البصير
(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...
العربية
المؤلف | حفيظ بن عجب الدوسري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
أيها المسلمون: إذا أمسيتم فلم تنتظروا الصباح، وإذا أصبحتم فلم تنتظروا المساء، وأصبح هدفكم الآخرة لا الدنيا، أصبح هدفكم أن تصلوا إلى رضوان الله والجنة، فورب الكعبة وأقسم بالله لتنصرون ما دام أنكم تتوكلون على الله حق التوكل، والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين، ومن توكل على الله حفظه، من..
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أشهد أن لا إله إلا الله الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، لا إله إلا الله، جل في علاه، الواحد الأحد، الفرد الصمد، رضينا به ربا وخالقا، ومعينا وكفيلا ومجيرا.
سبحان من لو سجدنا بالعيون له | علي حمي الشوك والمحمي من الإبر |
لم نبلغ العشر من معشار نعمته | ولا العشيرا ولا عشرا من العشري |
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن لا معبود بحق إلا هو سبحانه وتعالى.
ما في الوجود سواك رب يعبد | كلا ولا مولى سـواك فيحمد |
أنت الإله الواحد الفرد الذي | كل القلوب له تقر وتسجد |
اللهم صل وسلم على حبيبنا المبعوث رحمة للعالمين، خير الناس أجمعين، رسول الهدى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثير.
يا هذه الدنيا أصيخي واشهدي | إنّا بغير محمَّدٍ لا نقتدي |
اللهم اجعلنا من أتباعه، واجعلنا من أنصاره، واجعلنا من حزبه، واجعلنا من أوليائك الصالحين، يا رب العالمين.
أيها المؤمنون: يا حماة الدين، ويا حراس العقيدة: اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الدين بالعروة الوثقى، وتعانوا على البر والتقوى، وكونوا عباد الله إخوانا.
واعلموا -يا أيها المسلمون-: أن هذه الدنيا ليست دار مقر، ولا دار بقاء، ولا دار انتظار يطول؛ إنها ظل مقيل، زائل سرعان ما ينحصر، ثم نزول عنها وتنقضي الآجال والأعمار.
وصية أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم ألا يركنوا إلى الدنيا، وألا يغتروا بها، وألا يتمسكوا فيها تمسك الذي لا يخليها، فإنه إن لم يخلها ستخليه، أولم تسمعوا حديث النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري لما أخذ بمنكبي ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه وقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" وكان ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه يقول شارحا لهذه الوصية مطبقا لها: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".
نسأل الله الخاتمة الحسنة في سبيله.
أيها الأحباب: أيها المسلمون: إنها وصية لابن عمر ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ليست لابن عمر وحده، أخذ بمنكبيه ليشعره بأهمية الوصية وبمتعلقها العظيم، وبأنها وصية يجب أن تطبق في واقع الحياة، وأن يسير عليها ابن عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة والتابعين، وأنتم يا معشر المسلمين: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".
الغريب إذا حل بدار الغربة ينتظر أن ينتقل من غربته إلى عودته، لا يتعلق بدار الغربة غريب أبداً، وكل غريب بعد غربته يعود إلى مكانه، وكل غريب بعد عيشه في وطن الغربة، ومكان الغربة، وحياة الغربة؛ ينتظر العودة إلى المستقر، والراحة والطمأنينة.
تشبيه عظيم مقام الدنيا مقام المؤمنين فيها، يعني في هذه الدنيا كحال الغريب، كم يقيم الغريب في غربته، طال زمنه أو قصر سيعود من غربته، والغريب يحن إلى موطنه ومنزله، فإذا كان هذا التشبيه من حال المؤمنين بحال الغريب في الدنيا، المؤمن في الدنيا كالغريب الذي ينتظر عودته إلى الآخرة، إلى الجنة، إلى لقاء ربه، ينتظر العودة إلى الله.
الموت بـاب وكل الناس داخلـه | فليت شعري بعد المـوت ما الـدار |
أيها المسلمون: إن من يتمسك بهذه الدنيا لن يستحضر وصية النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تحضر عنده، إذ لو حضرت عنده لعلم أنها تزول وأنها تنقضي، وأن الغريب يعود بعد غربته، أو لسنا الغرباء؟ أو ليس المؤمنون هم الغرباء، هم النزاع من القبائل؟
ألم يقل حبيبنا صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك".
على ماذا ؟ على الاستقامة في الدنيا، على إفراد الله بالعبادة، على التوحيد، على السنة، على الجهاد، على الأمر بالمعروف، على النهي عن المنكر، على رفع راية لا إله إلا الله، على أن تكون الحياة كلها أمر بمعروف ونهي عن منكر، ابتداء بنفس الإنسان وانتهاء بالناس من حوله.
إنها حياة الغربة: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء".
طوبى للغرباء الذين طلقوا الدنيا، واستحضروا أنهم لا يقومون فيها أبداً، فأعدوا لما بعد العودة.
أيها المسلمون: إنها مراحل تمر في عمر الإنسان، وكل مرحلة تنقضي من عمره يتمنى يوم القيامة لو عاد ليحسن فيها العمل، وليستقيم على الطريقة، وليقيم فيها العبادة، وليبقى في طاعة الله أبداً، فاغتنموا الفرصة قبل فوات الأوان.
أيها اللاهثون وراء الدنيا، أيها المتمسكون بها: إنها تزول.
أبَني أبِينَا نَحْنُ أهْلُ مَنَازِلٍ | أبَداً غُرابُ البَينِ فيها يَنْعَقُ |
نَبْكي على الدّنْيا وَمَا مِنْ مَعْشَرٍ | جَمَعَتْهُمُ الدّنْيا فَلَمْ يَتَفَرّقُوا |
أينَ الأكاسِرَةُ الجَبابِرَةُ الأُلى | كَنَزُوا الكُنُوزَ فَما بَقينَ وَلا بَقوا |
من كلّ مَن ضاقَ الفَضاءُ بجيْشِهِ | حتى ثَوَى فَحَواهُ لَحدٌ ضَيّقُ |
خُرْسٌ إذا نُودوا كأنْ لم يَعْلَمُوا | أنّ الكَلامَ لَهُمْ حَلالٌ مُطلَقُ |
فَالمَوْتُ آتٍ وَالنُّفُوسُ نَفائِسٌ | وَالمُسْتَعِزُّ بِمَا لَدَيْهِ الأحْمَقُ |
المعتز بحياته، الفرح بها، المتمسك بها الذي يظن أنها لا تزول وربي الكعبة أحمق، إنها تزول فماذا أعددت بعد أن تزول إلى مقرك الحقيقي؟!
لقد كان ابن عمر يستحضر وصية النبي صلى الله عليه وسلم أكان يمضي حياته في طاعة الله متبعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يعلم أن وصية النبي صلى الله عليه وسلم ترقت ترقي من: "كن في الدنيا كأنك غريب " إلى قوله: "عابر سبيل".
عابر سبيل الذي يعبر السبيل ماذا يحمل معه من الزاد؟ ما يبلغه انتهاء سبيله، ووصوله إلى هدفه، ولذا فإن ابن عمر يشرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم شرحا بينا واضحا متمثلا فيه العمل إلى: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء".
وهذه كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من حوله.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، وكان حبيبنا صلى الله عليه وسلم يتمنى أن يقاتل في سبيل الله ثم يقتل، ثم يحيى ثم يقتل، ثم يحيى ثم يقتل.
من المتمني؟ إنه الحبيب صلى الله عليه وسلم مع أن الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع أنه خير البشرية إلا أنه عليه الصلاة والسلام كان يتمثل الموت بين عينيه، وكان يقوم الليل كله بآية واحدة صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان يستحضر عليه الصلاة والسلام أن الدنيا لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافر منها شربة ماء، ولذلك فهي حقيرة مهينة، إنما هي مزرعة للآخرة.
فإن بناها بخير طاب مسكنها وإن بناها بشر خاب بانيها
ونبني القصور المشمخرات في الهوى | وفي علمنا أننا سنموت |
ما دمنا نعرف أنها تموت وأنها تخرب، فإن علينا أن نقدم لما لا يبلى، نعيم الجنة لا يزول، أسأل الله لنا ولكم الجنة.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون: لقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم والأسهم تتوارده من كل مكان، والأعداء يأتمرون بقتله، وهو ثابت لما فر الناس في يوم أحد، ولم يبق! حوله إلا عدد أصابع اليد من الرجال، يقاتل معه صلى الله عليه وسلم فتقدم الأنصاري بعد الأنصاري بعد الأنصاري، وكلما تقدموا قتلوا فداءً لحبيبنا صلى الله عليه وسلم، ونصرة لهذا الدين، حتى لم يبقَ معه صلى الله عليه وسلم إلا رجلان صحابيان من أًصحابه، ومع ذلك يقول: "ما أنصفناهم" وينادي في الناس بأعلى صوته عليه الصلاة والسلام: "أنا محمد" وهو يعلم أن الكفار إذا سمعوا صوته سيستبقوا ليقتلوه! هلموا إلي، أنا محمد، ويقف ثابتا صلى الله عليه وسلم، فيضربوا له من كل جانب ويحميه الصحابة بأرواحهم وأنفسهم، ويصاب ويسقط مجندلا بدمه، ولم يقتل في المعركة صلى الله عليه وسلم، وتدخل حلقات المغفر في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، في وجنتيه، ومع ذلك يثبت عليه الصلاة والسلام، ويثبت أصحابه معه، لماذا؟ لأنه هو الذي أوصى ابن عمر والأمة من بعده أنهم يكونون في الدنيا كأنهم غرباء، أو عابري سبيل، والمعنى: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء".
ويوم توارت عليه الأعداء من كل جانب وفر الناس من حوله، وقف عليه الصلاة والسلام يرتكز شامخا: "أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب".
ويقف حتى يتوارد عليه أصحابه لما قال لصاحبه صح بأصحاب الشجرة بأصحاب بيعة الرضوان، فنادى بهم، فتوافدوا من كل حدب وصوب، حتى كانوا من يمين الرسول صلى الله عليه وسلم ومن يساره، فقال: "الآن حمي الوطيس".
هكذا كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم، يقف عليه الرجل بسيفه ويعلوه بالسيف وهو نائم، بعد أن اختطف سيف النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله به، فيقول: من يمنعك مني يا محمد ؟ فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الله " فيسقط السيف، ذلكم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوصى أصحابه بذلك.
أنس بن النضر صاحب النبي صلى الله عليه وسلم لا يحضر مع النبي صلى الله عليه وسلم في بدر، فيتحسر أنه تخلف ولم يحضر مع النبي صلى الله عليه وسلم في بدر، تحسر أنه تخلف عن مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأي مشهد ؟ مشهد بدر الذي كان فيه النصر العظيم لأولياء الله المؤمنين على أولياء الشيطان الكافرين، ومع ذلك يتحسر ويقول: "لئن أشهدني الله مشهدا ليرين الله ما أصنع يا رسول الله".
فلما كان يوم أحد، وفر الناس وانفضوا من حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومر على من يقول: "لقد قتل محمد صلى الله عليه وسلم". قال: "فما تنتظرون بعده موتوا على ما مات عليه محمد" ويثبت في المعركة حتى لا يستطيع بعد أفضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل فعله، ثم لا يعرف إلا بنانه، تعرفه أخته الربيع، لماذا ؟ لكثرة ما فيه من طعنة رمح، أو ضربة سيف، أو رمية سهم، وأصبح جسده مخلخلا بالجراح، لكن الله سبحانه وتعالى جعله مثلا لمن خلفه، وعبرة لمن يستحضرون: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء".
ويمر الحبيب صلى الله عليه وسلم وعلى مصعب بن عمير، وقد قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، فقطعت شماله فأخذها بين عضديه، حتى ضربه ابن قميئة بسيفه فقتله، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر على أنس وعلى مصعب بن عمير، فيقول عليه الصلاة والسلام: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23].
أُولَئِكَ آبَائي فَجِئْني بمِثْلِهِمْ | إذا جَمَعَتْنا يا جَرِيرُ المَجَامِعُ |
ألم يمر عليكم خبر الصحابي الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يبشر بجنة عرضها السماوات والأرض، فلما سمع عن جنة عرضها السماوات والأرض أراد أن يبادر إليه، فقال: "بخ بخ" ورمى التمرات من يده، وقال: "لئن بقيت لأكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة".
أولئك الذين حبب إليهم الموت، وكرهت إليهم الدنيا، كرهوا البقاء وأحبوا اللقاء، لرب السماء، أولئك هم الذين ضربوا المثل الأروع لتمثل الحياة، ولتمثيل الخبر والوصية واقعا معاشا في الحياة، فهل اقتصر هذا على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حضرته ووجوده؟
كلا.
يرسل النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه ثلاثة يقودون المعركة، يقودون الصحابة، ثلاثة يبشرهم بالموت، وهم يخرجون إلى ساحات اللقاء، يقول القائد زيد فإن فجعفر، فإن فعبد الله بن رواحة، ويخرج الثلاثة وأحدهم يبكي مع خروجه؛ عبد الله بن رواحه لما سألوه ما يبكيك ؟ قال: أبكي أني سمعت الورود ولم أسمع الصدور، يريد الورود على النار، فيكف الصدور، وهو صاحب النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بالشهادة، وهو ذاهب إلى المعركة، ومع ذلك لما خرج وأقبلوا على العدو تسابقوا إلى الموت؛ لأنهم لا ينتظرون المساء، ولو كانوا في المساء ما انتظروا الصباح، وعدوهم أضعاف أضعاف أضعاف أعدادهم، وهم كانوا أقل، لكنهم فئة مؤمنة صابرة، كانت تحتسب أرواحها، وتقدمها في سبيل الله رخيصة.
يتقدم أولهم فيقاتل حتى يقتل، ثم يحمل الراية من أوصاه النبي صلى الله عليه وسلم أن يحملها جعفر، فتقطع يده اليمنى واليسرى، ويبشر النبي صلى الله عليه وسلم بجناحين في الجنة يطير بهما، وهو على المنبر يحدثهم النبي صلى الله عليه وسلم بما يقع لأصحابه في مكان بعيد عنه لا يراه، والله يوحي إليه، فيتردد عبد الله بن رواحه، فلما رأى النفس تتردد وهو الصحابي الجليل المؤمن المجاهد البطل أراد أن يرغمها على الموت فماذا قال؟
أقسمت يا نفس لتنزلنّ | لتنزلنَّ أو لتكرهنَّ |
إن أجلب الناس وشدوا الرنة | ما لي أراك تكرهين الجنّة |
قد طال ما قد كنت مطمئنة | هل أنت إلا نطفة في شنّة |
فقاتل حتى جندل مع أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، ويراهم النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا يحتسون خمر الجنة، ويخبر عن مكانتهم ومنزلتهم، ذلك أنهم الذين استحضروا: "إذا أصبحت فلا تنتظر المساء وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح" وكذلك إذا أرادت الأمة أن تحقق عزها وشموخها، وأن ترفع راية الحق، وأن تنتصر على أعدائها، فعليها أولا أن تتوب إلى الله توبة نصوحا من كل الذنوب صغيرها وكبيرها، وأن توحد الله وتفرده بالعبادة وحده لا سواه، وأن تجعل الدنيا مطية للآخرة، تجعل الدنيا راحلة للآخرة.
لما رأى عمر أثر الحصير في عاتق النبي صلى الله عليه وسلم ماذا قال؟ كسرى وقيصر يتقلبون على الفرش الوثيرة وأنت على ما أرى يا رسول الله؟ يعني تأثر صفحة الحصير في عنق النبي صلى الله عليه وسلم: "مالي وللدنيا، ما حالي وحال الدنيا إلا كراكب استظل بظل شجرة ثم راح وتركها"
كم يبقى في ظل الشجرة؟ عابر سبيل إذا من انقضى حر الشمس وزال المقيل ذهب في طريقه إلى سبيله؛ تلك هي حالنا في الدنيا، فاستعدوا لما بعد الموت، واستحضروا أنه لا حياة لكم في سعادة في هذه الدنيا، إلا أن تجعلوها مطية للآخرة.
فعليكم بالتوحيد، وعليكم بإفراد الله بالعبادة، وعليكم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعليكم بالخوف من الله وحده، وبالتوكل عليه، وبالإنابة إليه، لا تجعلوا الدنيا ملاذا ومتمسكا، واجعلوها معبرا وسبيلا، يوصلكم إلى الدرجات العلى في الجنة، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الجنة.
أيها المسلمون: إن أمتنا علت وارتفعت وانتصرت لما حققت وصية النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا في الدنيا كالغرباء أو عابر سبيل، وإنهم لم يكن ركونهم إلى الدنيا ركون تعلق، بل كانوا يأخذونها مطية للآخرة.
نام أحد السلف من الصالحين الأولياء، فلما سمع صوت المؤذن بكى حتى انخلع قلبه، لماذا بكى؟ يسمع الأذن، لماذا بكى؟ أبه مس من جان؟ لا، لقد بكى لأنه فاته قيام الليل، فلم يقم وهو من ثلاثين سنة لم يترك قيام الليل إلا هذه الليلة، فبكى حتى أغشى عليه، وأهرق عليه الماء فقام، ثم لما صلى الفجر وانتهى وقت النهي صلى حتى أقبل الظهر، يعوض ما فاته من قيام الليل، فأين الذين يصفون الأقدام في العتمات لرب الأرض والسماوات؟ أين أصحاب الركعات؟ أين أصحاب السجدات؟ أين الذين يطلبون الشهادة ليست شهادات الدنيا ولكن شهادة في سبيل الله؟ أين الذين يطلبون ما أعد الله لأوليائه؟ أين طلاب الفردوس الأعلى من الجنة؟
إنهم منكم وفيكم، فتوبوا إلى الله، وأخلصوا واستقيموا على الطريقة وأصلحوا، فورب الكعبة ليبلغن الله من سأل الله بصدق وأخلص ما تمنى بإذنه سبحانه وتعالى.
أيها المسلمون: عليكم بطاعة الله وبإتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اقرؤوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لتتمثلوها، ولتتبعوه فيها، ولتقتدوا به، واقرؤوا سيرة السلف الصالح من أولياء الله الذي قضوا في سبيل الله لتقتضوا بهم، ولتبعثوا الحياة في أرواحكم من جديد.
أين الذي إذا كبر لم يستطع أن يكمل القراءة من خوفه من الله جل وعلا؟ وأين الذي إذا سجد غلبته عبرته فلم يستطع أن يقم من سجوده إلا بعد سجود طويل؟ وأين الذي يقوم بآية لله سبحانه وتعالى يخاف عذاب الله ويرجو ثوابه جل وعلا؟.
أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل، والقبول في الدنيا والآخرة.
أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيما لشانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
أما بعد:
فيا حماة العقيدة، ويا حراس الدين، يا أيها الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر، يا خير أمة أخرجت للناس: متى ما حققت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، توبوا إلى الله وأنيبوا إليه وأسلموا، واتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا.
واعلموا -يا عباد الله-: أن الأمة ما استذلت، وما أهينت، وما سيطر عليها أعداؤها من الغرب الكافر، إلا لما أحبت الدنيا وركنت إليها، ولهثت وراءها، وأصبح زيفها في عينها محبوبا ومقبولا، ووالله لو أنهم تمثلوا وصية النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلوا الدنيا دار غربة ومعبر لسبيل، وكانوا إذا أمسوا لا ينتظرون الصباح، وإذا أصبحوا لا ينتظرون المساء على حد وصف ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه لبلغوا أعلى الدرجات، وأعلى الأماكن، وأعلى المنازل، ولكانوا فوق السحب.
أيها المسلمون: تنظرون ما يحل بالمسلمين من حولكم، وترون واقع يفتت القلوب يقطعها لو كان فينا قلوب.
يموت المسلمون ولا نبالي | ونهرف بالمكارم والخلال |
ونحيا العمر أوتارا ودنا | ونحيا العمر في قيل وقال |
وننسى إخوة في الله ضرت | بهم كف الزمان على الرمال |
يلفون البطون على خواء | ويقتسمون أرغفة الخيال |
أو لا تنظرون إلى ما يحل بإخوانكم في الشام، وما يحل بهم في اليمن، وما يحل بهم في العراق، وفي يحل بهم في أفغانستان، وما يحل بهم تحت كل سماء وفوق كل أرض، إذا ارتفعت راية الجهاد تتوافد عليهم الأمم تحاربهم من كل حدب وصوب ينسلون.
"تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: "أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل".
أيها المسلمون: أو لا تنظرون إلى النصيرية الكافرة، وإلى الطواغيت والكفرة، كيف ينتهكون أعراض المسلمين ويغتصبوهن، والمسلمون سكارى في غوايتهم، والنصر يحلو لهم في لعبة القدم!
ألا تتأملون في حال إخوانكم وهم يستنصرونكم أن تمدوهم حتى الدعاء تبخلون به، من لم يستطع أن يدعو لهم فلن يستطيع أن يبذل ماله لهم، ولا نفسه في سبيل الله سبحانه وتعالى.
فأين الذين إذا أمسوا لا ينتظرون الصباح، وأين الذين إذا أصبحوا لا ينتظرون المساء، إنهم المجاهدون في سبيل الله الذين يرفعون راية الجهاد في كل مكان لإعلاء كلمة لا إله إلا الله، لا توحيد إلا بالجهاد، ولا نصر إلا بالجهاد، ولا عز إلا بالجهاد، ولا رفعة إلا بالجهاد.
فاللهم انصر المجاهدين في كل مكان.
اللهم كن لهم عونا وناصرا على الطواغيت والظلمة والكافرين والملحدين وجميع أعداء الدين يا رب العالمين.
أيها المسلمون: تتصل مسلمة لتستنجد من سجون الرافضة في العراق، وتتصل أخرى في سجون الطواغيت، وأخرى في سجون الكافرين لتقول: أين من يخلصنا؟ أين إخواننا المسلمون؟.
لما أتى خزاعة ينتصر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكان مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حلف وقريش مع من حاربه في حلف لما أتى قال:
يا رب إني ناشد محمدا | حلف أبيه وأبينا الأتلدا |
قد كنتموا ولدا وكنا والدا | ثمت أسلمنا فلم ينزع يدا |
فانصر رسول الله نصرا أبدا | وادع عباد الله يأتوا مددا |
فأنصره النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: "نصرت" وناصره بفتح مكة صلى الله عليه وسلم، بل روي أنه قال: "لا نصرت إن لم أنصرك "، "لا نصرني الله إن لم أنصرك".
ولما كشف اليهودي عورة المسلمة المؤمنة وقتل من دافع عنها من المسلمين، خرج المسلمون يتوافدون على الكفار وعلى رأسهم حبيبنا صلى الله عليه وسلم حتى قتالهم بسبب امرأة واحدة كشفت عورتها.
وعلى مر التاريخ والزمان تمر معنا قصص النصرة من أولياء الله الصالحين، يرسل كافر من النصارى إلى هارون الرشيد خليفة المسلمين في زمانه، يرسل إليه بعد أن عزل المرأة التي كانت تحكم النصارى يرسل أن رد إلينا المال الذي أرسلت إليه، ورد إلينا ما أعطتك فإنها امرأة ضعيفة، وأراده أن يردها وهدده بأنه سيحاربه إن لم يفعل وتوعده، فغضب هارون الرشيد وكتب الخطاب: من أمير المؤمنين هارون الرشيد إلى الكافر وأرسل إليه أو قال إلى الكلب، فأرسل إليه يقول له الأمر ما ترى لا ما تسمع، ووجه جيش إليه حتى أرغمه على الاستسلام للمسلمين.
وحادثة المعتصم التي تمر على المسلمين مرور الكرام بسبب امرأة انتصر لها فأزال عمورية، أزالها كلها بسبب امرأة انتصرت، والكافر يقول: انتظري المعتصم على حصانه الأبلق لينجدك أو ينقذك، فيخرج على حصانه الأبلق جيش أخره عندهم وأوله عنده حتى يسويها بالأرض ويحرقها ثم يجعل من سبها ومن اعتدى عليها عبدا لها مملوكا فتعتقه فيسلم.
رب وامعتصماه انطلقت | ملء أفواه الصبايا اليتّم |
لامست أسماعهم لكنها | لم تلامس نخوة المعتصم |
أيها المسلمون: في أحد سجون الرافضة الكافرين امرأة تغتصب مرارا ثم تتصل لتقول: إنني قد أنجبت ولدا من الزنا فما أصنع به لقد أنجبته فما أصنع به إنه ابن زنا ولا ابن حلال إنه ابن حرام فماذا أفعل به يا أيها المشايخ؟ قلت لها: اصبري واحتسبي، فقالت: صبرنا واحتسبنا فأين أنتم؟ أين نصرتكم؟ أين حميتكم؟ أين غيرتكم؟ أو ليس فيكم رجال يغارون؟ أو ليس فيكم من المسلمين ما ينتصرون؟
خبتم وخاب من معكم إن لم تكونوا مع إخوانكم في ضرائهم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
أتحب أن تغتصب أختك وينتهك عرضك وأن تأخذ أرضك من بين يديك وأن تحكم بالظلم والتعدي والجور والتعسف؟ أتحب ذلك؟ ما دمتم لا تحبه فلا تحبه لإخوانك المسلمين.
"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسم بالحمى والسهر".
فأين الذين يتداعون بالحمى والسهر؟ وأين الذين ينصرونهم؟
اللهم أرفع البلاء عن المسلمين في كل مكان.
أيها المسلمون: إذا أمسيتم فلم تنتظروا الصباح، وإذا أصبحتم فلم تنتظروا المساء، وأصبح هدفكم الآخرة لا الدنيا، أصبح هدفكم أن تصلوا إلى رضوان الله والجنة، فورب الكعبة وأقسم بالله لتنصرون ما دام أنكم تتوكلون على الله حق التوكل، والله خيرا حافظا وهو أرحم الراحمين، ومن توكل على الله حفظه، من يحتمي بالله لا تكشف حماه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين.