الصمد
كلمة (الصمد) في اللغة صفة من الفعل (صَمَدَ يصمُدُ) والمصدر منها:...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - المنجيات |
لقد سمعتم جميعًا بالعبّارة المصرية التي وصلت إلى قاع البحر الأحمر خلال دقائق من غرقها، والكل سمع والبعض رأى بعض تلك الأحداث، فهل يعتبر المسلم بذلك ويستخرجُ منه الفوائد التي تعود عليه بالنفع في دينه ودنياه؟! لكي تعرف فضل الله عليك، ولكي يكون لك الفائدة مما حدث عليك بالتأمل في الحدث واستخراج العبرة من ذلك، ولا...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: إن لله تعالى العبر والدلالات في هذه الدنيا التي تساعد الإنسان للرجوع إلى الحق وسلوك الطريق المستقيم، بل توقظه من سبات عميق استمر لسنوات بل لعشرات السنين.
عباد الله: إن المسلم لا يستطيع فعل الشيء ولا جلب المصلحة ولا دفع المضرة، فهو بالله ومع الله، فمشيئته لا تنفذ إلا بمشيئة الله: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)، وإرادة الله قاضية على إرادته، فالكل يعيش في أرض الله، ولا ينفك عن قبضته، ولا يكون في ملك الله إلا ما أراده سبحانه.
وبهذا يتبين ضعف الإنسان وعظيم حاجته لربه سبحانه، كما قال ابن القيم -رحمه الله-: "العبد أعجز شيء عن حفظ نفسه وأضعفُه، فلا قوة له ولا قدرة ولا حول إلا بربه، فيشهد قلبه كريشة ملقاة بأرض فلاة، تقلبها الرياح يمينًا وشمالاً، ويشهد نفسه كراكب سفينة في البحر تهيج بها الرياح وتتلاعب بها الأمواج، ترفعها تارة وتخفضها تارة أخرى، تجري عليه أحكام القدر وهو كالآلة طريحًا بين يدي وليه، ملقى ببابه، واضعًا خده على ثرى أعتابه، لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، ليس له من نفسه إلا الجهل والظلم وآثارهما ومقتضياتهما، فالهلاك أدنى إليه من شراك نعله، كشاة ملقاة بين الذئاب والسباع، لا يردها عنهم إلا الراعي، فلو تخلى عنها طرفة عين لتقاسموها أعضاءً، وهكذا حال العبد ملقى بين الله وبين أعدائه من شياطين الإنس والجن، فإن حماه منهم وكفهم عنه لم يجدوا إليه سبيلاً، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه طرفة عين لم ينقسم عليهم، بل هو نصيب من ظفر به منهم، وفي هذا المشهد يعرف نفسه حقًّا ويعرف ربه". اهـ.
معاشر المسلمين: لا ينقضي عجبي ممن يعلم أنه هكذا ثم يعرض عن ربه، ويتبجح بمعصيته، ولا يشكر نعمه.
أيها المؤمنون: لقد سمعتم جميعًا بالعبّارة المصرية التي وصلت إلى قاع البحر الأحمر خلال دقائق من غرقها، والكل سمع والبعض رأى بعض تلك الأحداث، فهل يعتبر المسلم بذلك ويستخرجُ منه الفوائد التي تعود عليه بالنفع في دينه ودنياه؟!
لكي تعرف فضل الله عليك، ولكي يكون لك الفائدة مما حدث عليك بالتأمل في الحدث واستخراج العبرة من ذلك، ولا تكن غافلاً عما فيه صلاحك.
سفينة تقل ما يقارب ألفًا وأربعمِائة راكب، بجنسيات مختلفة، لم ينج منهم إلا ما يقارب الربع، إن من هلك منهم في هذه الكارثة مات على ما مات عليه وسيبعث على نيته، وإن كانوا في الجملة شهداء كما أخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بذلك، فقد أخرج النسائي في سننه من حديث عبد الله بن جبر قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "والغريق شهيد". وما ذاك إلا لشناعة الميتة، وهول الأمر وألمه.
ولهذا وإن كانت هذه الميتةُ شهادةً، إلا أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- استعاذ بالله منها كما أخرج النسائي من حديث أبي اليسر قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "اللهم إني أعوذ بك من التردي والهدم والغرق والحرق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرًا، وأعوذ بك أن أموت لديغًا".
أيها المسلمون: إنه حادث جلل، نسأل الله أن يغفر للميت، وأن يثبت الحي على التوبة، وأن يرزق أهل المصاب الصبر والسلوان، وأن لا يحرمهم الأجر على البلاء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين...
أما بعد:
فيا أيها الناس، معاشر المؤمنين: لقد احتوت هذه الحادثة عبرًا وعظاتٍ، فلنتأمل في ذلك:
لو نظرنا إلى أهل تلك السفينة قبل حدوث الغرق بدقائق، فمن كان منهم يظن أن يموت في ذلك المكان؟!
ولنتأمل حالهم، بل تأمل لو كنت معهم، إن الناس قبل وقوع الخطر قد اختلفت أفعالهم، فمنهم القابع على المعصية، ومنهم المشتغل بالطاعة، ومنهم المنشغل بالمباحات، ولكنهم بعد وقوع الخطر والإيقان بالهلاك قد اتحدت أفعالهم، وجأروا إلى الله يرجون النجاة، سبحان الله!! هذه حال الإنسان منذ القدم؛ في الرخاء مُعرِض، وفي الشدة مقبل ملح على ربه يرجو النجاة، إلا من رحم الله.
ألا فاعلموا أنه لا ينفع العبد في الشدة إلا عمله في الرخاء: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات: 143، 144].
لا شك أن الكل عندما عاينوا الخطر، مر بهم شريط حياتهم كلمح البصر، فلا توجد معصية إلا وأحضرها الشيطان وبكّت الإنسان عليها ليجعله ييأس من رحمة الله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً) [الإسراء: 53]، ولكن هل تذكُّر الذنوب ينفع في ذلك المقام؟! كلا، إلا الحسرة والندامة، والسعيد من تاب قبل ذلك الموقف، فمن عرف الله في الرخاء عرفه الله في الشدة، ومن أعرض أعرض الله عنه.
لقد تصورت للجميع صور أقاربهم وأولادهم، لقد تصور للجميع أن النهاية قد اقتربت، وأن موعد الرحيل قد حضر، وأن نهاية الدنيا قد أزفت.
عباد الله: والله إن أجل الإنسان دائمًا قريبٌ منه مثل أولئك، ولكن الكثير لا يعلمون.
كـل مصبـح في أهله وماله
ومن المواقف التي لا بد من وقوعها في تلك الساعة: البحث عن طرق النجاة، فالكل يبحث عن سترة النجاة، وزوارق النجاة، ومنهم الذي يجمع أبناءه وأهله، ومنهم الذي يعتصم بأصدقائه، والبعض منهم من يقول: نفسي نفسي، ومنهم الذي أيقن بالهلاك ولا يدري طريق النجاة، فهو يستعد للدار الآخرة.
في تلك اللحظات يظهر الرجال والإيثار، فلقد سمعنا بمن انشغل عن نفسه بمساعدة الآخرين، خصوصًا الشيوخ والنساء والأطفال.
عباد الله: تخيلوا أهل تلك السفينة عندما مالت بهم على جنبها لتبدأ بالغرق، فالصراخ والعويل قد ملأ الدنيا، وكأنهم في يوم القيامة، وأن الساعة قد قامت، فذهلت الأم عن ولدها، والأب عن ابنه، يرجون النجاة، ويبحثون عن الفرج.
سبحان الله!! منهم من كان سفره للمعصية وهو قابع عليها أيضًا في السفينة، فالأغاني وتضييع الصلاة ونحو ذلك هو السائد على حياتهم، فيا سبحان الله كيف كانت الخاتمة؟!
ومنهم كان سفره للطاعة؛ إما لبناء مسجد أو دعوة لله تعالى، فسبحان من فاوت بين الهمتين والخاتمتين.
في تلك الساعة يحضر الشيطان وإن كان غيرَ غائب؛ لأنه يعلم أن هذه هي آخر فرصة له مع هذا الغارق، فيبدأ يقنطه من رحمة الله، وييئسه من عفو الله، فيعرض عليه ذنوبه ويضخمها في وجهه حتى ينسيه التلفظ بالشهادة، ولا شك أن هذه الساعة من الساعات التي يحتاج المسلم فيها إلى أن يمده الله بالثبات: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ...) [إبراهيم: 27].
أيها المسلمون: لنتخيل حال الناس عند غرق السفينة، لقد هانت الدنيا عندهم فنسي الكثير أمتعتهم، وحاجياتهم، بل نسوا أنفسهم، واشتغلوا بالبحث عن أقرب طريق للنجاة حتى ولو عراة حفاة.
ألا لنعلم أن النجاة الحقيقية هي النجاة يوم القيامة، عندما ينجو المسلم من النار: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].
لا يزال البحر كما وصفه عمرو بن العاص: "الداخل فيه مفقود، والخارج منه مولود".
عباد الله: لابد من الاستعداد للرحيل قبل نزول الأجل:
من لم يمت بالسيف مات بغيره
والاستعداد يكون بعمل الطاعات، واستمرار التوبة النصوح وتجديدها على الدوام، وأن يعلم المسلم علم اليقين أن الدنيا مزرعة الآخرة، فيعمل لها مخلصًا لله في ذلك.
اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين...