلك مما لا سبيل إلى حصره في مكان كهذا.
وأخيرًا، أرجوك أن تبدأ هذه اللحظة بالتفكير في مشروعك الخاص، مشروع العمر، المشروع الذي يمكن أن تكونَ من خلاله شيئًا كبيرًا في تاريخ نفسك. وأرجوك ثانية أن لا تقزّم نفسك وترى بأنك لست أهلاً لذلك، فقط أدعوك للتفكير بصدق، والتأمل حقيقة، ثم ابدأ الخطوة الأولى مهما كانت ظروفك، وقريبًا ستعانق الأفراح بإذن الله تعالى.
ألا وصلوا وسلموا على خير البرية...