الخلاق
كلمةُ (خَلَّاقٍ) في اللغة هي صيغةُ مبالغة من (الخَلْقِ)، وهو...
العربية
المؤلف | الخضر سالم بن حليس اليافعي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
لقد كان أبرز ما تحلى به التجار اليمنيون هو الخلق، والاعتزاز بالدين، ومعاملة الناس هناك وفق المعايير الإسلامية، والقدوة الحسنة، والتدين الصافي؛ ولم تمنعهم تجاراتهم وأموالهم من نسيان رسالتهم في نشر الإسلام، ومعاملة الناس -أيا كان دينهم- وفق هذا الدين. كيف استطاع اليمنيون أن يؤثروا في هذه الشعوب الكبيرة، وأصبحوا...
أود أن أتحدث اليوم عن حقبة من حقب التأريخ، ورحلة من رحلاته.
عندما دخل الإسلام اليمن على يد علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم وجد تربة خصبة بين أهله عندما سمعوا به.
انجفل الناس يدخلون في دين الله أفواجا، وتسارع أهل اليمن إلى الإسلام، ولم يكن اليمنيون شعبا عالة على الإسلام، بل كانوا في طليعة الشعوب التي جابت دول الشرق والغرب جهادًا للكافرين، وإعمارا للبلاد المفتوحة.
فثبت أن قبائل من اليمن رحلت إلى المدينة إبّان عهد الوحي، مثل قبيلة الأشعريين، ثم قبائل كثيرة إلى العراق ومصر والشام إبّان عصر الفتوحات في عصر الخلفاء الراشدين.
ولم يتخلف شعب اليمن عن الهجرة إلى أقصى الأرض مثل الأندلس عندما فتحت في عصر الأمويين.
ولا تزال قبائل يمنية كثيرة في بلاد المغرب العربي إلى اليوم شاهدة على مشاركة أهل اليمن في الفتح الإسلامي لبلاد المغرب العربي.
وعندما توقفت الفتوحات لم تتوقف جحافل الشعب اليمني في جوب الأرض شرقا وغربا، ولكن؛ لم يكن ذلك عن طريق الجيوش الجرارة التي كانت تفتح السهول والمدن، بل كان عبر قوافل التجارة التي لم تدع سلعة إلا ورحلت في بيعها أو شرائها أو استجلابها؛ بل إن من قوافل التجارة تلك ما استوطن بلادًا قاصية بعيدة وبقي فيها حتى هذه الساعة.
معظم الهجرات اليمنية استقرت في جنوب شرقي آسيا، وكان بعض منها جاب الهند والسند والصين.
أما إندونيسيا وتايلاند وبورما وماليزيا فقد حظيت بأكثر الرحلات اليمنية استيطانا، وما تزال حتى هذه الساعة جاليات يمنية كبيرة ذات ألقاب عربية يمنية واضحة تتخذ من تلك البلاد مستقرًا ومقيلا.
لم يجد اليمنيون بدًّا من ممارسة دورهم العالمي عن طريق مهنتهم الأصيلة التي تلقوها عن أجدادهم كابرًا عن كابر، ألا وهي التجارة.
بدأ اليمنيون في التغلغل إلى البلاد التي لم تصلها الفتوح الإسلامية.
كانت جزر إندونيسية كبرى لم تطأها قدم أحد من دول العالم القديم، حتى وصلتها قافلة تجارية بحرية من اليمنيين، عرضوا بضائعهم الغريبة على القبائل الإندونيسية التي كان معظمها يعتنق الديانات البوذية والوثنية المختلفة، كما كان كثيرٌ من تلك القبائلِ قبائلَ بدائية لم تعرف المدنية البتة.
مكث هؤلاء التجار في إندونيسيا يعرضون تجارتهم حتى استهوتهم الإقامة في تلك البلاد عندما رأوا سهولة دخول الناس في دين الله (الإسلام) أفواجا، فأنشؤوا يقيمون خططهم الطويلة الأمد في استيطان تلك البلاد وتوسيع دائرة الدعوة الإسلامية، حتى شملت كل الممالك في إندونيسيا، التي كانت تضم حينها الفلبين أيضا.
دخل الإسلام تلك المنطقة بسرعة هائلة، ولم يصل القرن العاشر الهجري إلا وقد كان أرخبيل إندونيسيا والفلبين بأسره يضم ممالك إسلامية ذات نفوذ واسع امتد حتى شمل الممالك الإسلامية في ماليزيا (جزر الهند الصينية)، واستوطن الإسلام في جنوب شبه جزيرة الهند الصينية أيضا، وغدا الوجود الإسلامي في تلك المنطقة قدرا محتوما.
يتكثف الوجود اليمني في جزيرة جاوه في إندونيسيا.
المجتمعات الإسلامية في إندونيسيا وماليزيا يعرفون فضل هؤلاء التجار لما عرف تاريخيا من دورهم في دخول الإسلام إلى تلك البلاد.
ولك أن تسأل السؤال المهم: إندونيسيا هي أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان، ورابع دولة عالميا: كيف استطاع اليمنيون أن يدخلوا هذه الملايين في دين الله من غير حرب ولا جيش؟ ما السر في ذلك؟.
لقد كان أبرز ما تحلى به التجار اليمنيون هو الخلق، والاعتزاز بالدين، ومعاملة الناس هناك وفق المعايير الإسلامية، والقدوة الحسنة، والتدين الصافي؛ ولم تمنعهم تجاراتهم وأموالهم من نسيان رسالتهم في نشر الإسلام، ومعاملة الناس -أيا كان دينهم- وفق هذا الدين.
كيف استطاع اليمنيون أن يؤثروا في هذه الشعوب الكبيرة، وأصبحوا اليوم غير قادرين أن يؤثروا على بعضهم البعض في غرس روح المحبة والإخاء فيما بينهم؟.
للأسف الشديد! إن بعض التجار اليمنيين المعاصرين لم يكونوا كأسلافهم في نشر الدين والدعوة إلى الله، بل إن معظم معاملاتهم مع الآخرين منصبة في الشأن المالي، وغاب عن اهتمامهم تماما الجانب الدعوي والأخلاقي.
يقال هذا يا أهل اليمن لتعرفوا من أنتم، وكيف أثّرتم، وبأي أخلاق تحليتم، وكيف لم تكونوا قط عبئاً على الإسلام؛ بل حملتموه مُثلا وقيما في كل ساحة نزلتم بها، وفي كل بلد دخلتموه.
وبعد يا أهل اليمن: فإنه يسوؤنا والله ما يحصل اليوم من أحداث دامية، ومشاجرات حامية، نتائجها بين قتيل وجريح، في تعدٍّ صريح، وخروج عن تعاليم الشريعة، عصابات ومجموعات إجرامية دخيلة على أهل اليمن، تخويف وهمجية، وترويع ووحشية، أعمال مشينة، وأفعال مهينة، قتل وخنق، وللتعاليم خرق.
إنَّ هذه الأعمال، التي تستهدِف الآمنين المعصومين، وتزهق أرواح المسلمين الوادعين، مخالفة لشريعة ربّ العالمين.
إنه لأمر مؤلمٌ حقًّا، ومؤسِفٌ صِدقًا، يُعجِز البيان، ويُرجف الجنان، ويهز البَنان؛ فيا لفظاعة القتل! ويا له من هول! دماء تراق، وأجساد للموت تساق؛ جرائم سطّروها بمدادٍ قاتم، وعقول هائمة، فأهلكوا أنفساً مسلمة بريئة، وأزهقوا أرواحاً مطمئنة محترمة.
كيف يفعل أولئك القتلة بدم من قتلوهم يوم القيامة، يوم: "يجيء المقتول متعلقاً بالقاتل، يقول: يا رب، سل هذا فيم قتلني؟" أخرجه أحمد.
(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء:93].
ألا فاعلموا يا أهل اليمن أن أمر الدماء عظيم في الإسلام، مهيب عند رب الأنام.
عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ، وَأَهْلَ أَرْضِهِ، اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لأَدْخَلَهُمُ اللَّهُ النَّارَ" رواه ابن ماجة بإسناد حسن والبيهقي والأصبهاني.