الرزاق
كلمة (الرزاق) في اللغة صيغة مبالغة من الرزق على وزن (فعّال)، تدل...
العربية
المؤلف | أحمد بن ناصر الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة |
أيُّ عدالةٍ ورفاهيَّةٍ وطُمأنينةٍ, عاشها الْمُسلمون وغيرُهم إبَّان حُكمه, بل وصلت العدالةُ الْعُمريَّةُ, إلى أرقى صورها في تاريخ البشريَّة, يوم أنْ أطلق قولته المشهورة: "لو عثرت بغلةٌ في العراق: لخشيت أن يسألني الله تعالى: لِمَ لَمْ تُسَوِّ لها الطريق؟!". ويوم أن صاح في...
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله, واعلموا أنَّ الفاروق عمرَ رضي الله عنه: كانت حياتُه حافلةً بالعطاء والنُّصحِ والأمانة؛ فضرب أروع الأمثلةِ قبل أنْ يتولى الخلافة في الْمُواطنِ النَّاصِح لِحاكمه، وضرب أروع الأمثلةِ, حينما كان وزيراً للخليفةِ أبي بكرٍ رضي الله عنه في الوزير الناصح الْمُخلص للمواطنِ والحاكم, وضرب أروع الأمثلةِ حينما كان حاكماً في الحاكم القويّ الأمين, الْمُشفقِ والْمُخلصِ لرعيَّته.
ودعونا نعيش آخرَ أيام خلافته, وهي الأيام الأربعةُ قبل وفاته, وما فيها من العبر والدّرر, فلن نَتَمَكَّنَ مِن الإتيانِ على تاريخه المشرق كاملاً, فقد روى البخاريُّ وغيرُه (3700) عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: سمعتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَبْلَ أَنْ يُصَابَ بِأَيَّامٍ بِالْمَدِينَةِ يقول: "لَئِنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ، لَأَدَعَنَّ أَرَامِلَ أَهْلِ العِرَاقِ, لاَ يَحْتَجْنَ إِلَى رَجُلٍ بَعْدِي أَبَدًا".
هذا همٌّ واحدٌ, من هموم الحاكمِ العادلِ أميرِ المؤمنين رضي الله عنه, وذلك قبل أن يموت بأربعة أيام, بخطةٍ اقتصاديةٍ مدروسة, مِن شأنها أنْ تجعل أرامل أهل العراق, لا يحتجن إلى أحدٍ بعده أبداً.
أيُّ عدالةٍ ورفاهيَّةٍ وطُمأنينةٍ, عاشها الْمُسلمون وغيرُهم إبَّان حُكمه, بل وصلت العدالةُ الْعُمريَّةُ, إلى أرقى صورها في تاريخ البشريَّة, يوم أنْ أطلق قولته المشهورة: "لو عثرت بغلةٌ في العراق: لخشيت أن يسألني الله تعالى: لِمَ لَمْ تُسَوِّ لها الطريق؟!".
ويوم أن صاح في أميره على مصر- عمروِ بنِ العاص-: "متى استعبدتم الناسَ وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!".
إنَّ هذه القوانين العادلةَ الصادقة: كانت غريبةً على الناس قبل ذلك، فلم يعرف التاريخ حاكماً قبل عمرِ بنِ الخطاب, جرى على لسانه مثلَ هذا الكلام, ومَضَتْ سياستُه مثل هذا التمام, ولكنه دينُ الإسلام, وتربيةُ الرسول صلّى الله عليه وسلم لصحابته الكرام, على العدالةِ والعزةِ والكرامة.
والغرب - يا أمة الإسلام- يتغنَّى بأمثالِ هذه العبارات رياءً ونفاقاً, لا حقيقةً ووفاءً.
ولم تمضِ أربعةُ أيامٍ بعد ما قال: لَئِنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ، لَأَدَعَنَّ أَرَامِلَ أَهْلِ العِرَاقِ, لاَ يَحْتَجْنَ إِلَى رَجُلٍ بَعْدِي أَبَدًا. حَتَّى طعنه أبو لؤلؤةَ الْمجوسيّ.
وكان عبداً للمُغيرةِ بنِ شعبةَ رضي الله عنه, ومع كفره وخبثِه, فهو يُظهر العداوةَ والحقد على أميرِ الْمُؤمنين عمرَ رضي الله عنه, فقد روى ابن سَعْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ, عن الزُّهْرِيِّ رحمه الله قَالَ:" مَرَّ الْعَبْدُ بعمرَ رضي الله عنه فَقَالَ: أَلَمْ أُحَدَّثْ أَنَّكَ تَقُولُ: لَوْ أَشَاءُ لَصَنَعْتُ رَحىً تَطْحَنُ بِالرِّيحِ؟ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ عَابِسًا فَقَالَ: لَأَصْنَعَنَّ لَكَ رَحىً يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهَا, فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى مَنْ مَعَهُ فَقَالَ: تَوَعَّدَنِي الْعَبْدُ" [فتح الباري: 7/ 63].
وهنا وقفةٌ -يا أمة الإسلام- هذا العبدُ الكافرُ الْمَجوسيّ, يُخاطب أقوى وأعظم حاكمٍ في وقته, الذي هزّتْ جُيُوشُه كسرى وقيصر, يُخاطبه بهذا الأسلوب الدنيء, وبلهجةٍ يَفهمُ منها التهديد بالقتل, ومع هذا كلِّه, لم يأمر بحبسه وسجنه, ولا بنفيه وطرده, بل ولا بزجره وسبِّه, حيثُ لم يثبت في حقِّه ما يُوجبُ ذلك, وإنْ كان عمرُ يكرهه ولا يُحبه, بل وعلم منه أنَّه يتمنى قتله, فأيُّ عدالةٍ أعظم من هذا, وأيُّ حضارةٍ توازي هذه الحضارة.
إنها العدالة الإسلامية, والسياسةُ العُمرية: أنه لا يُسجَن أحدٌ إلا بجريمةٍ واضحة, وخيانةٍ مُتعمَّدة, لا بتهمٍ باطلة, وأفعالٍ مُحْتَمَلة.
والْمُهمُّ -يا عباد الله- أن هذا المجوسيَّ الخبيث: عزم عَلَى قَتْلِهِ, فَصَنَعَ لَهُ خِنْجَرًا لَهُ رَأْسَانِ, وَدحاه بالسُّمّ, وتَحَرَّى صَلَاةَ الْفجر, حَتَّى قَامَ عُمَرُ رضي الله عنه فَقَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ, حَتَّى إِذَا لَمْ يَرَ فِيهِنَّ خَلَلًا واعْوجاجاً: تَقَدَّمَ فَكَبَّرَ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ كَبَّرَ حتَّى صرخ: قَتَلَنِي الكَلْبُ، حِينَ طَعَنَهُ فِي كَتِفِهِ وخَاصِرَتِهِ, فَطَارَ العِلْجُ بِسِكِّينٍ ذَاتِ طَرَفَيْنِ، لاَ يَمُرُّ عَلَى أَحَدٍ يَمِينًا وَلاَ شِمَالًا إِلَّا طَعَنَهُ، حَتَّى طَعَنَ ثَلاَثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، مَاتَ مِنْهُمْ سَبْعَةٌ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ, طَرَحَ عَلَيْهِ رِداءه، فَلَمَّا ظَنَّ العِلْجُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ, قتل نَفْسَهُ وانْتَحر، وَتَنَاوَلَ عُمَرُ يَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ، فَصَلَّى بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ صَلاَةً خَفِيفَةً، فَلَمَّا انْصَرَفُوا وانْقَضتِ الصلاة, اهتمَّ كثيراً في قاتله: هل كان مسلماً أم كافراً؟ فنظر مِن حوله, فوجد ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فقال له: انْظُرْ مَنْ قَتَلَنِي، فَخرج وسأل عن القاتل, ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: غُلاَمُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ، لَقَدْ أَمَرْتُ بِهِ مَعْرُوفًا، الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ مِيتَتِي, بِيَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي الإِسْلاَمَ.
ثُمَّ غَلَبَه النَّزْفُ حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ, فَاحْتُمِلَ إِلَى بَيْتِهِ والدماءُ تسيل منه، فَلَمْ يَزَلْ فِي غَشْيَتِهِ حَتَّى خشوا أنْ يخرج الوقت, فَجَعَلوا يُنَادونه ويُنَبِّهُونه, لكنه لم يَنْتَبِه ولم يَفِق, فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: إِنْ لم يَنْتَبِه: فَاذْكُرُوا لَهُ الصَّلَاةَ, فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ, الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ, فَفَتَحَ عَيْنَهُ وَقَالَ: "الصَّلَاةُ؟ الصَّلَاةُ؟, ثم جلس فقال: لَا حَظَّ فِي الْإِسْلَامِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ", ثُمَّ تَوَضَّأَ وَصلى"[رواه الإمام مالك (117), والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (926), وصححه الألباني في إرواء الغليل (209)].
اسْمعوا يا أبناء الإسلام, عمرُ الفاروقُ رضي الله عنه, يُطعَن بخِنْجَرٍ مسمومٍ في بطنه, وأول ما أفاق من غشْيَته يُنادي بالصلاة, ولم يُنادِ بالطبيب, ولم يهتمّ لألمه ومرضه, بل اهْتم لصلاته, ثم يُعلنها صريحةً واضحة: "لَا حَظَّ فِي الْإِسْلَامِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ".
فما عذر الْمُقصرين والْمُفرطين بها, ما عُذر مَن ينام عن صلاة الفجر, وهو بكامل قوَّته ونشاطه.
فاغتمّ الناس وحزنوا بأمير المؤمنين, وَكَأَنَّهم لَمْ تُصِبْهُمْ مُصِيبَةٌ قَبْلَها، فَأُتِيَ بِلَبَنٍ فَشَرِبَهُ فَخَرَجَ مِنْ جُرْحِهِ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ مَيِّتٌ، فجَاءَ النَّاسُ لِيُواسوه، فَجَعَلُوا يُثْنُونَ عَلَيْهِ، وَجَاءَه شَابٌّ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللَّهِ لَكَ، مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدَمٍ فِي الإِسْلاَمِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ وَلِيتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ شَهَادَةٌ، فقَالَ الفاروقُ رضي الله عنه: وَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَفَافٌ لاَ عَلَيَّ وَلاَ لِي، فَلَمَّا أَدْبَرَ إِذَا إِزَارُهُ يَمَسُّ الأَرْضَ، فقَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ الغُلاَمَ، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي ارْفَعْ ثَوْبَكَ، فَإِنَّهُ أَبْقَى لِثَوْبِكَ، وَأَتْقَى لِرَبِّكَ.
رضي الله عن الفاروقِ عُمر, لم يترك النُّصح لرعيَّته, حتى وهو على فراش الموت.
وَفِي إنْكَارِه رضي الله عنه, عَلَى هذا الشَّابِّ إسبالَ إزَارِهِ, مَعَ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ مُكَابَدَةِ الْمَوْتِ, أَعْظَمُ دَلِيلٍ عَلَى حُرمةِ الإسبال, وأنه من المحرمات إذا تجاوز الكعبين.
فلما انصرف الناس عنه, نادى ابنه عَبْدَ اللَّهِ، وقال له: يَا عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ, انْظُرْ مَا عَلَيَّ مِنَ الدَّيْنِ, فَحَسَبُوهُ فوَجَدُوهُ سِتَّةً وثَمَانِينَ ألْفاً أوْ نَحْوَهُ, قَالَ: فأدِّ عَنِّي هَذَا المال.
انظروا إلى النزاهةِ والأمانة الْعُمريَّة, تُجبى إليه كنوز كسرى وقيصر, وتُنفَق على جميع المسلمين, وهو لم يأخذ درهماً واحداً, لحجِّه وعمرته وأعماله الخاصة به, إنما يأخذ ما حُدِّد له من مُرتَّبٍ من الدولة, فإذا بقي طعامٌ زائدٌ عن حاجته: رده إلى بيت مال الْمسلمين, فأيُّ أمانةٍ وعدالةٍ هذه يا أمَّة الإسلام.
ثم قال لابنه عَبْدِ اللَّهِ: انْطَلِقْ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَقُلْ لها: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ السَّلاَمَ، وَلاَ تَقُلْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنِّي لَسْتُ اليَوْمَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمِيرًا، وَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ، فانطَلَقَ إليها فَسَلَّمَ وَاسْتَأْذَنَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا فَوَجَدَهَا قَاعِدَةً تَبْكِي، فَقَالَ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ السَّلاَمَ، وَيَسْتَأْذِنُ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ، فَقَالَتْ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي، وَلَأُوثِرَنَّ بِهِ اليَوْمَ عَلَى نَفْسِي، فَلَمَّا أَقْبَلَ قَالَ له: مَا لَدَيْكَ؟ قَالَ: الَّذِي تُحِبُّ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ, أَذِنَتْ، فقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ، مَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا أَنَا قَضَيْتُ فَاحْمِلُونِي، ثُمَّ سَلِّمْ وقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، فَإِنْ أَذِنَتْ لِي فَأَدْخِلُونِي، وَإِنْ رَدَّتْنِي رُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ المُسْلِمِينَ.
اللهم ارض عن الفاروقِ عمرَ بنِ الخطاب, واجمعنا به مع سائرِ الأصحاب, إنك سميعٌ قريبٌ مجيب.
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين, الملكِ الحقِّ المبين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الْمبعوثُ رحمةً للعالمين, صلى الله عليه, وعلى آله وأصحابه والتابعين, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: وَجَاءَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ حَفْصَةُ فَدخلتْ عَلَيْهِ، فَبَكَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، وَاسْتَأْذَنَ الرِّجَالُ، فَدخلتْ دَاخِلًا عنهم، فَقَالُوا: أَوْصِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ, اسْتَخْلِفْ، قَالَ: مَا أَجِدُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ هَؤُلاَءِ النَّفَرِ، الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَسَمَّى عَلِيًّا وَعُثْمَانَ، وَالزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ، وَسَعْدًا وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ.
ثم أُوصى الخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِه، بأنْ يقوم بحقّ الرعيَّةِ والْمُواطنين جميعًا, كافرِهم ومسلِمهم, شرِيفِهم ووضيعهم, فبدأ بالمهاجرين والأنصارِ، فقال: أُوصي الخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي بِالْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَيَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالأَنْصَارِ خَيْرًا، أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَأَنْ يُعْفَى عَنْ مُسِيئِهِمْ.
ثم أوصى بأهل الحضر، فقال: وَأُوصِيهِ بِأَهْلِ الأَمْصَارِ خَيْرًا، فإنَّهُمْ رِدْءُ الإسْلاَمِ, وجُبَاةُ المَالِ, وغَيْظُ العَدُوِّ.
ثم أوصى بأهل الباديةِ، فقال: وَأُوصِيهِ بِالأَعْرَابِ خَيْرًا، فَإِنَّهُمْ أَصْلُ العَرَبِ، وَمَادَّةُ الإِسْلاَمِ.
وهل بقي أحدٌ من مُواطنيه يُوصي بهم, وهو على فراشِ الموت؟ نعم! بقي الكفارُ من اليهودِ والنصارى, فدينُ الإسلام دين العدالة للجميع, دولةُ الإسلام حقٌّ لجميعِ الْمُواطنين بلا تفْرقةٍ وظلم, فقال رضي الله عنه: وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، أَيْ: إِذَا قَصَدَهُمْ عَدُوٌّ يُريد قتالهم, فواجبُنا أنْ نقاتل دفاعاً عنهم, وَلاَ يُكَلَّفُوا إِلَّا طَاقَتَهُمْ.
إنَّ الْمُخالفين لنا في عقيدتنا ومَنهجنا: لم تُنْسِ الفاروقَ أنْ يُوصيَ بهم: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة: 8].
قال: فَلَمَّا قُبِضَ خَرَجْنَا بِهِ، فَانْطَلَقْنَا نَمْشِي، فَسَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فقَالَ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، قَالَتْ: أَدْخِلُوهُ، فَأُدْخِلَ، فَوُضِعَ هُنَالِكَ مَعَ صَاحِبَيْهِ.
رحم الله الفاروقَ عمر, ورضي الله عنه وأرضاه, وجمعنا به في جنات النعيم.