البصير
(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...
العربية
المؤلف | أبو عبد الله الأنصاري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
ولعظيم أمر الخاتمة - أيها الأخوة - فقد كان العلماء والصالحون من خيار هذه الأمة يشتد خوفهم من سوء الخاتمة، حتى قال الإمام عبد الحق الاشبيلي -رحمه الله تعالى-: "ولقد بكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح، فلما أصبح، قيل له: أكل هذا خوفا من الذنوب؟! فأخذ تبنة من الأرض، وقال: " الذنوب أهون من هذه، وإنما أبكي...
معاشر الناس: روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق-: "إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: رزقه أجله وعمله وهل شقي أو سعيد، فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها" [أخرجاه في صحيحهما].
قال العلماء: هذا الحديث أصل في التخويف من سوء الخاتمة، وفساد العاقبة، فإن العبد إن لم يوفق لخاتمة حسنة يختم بها عمله، وإلا كان من الهالكين، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "إنما الأعمال بالخواتيم".
يقول الحافظ ابن حجر: "وفيه الحث على الاستعاذة بالله تعالى من سوء الخاتمة وقد عمل به جمع جم من السلف وأئمة الخلف".
وإذ ثبت أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله تعالى من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا وفتنة الممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال، فإن أهل العلم قد بينوا أن فتنة المحيا التي كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منها هي سوء الخاتمة.
يقول الإمام ابن دقيق العيد: " فتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة ثم الموت".
ولعظيم أمر الخاتمة - أيها الأخوة - فقد كان العلماء والصالحون من خيار هذه الأمة يشتد خوفهم من سوء الخاتمة، حتى قال الإمام عبد الحق الاشبيلي -رحمه الله تعالى-: "ولقد بكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح، فلما أصبح، قيل له: أكل هذا خوفا من الذنوب؟! فأخذ تبنة من الأرض، وقال: " الذنوب أهون من هذه، وإنما أبكي خوفا من الخاتمة ".
وهذا من أعظم الفقه أن يخاف الرجل أن تخدعه ذنوبه عند الموت فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنى.
وقد ذكر الإمام أحمد عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنه لما احتُضر جعل يُغمى عليه، ثم يفيق، ويقرأ: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأنعام: 110] فمن هذا خاف السلف من الذنوب أن تكون حجابا بينهم وبين الخاتمة الحسنى".
ومن خوف أسلافنا من سوء الختام ما ذكره أبو نعيم في الحلية عن يحيى بن الفضل الأنيسي، قال: سمعت بعض من يذكر عن محمد بن المنكدر أنه بينا هو ذات ليلة قائم يصلي، إذ استبكى، وكثر بكاؤه، حتى فزع أهله، وسألوه ما الذي أبكاه، فاستعجم عليهم، وتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى أبي حازم فأخبروه بأمره، فجاء أبو حازم إليه، فإذا هو يبكي، قال: يا أخي ما الذي أبكاك؟ قد رعت أهلك، أفمن علة؟ أم ما بك؟ قال: فقال: إنه مرت بي آية في كتاب الله -عز وجل- قال: وما هي؟ قال: قول الله تعالى: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزمر: 47] قال: فبكى أبو حازم -أيضا- معه، واشتد بكاؤهما، قال: فقال بعض أهله لأبي حازم: جئنا بك لتفرج عنه، فزدته . قال: فأخبرهم ما الذي أبكاهما.
وذكر الإمام الذهبي عن فضيل بن عياض، قال: قيل لسليمان التيمي: أنت أنت، ومن مثلك؟ قال: لا تقولوا هكذا، لا أدري ما يبدو لي من ربي عز وجل، سمعت الله يقول: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)[الزمر: 47].
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "ولقد قطع خوف الخاتمة ظهور المتقين، وكأن المسيئين الظالمين قد أخذوا توقيعا بالأمان! (أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ) [القلم: 39-40].
يا آمنا من قبيح الفعل يصنعه | هل أتاك توقيع أمن أنت تملكه |
جمعت شيئين أمناً واتباع هوى | هذا وإحداهما في المرء تهلكه |
والمحسنون على درب المخاوف قد | ساروا وذلك درب لست تسلكه |
فرطت في الزرع وقت البذر من سفه | فكيف عند حصاد الناس تدركه |
هذا وأعجب شيء منك زهدك في | دار البقاء بعيش سوف تتركه |
من السفيه إذن بالله أنت أم | المغبون في البيع غبنا سوف تدركه |
أيها الكرام الأحبة: ولسوء الخاتمة أسباب، ومن أعظم ما يورث العبد سوء الخاتمة - والعياذ بالله تعالى -: المداومة على الذنوب والمعاصي والإصرار عليها، مع الغفلة عن ذكر الله تعالى، والتهاون بحقوقه وحدوده.
يقول الإمام الحافظ المفسر ابن كثير - رحمه الله تعالى-: "والمقصود أن الذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت، مع خذلان الشيطان له، فيجتمع عليه الخذلان، مع ضعف الإيمان، فيقع في سوء الخاتمة، قال الله تعالى: (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا) [الفرقان: 29].
ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى-: "والمعاصي تخون العبد أحوج ما كان إلى نفسه، وثم أمرٌ أخوف من ذلك وأدهى وأمرُّ، وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله تعالى، فربما تعذر عليه النطق بالشهادة، كما شاهد الناس كثيرا من المحتضرين أصابهم ذلك ،- حتى قيل لبعضهم: قل: لا إله إلا الله، فقال: آه آه، لا أستطيع أن أقولها...
وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء، ويقول تاتا ننتنتا، فقال: وما ينفعني ما تقول،ولم أَدَعْ معصيةً الا ركبتُها، ثم قضى، ولم يقلها.
وقيل لآخر ذلك، فقال: وما يغني عني، وما أعلم أنى صليت لله تعالى صلاة، ثم قضى ولم يقلها.
وقيل لآخر ذلك، فقال: - أي عن نفسه - هو كافر بما تقول، وقضي.
وقيل لآخر ذلك، فقال: كلما أردت أن أقولها، فلساني ُيمسك عنها.
وأخبرني من حضر بعض الشحاذين عند موته، فجعل يقول: لله فليس، لله فليس، حتى قضي.
وأخبرني بعض التجار عن قرابة له انه احتضر، وهو عنده، فجعلوا يلقنونه لا إله إلا الله، وهو يقول: هذه القطعة رخيصة، هذا مشتري جيد، هذه كذا، حتى قضي.
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى: "وسبحان الله كم شاهد الناس من هذا عبرا، والذي يخفي عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم، وإذا كان العبد في حال حضور ذهنه، وقوته، وكمال إدراكه، قد تمكن منه الشيطان، واستعمله بما يريده من المعاصي، وقد أغفل قلبه عن ذكر الله تعالى، وعطل لسانه من ذكره، وجوارحه عن طاعته، فكيف الظن به عند سقوط قواه، واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه، من ألم النزع، وجمع الشيطان له كل قوته وهمته، وحشد عليه بجميع ما يقدر عليه، لينال منه فرصته، فان ذلك آخر العمل، فأقوى ما يكون عليه شيطانه ذلك الوقت، وأضعف ما يكون هو في تلك الحالة، فمن تري يسلم على ذلك ؟! فهناك: (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء) [إبراهيم: 27]".
ثم يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: " فكيف يُوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره، واتبع هواه، وكان أمره فرطا، فبعيد من قلب بعيد من الله تعالى، غافل عنه، متعبد لهواه، مُسَيَّرٌ لشهواته، ولسانه يابس من ذكره، وجوارحه معطلة من طاعته، مشتغلة بمعصية الله، أن يوفق لحسن الخاتمة"، قال: "وإذا نظرت إلى حال كثير من المحتضرين، وجدتهم يحال بينهم وبين حسن الخاتمة، عقوبة لهم على أعمال السيئة".
والسبب الثاني من أسباب سوء الخاتمة: الاشتغال بالدنيا عن الآخرة والانصراف عن أمر الآخرة؛ حتى كأنه لا يرجع إلى الله تعالى، ولا يقف بين يديه، يقول الحافظ أبي محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الإشبيلي - رحمه الله -: " واعلم أن لسوء الخاتمة - أعاذنا الله منها - أسباب، ولها طرق وأبواب، أعظمها الانكباب على الدنيا، وطلبها والحرص عليها، والإعراض عن الأخرى، والإقدام والجرأة علي معاصي الله عز وجل، وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة، ونوع من المعصية، وجانب من الإعراض، ونصيب من الجرأة والإقدام، فملك قلبَه، وسبي عقله، وأطفأ نوره، وأرسل عليه حجبه، فلم تنفع فيه تذكرة، ولا نجعت فيه موعظة، فربما جاءه الموت على ذلك، فسمع النداء من مكان بعيد، فلم يتبين له المراد، ولا علم ما أراد، وإن كرر عليه الداعي وأعاد، قال: ويروي أن بعض رجال الناصر نزل به الموت، فجعل ابنه يقول له: قل لا إله إلا الله، فقال: الناصر مولاي، فأعاد عليه القول، فقال مثل ذلك، ثم أصابته غشية، فلما أفاق، قال: الناصر مولاي، وكان هذا دأبه، كلما له قيل له: قل: لا إله إلا الله، قال: الناصر مولاي، ثم قال لابنه: يا فلان الناصر إنما يعرفك بسيفك، والقتل القتل، ثم مات على ذلك ".
قال عبد الحق - رحمه الله - وقيل لآخر - ممن أعرفه - قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول: الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا، والبستان الفلاني افعلوا فيه كذا، وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول: أين الطريق إلى حمام منجاب، قال: وهذا الكلام له قصة، وذلك أن رجلا كان واقفا بإزاء داره، وكان بابها يشبه باب هذا الحمام، فمرت به جارية لها منظر، فقالت أين الطريق إلى حمام منجاب؟ فقال: هذا حمام منجاب، فدخلت الدار، ودخل وراءها، فلما رأت نفسها في داره، وعلمت أنه قد خدعها، أظهرت له البشر والفرح باجتماعها معه، وقالت - خدعة منها له، وتحيلا لتتخلص مما أوقعها فيه، وخوفا من فعل الفاحشة، - يصلح أن يكون معنا ما يطيب به عيشنا، وتقربه عيوننا، فقال لها: الساعة آتيك بكل ما تريدين وتشتهين، وخرج وتركها في الدار ولم يغلقها، فأخذ ما يصلح ورجع، فوجدها قد خرجت وذهبت، ولم تخنه في شيء، فهام الرجل، وأكثر الذكر لها، وجعل يمشي في الطرق والأزقة ويقول :
يارب قائلة يوما وقد تعبت | أين الطريق إلي حمام منجاب |
فبينا يقول ذلك، وإذا بجاريته أجابته من طاق قرنان:
هل لا جعلت سريعا إذ ظفرت بها | حرزا على الدار أو قفلا على الباب |
فازداد هيمانه، واشتد هيجانه، ولم يزل كذلك حتى كان هذا البيت آخر كلامه من الدنيا.
يقول الشيخ أحمد فريد: " والمقصود أن محبة الدنيا من أضر الأمور على العبد، في الدنيا والآخرة، إذ أنها من أعظم أسباب سوء الخاتمة، فمن غلب على قلبه حب الله تعالى والدار الآخرة حسنت خاتمته في الغالب، ومن غلب على قلبه حب الدنيا والتعلق بأسبابها ساءت خاتمته في الغالب، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " .
ويقول الإمام القرطبي: ومثل هذا في الناس كثير، ممن غلب عليه الاشتغال بالدنيا والهمُّ بها، أو سببٌ من أسبابها، حتى لقد حُكي لنا أن بعض السماسرة جاءه الموت فقيل له قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول: ثلاثة ونصف، أربعة ونصف، غلب عليه حب السمسرة، ولقد رأيت بعض الحُسَّاب وهو في غاية المرض، يعقد بأصابعه ويحسب، قال: ولقد حكى ابن المظفر في كتاب النصائح له قال: كان يونس بن عبيد - رحمه الله تعالى - بزازاً وكان لا يبيع في طرفي النهار، ولا في يوم غيم، فأخذ يوماً ميزانه فرضَّه بين حجرين، فقيل له: هلا أعطيته الصانع فأصلح فساده؟! فقال: لو علمت فيه فساداً لما أبقيت من مالي قوت ليلة . قيل له: فلم كسرته؟ قال: حضرت الساعة رجلاً احتضر، فقلت له: قل: لا إله إلا الله، فامتعض، فألححت عليه، فقال: أدع الله لي، ثم قال: هذا لسان الميزان على لساني يمنعني من قولها، قلت: أفما يمنعك إلا من قولها؟ فقال: نعم، قلت: وما كان عملك به؟ قال: ما أخذت ولا أعطيت به إلا حقاً في علمي، غير أني كنت أقيم المدة لا أتفقده ولا أختبره، فكان يونس بعد ذلك يشترط على من يبايعه أن يأتي بميزان، ويزن بيده وإلا لم يبايعه.
ومن أعظم أسباب سوء الخاتمة: التمادي في المعاصي والإسراف على النفس في المحرمات، يقول الشيخ صديق حسن خان: "فطول الإلف بالمعاصي يقتضي تذكرها عند الموت وعودها في القلب، وتمثلها فيه، وميل النفس إليها، وإن قبض روحه في تلك الحال يختم له بالسوء".
الخطبة الثانية
أيها المباركون: وقد ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- قصة عجيبة توجب الخوف الشديد من التعلق بالمعاصي والفتن؛ لأنها من أعظم أسباب سوء خاتمة العبد يقول -رحمه الله- في أحداث سنة 426: "وممن توفي فيها من الأعيان "أحمد بن كليب الشاعر" وهو أحد من هلك بالعشق؛ روى ابن الجوزي في المنتظم بسنده، أن أحمد بن كليب هذا المسكين المغتر، عشق غلاما يقال له أسلم بن أبي الجعد من بنى خالد - وكان فيهم وزارة أي كانوا وزراء للملوك وحجابا -، فأنشد فيه أشعارا، تحدث الناس بها، وكان هذا الشاب أسلم يطلب العلم في مجالس المشايخ، فلما بلغه عن ابن كليب ما قال فيه، استحى من الناس، وانقطع في دارهم، وكان لا يجتمع بأحد من الناس، فازداد غرام ابن كليب به، حتى مرض من ذلك مرضا شديدا، بحيث عاده منه الناس، ولا يدرون ما به، وكان في جملة من عاده بعض المشايخ من العلماء، فسأله عن مرضه، فقال: أنتم تعلمون ذلك، ومن أي شيء مرضي، وفي أي شيء دوائي، لو زارني أسلم، ونظر إليَّ نظرة، ونظرته نظرة واحدة لبرأت، فرأى ذلك العالم من المصلحة أن لو دخل على أسلم، وسأله أن يزوره ولو مرة واحدة مختفيا، ولم يزل ذلك الرجل العالم بأسلم حتى أجابه إلى زيارته، فانطلقا إليه، فلما دخلا دربه ومحلته، تجتن الغلام واستحى من الدخول عليه، وقال للرجل العالم: لا أدخل عليه، وقد ذكرني ونوه باسمي، وهذا مكان ريبة وتهمة، وأنا لا أحب أن أدخل مداخل التهم، فحرص به الرجل كل الحرص ليدخل عليه، فأبى عليه . فقال له: إنه ميت لا محالة، فإذا دخلت عليه أحييته، فقال: يموت، وأنا لا أدخل مدخلا يسخط الله علي ويغضبه، وأبى أن يدخل وانصرف راجعا إلى دارهم . فدخل الرجل على ابن كليب، فذكر له ما كان من أمر أسلم معه، وقد كان غلام ابن كليب دخل عليه قبل ذلك، وبشره بقدوم معشوقه عليه، ففرح بذلك جدا، فلما تحقق رجوعه عنه اختلط كلامه، واضطرب في نفسه، وقال لذلك الرجل الساعي بينهما: اسمع يا أبا عبد الله واحفظ عنى ما أقول ثم أنشده:
أسلم يا راحة العليل | رفقا على الهائم النحيل |
وصلك أشهى إلى فؤادا | من رحمة الخالق الجليل |
فقال له الرجل: ويحك اتق الله تعالى ما هذه العظيمة؟! فقال: قد كان ما سمعت، أو قال: القول ما سمعت، قال: فخرج الرجل من عنده، فما توسط الدار حتى سمع الصراخ عليه، وسمع صيحة الموت، وقد فارق الدنيا على ذلك.
قال ثم قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله تعالى - بعد ذكره لهذه لقصة: " وهذه زلة شنعاء، وعظيمة صلعاء، وداهية دهياء، ولولا أن هؤلاء الأئمة ذكروها ما ذكرتها، ولكن فيها عبرة لأولي الألباب، وتنبيه لذوي البصائر والعقول أن يسألوا الله رحمته وعافيته، وأن يستعيذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يرزقهم حسن الخاتمة عند الممات، إنه كريم جواد".
قال: "ويروي أنه كان بمصر رجل يلزم المسجد للأذان والصلاة فيه، وعليه بهاء الطاعة، ونور العبادة، فرقى يوما المنارة -على عادته للأذان- وكان تحت المنارة دارا لنصراني، فاطلع فيها، فرأي ابنة صاحب الدار، فافتتن بها، فترك الأذان، ونزل إليها، ودخل الدار عليها، فقالت له: ما شأنك؟ وما تريد؟، قال: أريدك. قالت: لماذا؟ قال: قد سلبت لبي، وأخذت بمجامع قلبي، قالت: لا أجيبك إلى ريبة أبدا، قال: أتزوجك، قالت: أنت مسلم، وأنا نصرانية، وأبي لا يزوجني منك، قال: أتنصر. قالت: إن فعلت أفعل، فتنصر الرجل ليتزوجها، وأقام معهم في الدار، فلما كان في أثناء ذلك اليوم، رقى إلى سطح كان في الدار، فسقط منه فمات، فلم يظفر بها، وفاته دينه".
ومن البشائر أيها الإخوة: أن من كان مستقيماً على محاب الله تعالى، مقيماً على مرضاته فإن الله يتم له أمره، ويثبته على ما عاش عليه، ويحسن له خاتمته؛ كما الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "وسوء الخاتمة - أعاذنا الله منها - لا يقع فيها من صلح ظاهره وباطنه مع الله، وصدق في أقواله وأعماله، فإن هذا لم يسمع به - كما ذكره عبد الحق الاشبيلي -" وإنما يقع سوء الخاتمة لمن فسد باطنه عقدا وظاهره عملا، ولمن له جرأة على الكبائر، وإقدام على الجرائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة".
وقال الإمام عبد الحق الإشبيلي - رحمه الله تعالى -: "وأعلم أن سوء الخاتمة - أعاذنا الله تعالى منها - لا تكون لمن استقام ظاهره، وصلح باطنه، ما سمع بهذا، ولا عُلم به - ولله الحمد - وإنما تكون لمن به فساد في العقيدة، أو إصرار على الكبيرة، وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه، حتى نزل به الموت قبل التوبة، فيأخذه قبل إصلاح الطوية، ويصطلم -أي يفاجئه الموت- قبل الإنابة، فيظفر به الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة، والعياذ بالله ".