البحث

عبارات مقترحة:

الغفار

كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...

الكريم

كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...

الوهاب

كلمة (الوهاب) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) مشتق من الفعل...

فتنة التفرق والاختلاف

العربية

المؤلف الشيخ د عبدالرحمن السديس
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. أثر فتنة التفرق في الأمة .
  2. الوحدة الدينية والوطنية من الضرورات المحكمات .
  3. من مظاهر الخديعة للوحدة الوطنية .
  4. استثمار وسائل الاتصال في النافع للأمة .
  5. ضرورة التحصن بالائتلاف والتعاون .
  6. التحدث بالنعم من أداء واجب شكرها .
  7. تميز هذه الديار بالأمن والأمان .
  8. من حق أوطاننا علينا .

اقتباس

فتنةُ التفرُّق في الدين بين العباد، وخرق وحدة الأوطان والبلاد. إنها خَطْبٌ راصِد، وبلاءٌ حاصِد، ما زحفَت أصلالُها في مُجتمع إلا مزَّقَته شذَرَ مذَرَ. فهي مِعولٌ خطيرٌ في صرحِ الوحدة، وشرارةٌ تُشعِلُ فتيلَ الصِّراعات، وتجلِبُ الفُرقةَ والنزاعات. إنها غُمَّةٌ تجعلُ أفرادَ الأمة كضرائرِ الحسناء، وتزرعُ فيهم مُعضِلات الأدواء، وتنشرُ...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعلَنا شعوبًا وقبائل، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أرسلَه تعالى وليلُ الفُرقة لائِل، فجاء بالوحدة والاعتِصام بعد جحافِل الطوائِل، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه في الغُدوات والأصائِل، والتابعين ومن تبِعهم في حُسن الفضائل وكرائِم الشمائِل، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يومٍ يُجمعُ فيه الأواخرُ والأوائِل.

أما بعد:

فيا عباد الله: اتقوا ربَّكم، واشكُروه على نعمه الوافِرة، وآلائِه المُتكاثِرة؛ فإن الشُّكرَ تُدرأةٌ ورغَس، ونورٌ يُضِيءُ غياهِبَ الدَّنَس.

علـى أن الشـكرَ ليـس ببالغٍ

مدَى بعضِ ما أولَى وأجزلَ من ندَى

وأنَّى يُوازِي الشكرَ إحسانُ مُنعمٍ

يمُـنُّ بـلا مـنٍّ ويُـولِي بلا أذى

أيها المسلمون: في هذه الآونة الداكِنة التي تلاطَمَت أمواجُها، وامتزجَ نميرُها وأُجاجُها، وأعنقَت فيها الفتنُ أجيادَها، واستصرخَت في بعض الأصقاع أجنادَها، حتى غدَا شأنُ الأمة في أمرٍ مريجٍ، والحقُّ والباطلُ -على بُعد ما بينهما- في مزيجٍ، تشرئبُّ فتنةٌ من عظائم الفتن البَتراء، المُنذِرة بالمهالِك الغَبراء، قاصِمةٌ دهياء، ومحنةٌ شوهاء.

تلكم -يا رعاكم الله-، هي: فتنةُ التفرُّق في الدين بين العباد، وخرق وحدة الأوطان والبلاد. إنها خَطْبٌ راصِد، وبلاءٌ حاصِد، ما زحفَت أصلالُها في مُجتمع إلا مزَّقَته شذَرَ مذَرَ.

فهي مِعولٌ خطيرٌ في صرحِ الوحدة، وشرارةٌ تُشعِلُ فتيلَ الصِّراعات، وتجلِبُ الفُرقةَ والنزاعات. إنها غُمَّةٌ تجعلُ أفرادَ الأمة كضرائرِ الحسناء، وتزرعُ فيهم مُعضِلات الأدواء، وتنشرُ زوابِع الشحناء والبغضاء، والله -عز وجل- يقول: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [آل عمران: 101].

والمُصطفى -عليه الصلاة والسلام- يقول: "إن السعيدَ لمن جُنِّبَ الفتن". أخرجه أبو داود بسندٍ صحيحٍ.

إخوة الإيمان: وتلقاءَ هذه المرحَلة العَصيبة في الأمة من استِحكام الأهواء، والتحزُّبِ والتمزُّع، ونُوَب التفرُّق والتعصُّب والتوزُّع؛ لزِمَ العودة الجادَّة إلى أصول شريعتِنا البَلْجاء، والاحتِكام إلى ثوابِتِها الشمَّاء.

ما غابَ عن آبائِنا قبلَنا

كيف أساليبُ رُقيِّ البلاد

كلا، ولن تجهلَ معنًى به

تكونُ الوحدةُ والاتِّحاد

الوحدةُ والاتِّحاد بين أبناء الوطن من مُختلف البِقاع والوِهاد، وهل مجدُ الأوطان إلا بوحدة بَنِيه الصادِقين الذين نحَّلُوه حبَّات الفؤاد؛ ليبلُغَ من مراضِي الله القِمَم والأطواد.

الوحدةُ الدينيةُ والوطنيةُ من الضرورات المُحكَمات، والأصول المُسلَّمات، كما هي من أساس الأمن والاطمِئنان، ودعائِم الحضارةِ والعُمران؛ بل هي معراجٌ لبلوغِ مرضاة الديَّان، يقول -سبحانه-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103]، ويقول -جل وعلا-: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى: 13].

يقول الإمام البغوي -رحمه الله-: "بعثَ الله الأنبياءَ كلَّهم بإقامة الدين، والألفَة والجماعة، وترك الفُرقة والمُخالَفة".

وإذا القلوبُ تآلفَت مع بعضِها

لا بُدَّ أن يُدرِكنَ كلَّ مُرادِي

ويدُ الإله مـع الجمـاعة سُنَّةٌ

عمِلَت بها الآبا عن الأجدادِ

أمة الإسلام: ولن يصدَّ تيَّار التشدُّد وأتِيَّه، ولن يُقوِّمَ مُعوجَّه وعصِيَّه، إلا لُحمة الاتِّحاد والتلاحُم، والترابُط والتراحُم، وتقديمُ مصلحة الأوطان على هوَى النفوس؛ فمحبَّةُ الأوطان فِطرةُ الديَّان.

فلنحتفَّ ولنلتفَّ حولَ الوشيجَة الدينية، والآصِرة الوطنية، التي لا تُشادُ ولا تستكِرّ، ولا ترسُو ولا تستقِرّ؛ إلا على أصول وحدتنا الإسلامية.

فـاجعَلوا الوحـدةَ درعًا لكم

إنما الـدارِعُ لا يخشَى السِّهامَ

وخُذُوا العبرةَ مـن تـاريخِكم

كيف آلَ الأمرُ بالناس انقِسامًا

لا يسوسُ الأمورَ شعبٌ لم يكن

من رَضاع التاريخ جازَ الفِطامَ

إخوة الإسلام: ومن الفواقِر التي كشفَت عن خُبُوِّ الوحدة الوطنية لدَى رهطٍ من الناس: ما أقدمَ عليه طُغمةٌ باعُوا دينَهم ووطنَهم بلُعاعةٍ من نَشَب، وهتَكوا حُرمةَ الإباء الأصيل النسَب.

وتلـك شيمةُ مـن كانت بصيرتُه

أدنَى إلى السَّقط لا حسٌّ ولا خجَلِ

فجاسُوا بالخيانة، وطرائِق التخابُر المُرِيعة، والتجسُّس الشَّنيعة، فجاؤوا أمرًا إدًّا بعد أن أظهَروا ولاءً ووُدًّا، ولكن -بحمد الله- قد فضحَ الله أسرارَهم، وهتكَ أستارَهم.

من يزرعِ الدسَّ كأسًا غير مُكترِثِ

بالمُرِّ فيه مذاقًا غيرَ ذي طـعمِ

يلقَى الهـوانَ ويرضَى كلَّ مُخزِيةٍ

في غير حسٍّ ولا نُبلٍ ولا كرَمِ

ومن الخديعة للوحدة الوطنية، والنَّحت لأثْلَتنا الأبِيَّة: ما يُعرفُ اليوم بالتغريد؛ بل قُل في أكثره: النَّعيب والنَّعيق، والهشتقَة والهرطَقة التي تضِجُّ بها الوسائل والمواقع التواصُلية، والشبكات العنكبوتية، إيقادًا للفتن والإرجاف، وإذكاءً للشرور والإسفاف، وإصلاتًا لعِضابِ الفُرقة بالجُرأة والاعتِساف؛ نقضًا لمُحكَمات الألفة والاتِّحاد، وشرخًا في صَميم الولاء والوِداد.

يقول -عز وجل-: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) [التوبة: 47]، ولكن لن تزيدَ ألسِنةُ المكر واللَّهَب الواثِقين الصادقين إلا اعتِصامًا بالحقِّ ورُسُوخًا، وتوكُّلاً على الله وشُموخًا.

اللفـظُ من سيوفٍ صُقِّلَت

ومن القنَا بين الضُّلُوع يُنشِّرُ

واعلَم بأنك إن قلبتَ حقيقةً

ستُلوِّثُ الأوطانَ بل ستُتبِّرُ

وآخرون يمَّموا وجوهَهم تلقاءَ أفكارٍ دخيلة عن سواء الحقِّ جانِحة، وسداد العقل وحصافته جانِحة، حاشِدين في كِنانتهم المشروخة سِهامَ الاتهامات الباطلة، وأسَلات الأحكام الجُزاف العاطِلة، والدِّعايات التشهيرية المسمومة، والاختِلاقات الرَّعناء المزعومة. وقد درَوا -وبئسَ ما درَوا- أنهم عن وشِيجَة الولاء واللُّحمة الوطنية قد مرَقوا، ولوحدة الأمة قد خرَقوا.

وإن الكيِّسَ العاقلَ هو من يحفظُ عقلَه عما يُبثُّ من الأفكار الخادِعة، فلا يُسلِمُه للأهواء المُفرِّقة القاذِعة، والآراء المُشتِّتة الصادِعة، ويُفعِّلُ الحسَّ الوطنيَّ في إطار ثوابت الدين وهديِ سيد المُرسلين وصحابته الغُرِّ الميامين.

وإن أُولِي الألباب لا يُؤلِّهون العقولَ فتنبُو بهم عن المعقول، ولا يفهمون قولَ الصنيع الفهمَ الشنيع؛ بل فهمًا رفعيًا، ولا يخلِطون نجيعًا ورجيعًا، لا سيَّما بعدما استعصَى الفَتقُ على الراقِع في وسائل التواصُل الاجتماعيِّ، وصُكَّت الأسماع وزاغَت الأنظارُ بالتِياع لنعيقٍ مُتكرِّر، تُنعَى معه الأحلامُ والنُّهَى، وتُداسُ فيه المروءاتُ وتذهبُ الحِجَى، بما يخرِقُ سياجَ وحدة الأمة الدينية والوطنية.

فليتَّقِ الله المُغرِّدون والمُتوتِرون المُتوتِّرون فيما يقولون ويكتبُون.

وإن تعجبوا -يا رعاكم الله- فعجبٌ أن يتوشَّح كثيرٌ من هؤلاء بعباءة الغَيرة على الدين والأوطان، والنُّصح والإصلاح، والمُطالبة بالحقوق وحرية التعبير -زعَموا-.

فيا لله! حينما يغلبُ الهوى على طريق الهُدى لاستِمالة الدَّهماء بالتأليب واللَّغَط والضَّجيج، والتشويش والجدَل والعَجيج.

ألم يأنِ الأوان أن تُستثمَر هذه الوسائلُ والتِّقانات لما يُحقِّقُ مصالحَ الدين والوطن والمُجتمع؟! وتصدُر عن خطابٍ مُتَّزنٍ يدرأُ المفاسِد، ويعتبرُ الآثار والمآلات، بدلَ أن تُسلَّط مِعولَ هدمٍ لتماسُكها، وطعناتٍ نجلاء في خاصِرتها.

وفِئامٌ باعَت دينَها بدُنيا غيرها فسارَت في دُروب التجسُّس والخيانة، وأرخصَت الذِّمام والضميرَ والديانة، في صنيعةٍ شنيعةٍ تخدمُ أجندةَ الأعداء، ودُميةٍ وضيعةٍ في أيدِي الألِدَّاء. فبئسَ القوم هؤلاء الذين تنكَّروا لوطنٍ احتواهم، وبلدٍ احتضنَهم وآواهم، فلما اشتدَّت سواعِدُهم رشَقوه بسِهامهم ونَبلهم عقوقًا وجحودًا.

وآخرون سلَكوا مسالِكَ الدمار والهلاك في ترويج المُخدرات لتدمير حياة الشباب والمُخدرات، ولا يزالُ رافِعو راية الشِّقاق، ودُعاة الفتنة النُّزَّاق سادِرين في غيِّهم ببثِّ بُذور الفُرقة والتصنيفات، ورفع شِعارات المذهبيَّة والطائفيَّات، بما يدقُّ أسافِين خطِرة تخرِقُ سفينةَ المُجتمع، وتهزُّ ولاءَ أبنائه، وتُفرِّقُ الجمعَ النَّظيم والشملَ الكريم.

فيا أيها المُرجِفون: رُويدَكم رُويدَكم!! ويا أيها المُوجِفون بشدَى تغريداتهم وأقوالهم: اربَعوا على مُجتمعاتكم وأوطانكم قبل أن يحصُل النَّدم ولاتَ ساعة مندَم، وخُذُوا من الغير الدروسَ والعِبَر. فهل من مُعتبرٍ ومُدَّكرٍ؟!

وكم أُناسٍ دُروبُ الشرِّ تحضِنُهم

وقد ترى بشرًا صُمًّا وعُميانًا

فمن تدرَّع بالسَّوءَات زاد هوًى

وزادَ من نكسَة العِصيان نيرانًا

ومن البليَّة عذلُ من لا يرعوِي

عن غيِّه وخِطابُ من لا يفهمُ

(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30].

معاشر الأحِبَّة: ومهما يكُن من نُبل العاطِفة الإسلامية في نُشدان الحق والخير والمغانِم، والخروج من المظالِم والمغارِم مع التسليمِ بشرعيَّتها وأحقِّيَّتها إلا تُزمَّ بالضوابط الشرعية، وقواطِع الكِياسة والعقل والحكمة الجليَّة ظلَمَت وأساءَت، وأفسدَت كلَّ مُراد، وانتجَعَت الحسَكَ والقتاد. فكم من مُريدٍ للحق لم يُصِبْه، والله المستعان.

وما القصدُ والمُرادُ -يا رعاكم الله- إلا النأيُ بأمتنا وسامِق وحدتنا وبديع أُلفتنا عن فِجاج العِثار، والشَّفا الجُرُف الهار، فها هي أمتُنا الإسلامية تعصِفُ بها رياحُ الفتن الهوجاء وقواصِف الخُلف السَّحماء، ولا معدَى عن إقامة مُجتمعٍ باسقٍ مُتعاضِدٍ مُؤسَّسٍ على أصلَب دعائِم الصدق والوفاء، وأمتَن أركان الجماعة والسمع والطاعة.

ديدَنُنا وهِجِّيرانا: إن تدابَرَ الناسُ تعانَقنا، وإن تناثَروا ترافَقنا، وإن تخالَفوا تناصَرنا، وإن تقاطَعنا تواصَلنا، وإن ضنُّوا تآثَرنا.

تلكم -لعَمريَ- أنماطٌ لوحدتنا

فهل تُرانا لصوت الحق نمتثِلُ

فنكتبُ اليوم للتاريخ ملحـمةً

تفيـضُ حبًّا وتِيـهًا إنه أملُ

ألا فلنترُك مُحدثات الأُمور ومشكلاتها، ولنتحصَّن من قُرحها وعلاَّتها، فما هكذا تُورَدُ الإبل ولا تُؤتَى السُّبُل، ولنتمثَّل قولَ ربِّنا -جلَّ في عُلاه-: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم: 31، 32].

في سنن أبي داود عن جُبير بن مُطعِمٍ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس منَّا من دعا إلى عصبيَّةٍ، وليس منَّا من قاتلَ على عصبيَّة، وليس منَّا من ماتَ على عصبيَّة".

وإن كتابَ الله أعدلُ حاكمٍ

فيه الشِّفا وهدايةُ الحيرانِ

والحاكمُ الثاني كلامُ رسولِه

مـا ثَمَّ غيرُهما لذِي إيمانِ

وبعد:

معاشر الأحِبَّة الأكارِم: إنها ذِكرى للذاكِرين، وهتفةٌ لتنبيه الغافِلين أن تمسَّكوا بالتلاحُم والتراحُم، والثبات على صراط الله المُستقيم، فتلكم -وربِّي- قاعدةُ الفلاح الرَّصينة، وقلعةُ الأمن والسُّؤدَد الحَصينة.

يقول -سبحانه-: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 105].

باركَ الله لنا في القرآن العظيم، ونفعَنا بهدي سيد المُرسَلين، وثبَّتَنا على الصراط المُستقيم، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المُسلمين من كل خطيئةٍ وإثمٍ؛ فاستغفِروه وتوبوا إليه، إن ربي لغفورٌ رحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله-، وصُونوا أوطانَكم عما نقضَ دون ولائِها عهدًا، وأضمرَ لها شنآنًا وإدًّا؛ تُحقِّقُوا وحدةً وُودًّا.

إخوة الإيمان: التحدُّثُ بالنِّعم من أداء واجبِ شُكرها، وفي آي التنزيل الجليل الأمرُ بذِكرها ونشرِها، وهذه الديارُ الآمنةُ المُطمئنَّةُ ذاتُ الوحدة الوطنية والالتِفاف، والرخاءِ المَديد الأطراف بوَّأَها الله -جل جلالُه- في العالمين الفَرَادَة والخُصوصية، والامتيازَ والاستِثنائيَّة، بما سنَّمَها من المكانةِ القُدسيَّة العليَّة، وشرَّفَها بوجود الحرَمَين الشريفين السنيَّة، وكرَّمَها بالوُلاة الميامِين والعُلماء الربانيِّين، حتى سمَت عن أدواء الخُلف والشِّقاق، ورسَت فيها ركائزُ الولاء والوِفاق.

ومن بالسوء رامَها اجتثَّ البارِي أصلَه، وفلَّ نصلَه. أليس لها في كل قلبٍ مؤمنٍ محبَّةٌ مُتجذِّرةٌ مستورةٌ؟! وفي كل صفحةٍ من التاريخ بطولةٌ منشورة؟! وفي سائر أمجادِها أفنانٌ مُضوَّعةٌ منظورة؟!

أرضٌ لها في المكرُمات عراقةٌ

مشهودةٌ والمجدُ فيها مُختزَن

لذلك فإنها لا تزالُ محسودة، وبالأذَى والاستِهداف دومًا مقصودة، فبَين أرعنٍ ضحلِ المروءة والهمَّة، خافرٍ للجماعة والذِّمَّة، يُزيِّنُ الباطلَ للتفريق، ويُشوِّهُ الحقَّ للتمزيق، لا يتورَّعُ عن البُهتان والضلال، والكذبِ والانتِحال، والتمويهِ والاحتِيال. وبين مُتشبِّعٍ بأفكار دخيلةٍ هوجَاء، وآراء هزيلةٍ عوجاء، ومسارِب كالِحة رعناء، يتقلَّبُ الدَّهماءَ والغوغاء.

فلم يتعلَّقُوا من السَّداد بنفحةٍ، ولا من نورِ الحقِّ بصفحة؛ فمن تعلَّق بعلاق، وجدَحَت له يدُ الإملاق، وإنهاء المُعاشَرة ببتٍّ وطلاق؛ فليتَّقِ اللهَ في نفسِه ومالِه وأهلِه ووطنِه.

إن المُسلمَ الصالحَ يقتضيه صلاحُه الوفاء للوطن، وصونَه عن الفتن والمِحَن، والصدقَ في السرِّ والعلَن، وأن يتحلَّى بثقافة الحِوار والائتِلاف، والترابُط والبُعد عن الاختلاف، وتجنُّب مقيتِ الحِزبيَّات، وآسنِ العصبيَّات.

وإن من حقِّ أوطاننا أن نكون بتحقيق مصالِحها سُعاة، ولدرءِ المفاسِد عنها دُعاة، ولأمنِها ورخائِها واستِقرارها حُماة، ولوحدة شرائِحها وأطيافِها رُعاة. وما كان من الفرَطات النادِرة من بعض الأغمار والأغرار فدُون القياس والتعميم، ودُون الفضل السابِغ العميم، ولن يخدِشَ منها شُمَّ عامِرِها، وأنَّى يُرنِّقُ -بفضل الله- سَلسالَ غامِرها.

وإنا لنُرسِلُها مُكرَّرة مُحبَّرة مُقرَّرة مُكبَّرة: أن رسِّخوا دلالات الوحدة الدينية والوطنية، ومفاهيمَها الصحيحة المُنجِحة الرَّبيحة في نفوس أبناء الأمة دينيًّا وعلميًّا وثقافيًّا وإعلاميًّا وفكريًّا، ومهنيًّا واجتماعيًّا، وائتلِفوا على الحقِّ نعمَ الإخوة والخِلاَّن، وعلى الكمال والجلال في وِدادٍ واطمِئنان، تفوزوا بمجد الأوطان، وفي الأُخرى بأعالِي الجِنان.

ألا دامَت بلادُ الحرمين الشريفين رافِلَةً في سُبوغ المنَّة، ولا تزالُ -بفضل الله- آمنةً مُطمئنَّة، فيها تأتلِفُ الدُّرُوب، وتتوادَدُ القلوب، وتُدحَرُ الأراجِيفُ والشائِعات، والأباطِيلُ والمُزايَدات.

ولا تزالُ قيادتُها ورُعاتُها وعلماؤُها ورعيَّتُها ورجالُ أمنها بعناية الله محفوظِين، ورعايتِه مكلوئِين، وسائر بلاد المُسلمين، اللهم آمين.

هذا، وصلُّوا وسلِّموا -رحمكم الله- على خير الورَى آلاً وصِحابًا، صلاةً تعبِقُ مِسكًا وتِطيابًا، كما أمرَكم المولَى الجليلُ في مُحكَم التنزيل، فقال تعالى قولاً كريمًا لُبابًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا".

صلَّى علـيه اللهُ ما قرأَ الورَى

آيَ الكتاب وسُورةَ الفُرقان

منَّا السلامُ عليه ما هبَّ الصَّبَا

فوقَ الرُّبَا وشقائِق النُّعمان

اللهم صلِّ وسلِّم على سيد الأولين والآخرين، ورحمةِ الله للعالمين، وارضَ اللهم عن الخُلفاء الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، وعن الطاهرات أمهات المؤمنين، والتابِعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.