المبين
كلمة (المُبِين) في اللغة اسمُ فاعل من الفعل (أبان)، ومعناه:...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إن من يخرج من بيته لا بد له من الاحتكاك بالناس، ومعاشرتهم والخلطة بهم، والناس أصناف عديدة، منهم المحسنُ ومنهم المسيء، ومنهم ما بين ذلك، ولهذا من يخرج للناس ويحتك بهم ويختلط بهم، لا بد وأن تسبب هذه المخالطة والمعاشرة أنواعًا من الأمور أو المخالفات التي ينبغي عليه أن يحذرها، وأن يحذر من الوقوع فيها، وقد جمعها النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الدعاء الجامع ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أيها المؤمنون عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى؛ فإن تقوى الله -جلّ وعلا- هي خير زاد يبلغ إلى رضوان الله، وهي وصية الله للأولين والآخرين من خلقه، وهي وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته، وهي وصية السلف الصالح فيما بينهم، ثم اعلموا -رحمكم الله- أن الدعاء مفتاح كل خير في الدنيا والآخرة، وأتم الدعوات وأكملها وأجمعها لأبواب الخير وسبل الفلاح دعوات النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، فإنها مشتملة على غاية المطالب العلية، ونهاية المقاصد الرفيعة، ومن يتأمل أدعية النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- المطلقة والمقيدة يجدها كذلك، ولهذا -عباد الله- جدير بعبد الله المؤمن أن يتعرف على أدعية النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن يحفظها، وأن يحافظ عليها؛ لينال خيرها وبركتها وثمارها العظيمة في الدنيا والآخرة.
عباد الله: وفي هذه الوقفة نتأمل في دعاء عظيم ثابت عن النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، كان يقوله -صلى الله عليه وسلم- في كل مرة يخرج فيها من بيته، روى أهل السنن الأربعة وغيرهم عن أم المؤمنين أم سلمة هند المخزومية زوج النبي -صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها- أنها قالت: ما خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من بيتي قط إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: "اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أُضَلّ، أو أزل أو أُزَلّ، أو أظلم أو أُظْلَم، أو أجهل أو يُجْهَل عليَّ".
عباد الله: هذا دعاء عظيم، كان يواظب عليه نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- في كل مرة يخرج فيها من بيته، كما هو واضح في كلام أم المؤمنين -رضي الله عنها-، وقولها: إلا رفع طرفه إلى السماء. فيه الإيمان بعلو الله -جلّ وعلا-، ورفعته على خلقه سبحانه، وأنه مستو على عرشه بائن من خلقه.
وفي هذا أيضًا -عباد الله- مراقبة الله -جلّ وعلا-، واستحضار اطلاعه ورؤيته لعباده، وأنه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السّماء، وكم هو جميل في العبد المؤمن أن يستحضر في كل مرة يخرج منها من بيته رؤية الله له، واطلاعه عليه، وعلمه بحاله، وأنه لا تخفى عنه خافية، وكل هذا مستفاد من رفع الطَّرْف إلى السماء، فإن في هذا استحضارًا لرؤية الله -جلّ وعلا-.
ثم إن من يخرج من بيته لا بد له من الاحتكاك بالناس، ومعاشرتهم والخلطة بهم، والناس أصناف عديدة، منهم المحسنُ ومنهم المسيء، ومنهم ما بين ذلك، ولهذا من يخرج للناس ويحتك بهم ويختلط بهم، لا بد وأن تسبب هذه المخالطة والمعاشرة أنواعًا من الأمور أو المخالفات التي ينبغي عليه أن يحذرها، وأن يحذر من الوقوع فيها، وقد جمعها النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الدعاء الجامع.
عباد الله: إن المسلم في كل مرة يخرج فيها من بيته ينبغي أن يستحضر هذه المعاني الأربعة الواردة في هذا الحديث العظيم، وأن يحذرها غاية الحذر، وأن يسأل الله -جلّ وعلا- أن يعيذه منها: "اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أُضَلّ، أو أزل أو أُزَلّ، أو أظلم أو أُظْلَم، أو أجهل أو يُجْهَل عليّ"، في كل مرة تخرج فيها من بيتك ينبغي أن تحذر من الوقوع في شيء من هذه الأمور الأربعة، الضلال والزلل والظلم والجهل، وكلها خطيرة وموبقة ومهلكة للعبد إذا وقع في شيء منها، وهي قد تقع من العبد تجاه الآخرين، وقد تقع من الآخرين تجاهه، وقد اشتمل دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- على الاستعاذة من هذه الأمور الأربعة، سواء في وقوعها من العبد تجاه الآخرين، أم في وقوعها من الآخرين تجاهه، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أُضَلّ"، فيه سؤال الله -جلّ وعلا- أن يجنبه الضلال وهو ضد الهداية، سواء أن يضل بنفسه بأن يوقعها في شيء من الذنوب أو أنواع من المخالفات، أم يُضلّ غيره من عباد الله المؤمنين.
وقوله: "أو أُضَلَّ"، أي أن يضلني غيري، فقد يخرج الإنسان من بيته آمنًا مطمئنًا لا يريد شرًا ولا يطلب غواية، فيلقاه أحد المضلِّين في طريقه فيُضلُّه عن سواء السبيل، ويصرفه عن الجادة السَّوية، ولهذا سُنَّ للمسلم إذا خرج من بيته أن يستعيذ بالله من أن يضل هو في نفسه أو يضل غيره، أو أن يضله غيره عن سواء السبيل.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أو أزل أو أُزَلّ"، الزلل هو السقوط والهوي من حيث لا يشعر الإنسان، والمراد بقوله: "اللهم إني أعوذ بك أن أزل"، أي أن أقع في الذنب أو الإثم أو المخالفة من حيث لا أشعر. وقوله: "أو أُزَلَّ"، أي أن يفعل بي أحد ذلك، بأن يوقعني في الزلل ويوقعني في التهلكة.
وقوله في هذا الدعاء: "أو أظلم أو أُظْلَم"، الظلم -عباد الله- وضع الأمور في غير موضعها، بالاعتداء على الناس في أموالهم أو أشخاصهم أو أعراضهم أو غير ذلك.
وقوله: "أن أظلم"، أي أن يقع مني الظلم تجاه الآخرين، سواء في أموالهم أم أعراضهم أم أشخاصهم أم غير ذلك.
وقوله: "أو أُظْلَم"، أي أن يتعدى عليّ أحد من الناس بأي نوع من أنواع الظلم، فهو يسأل الله -جلّ وعلا- أن يجنبه ظلم الآخرين، وأن يجنبه ظلم الآخرين له، فلا يظلم أحدًا، ولا يظلمه أحد.
وقوله في هذا الدعاء: "أو أجهل أو يجهل عليّ"، أي أن أفعل مع الناس فعل الجهلاء وطريقة السفهاء، من السب والسخرية والاستهزاء وغير ذلك، أو أن يفعل معي أحد شيئًا من ذلك، فهو يتعوذ بالله من أن يَفعَل فعل الجهلاء، أو أن يُفعَل به فعل الجهلاء.
فهذا -عباد الله- دعاء عظيم، كان يقوله نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- في كل مرة يخرج فيها من بيته، فعلينا -عباد الله- أن نقتدي بنبينا الكريم -عليه الصلاة والسلام-، وأن نترسم خطاه، وأن نسير على نهجه، فإنه خير النهج وأتم الهدى.
عباد الله: وعندما يدعو المسلم بهذا الدعاء العظيم عليه أن يبذل الأسباب العظيمة التي يتحقق بها نيل المقصود وتحقيق المراد، فأنت إذا قلت هذه الكلمات فإنك بذلك تكون قد دعوت الله، واستعنت به، والتجأت إليه، وفوضت أمرك إليه سبحانه، ثم يجب عليك بعد ذلك أن تبذل الأسباب بأن تبتعد عن هذه الأمور، وأن تحذر غاية الحذر أن تقع فيها، وإنا لنسأل الله -جلّ وعلا- أن يعيذنا وإياكم من الضلال، اللهم إنا نعوذ بك أن نضل أو نُضَل، أو نَزِلّ أو نُزَلّ، أو نَظْلِم أو نُظْلَم، أو نَجْهَل أو يُجْهَل علينا، إنك سميع مجيب. هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى، وراقبوه في السر والعلانية، مراقبة من يعلم أن ربه يسمعه ويراه، ثم اعلموا -رعاكم الله- أن مخالطة الناس والاحتكاك بهم تولِّد أنواعًا من الأمور التي ينبغي على العبد أن يكون في حيطة من الوقوع فيها، وذلك -عبادَ الله- إنما يكون بمراقبة الله والالتجاء إليه والاعتماد عليه وحده، وتفويض الأمور إليه سبحانه، ولهذا ثبت في حديث آخر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرشد من يخرج من منزله أن يقول: "بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله"، وبيّن -عليه الصلاة والسلام- أن من قال ذلك فإنه يُهدَى ويُكفَى ويُوقَى، ولم يقرَبْهُ شيطان.
عباد الله: وهذه الكلمات كُلُّها توكل على الله، واعتماد عليه، وتفويض للأمور إليه -سبحانه وتعالى-، وهذا -عباد الله- فيه دلالة على أن العبد لا غنى له عن ربِّه طرفة عين، في كل شأن من شؤونه، وفي كل أمر من أموره، فنسأل الله -جلّ وعلا- أن يجعلنا وإياكم من المتوكِّلين عليه حقًّا، من المؤمنين به صدقًا، من المستعيذين به في كل أمر صغير أو كبير؛ إنه -تبارك وتعالى- خير مسؤول، وأعظم مأمول.
ثم اعلموا -عباد الله- أن الله -تبارك وتعالى- أمركم بالصلاة والسلام على نبيه الكريم -صلى الله عليه وسلم- فقال -جلّ وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلَّى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًا"، اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهمّ أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم انصر من نصر الدين، اللهم انصر إخواننا المسلمين في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كل مكان، اللهم انصرهم نصرًا مؤزرًا، اللهم أيدهم بتأييدك، واحفظهم بحفظك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وعليك باليهود الغاصبين المجرمين المعتدين؛ فإنهم لا يُعجزونك، اللهم مَزِّقْهم شر ممزق، اللهم ألق الرعب في قلوبهم، وشتت شملهم، وخالف بين كلمتهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آمِنِّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، وأعنه على البر والتقوى، وسدده في أقواله وأعماله، وألبسه ثوب الصحة والعافية، اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، واتباع سنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، واجعلهم رأفة ورحمة على عبادك المؤمنين، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله: دقه وجله، أوله وآخره، سره وعلنه، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كلِّ خير، والموت راحة لنا من كل شر، اللهم أصلح ذات بيننا، وألف بين قلوبنا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقواتنا وأزواجنا وأموالنا وذريتنا، واجعلنا مباركين أينما كنا، اللهم اجعلنا شاكرين لنعمك، مقرِّين لك بها، مستعملين لها في طاعتك يا حي يا قيوم، ربنا إنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه وآلائه يزدكم، ولذكر لله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.