الحي
كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...
العربية
المؤلف | عبدالله بن إبراهيم القرعاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الزهد |
يقول ابن الجوزي: إنّ أقل من يموت الأشياخ، وأكثر من يموت الشبان؛ ولهذا يندر من يكبر؛ فاحذر الاغترار بالسلامة والإمهال، ومتابعة كواذيب المنى والآمال، وكل عمل كرهتَ الموت من أجله فاتركه ثم لا يضرك متى مت، واعمل لآخرتك يكفك الله أمر دنياك، وبع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا.
الحمد لله المبدئ المعيد، أسبغ علينا النعم وهو الولي الحميد، لا هادي لمن أضل ولا مضل لمن هدى، وهو الفعال لما يريد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله: اتقوا الله حق التقوى؛ فمَن اعتصم بالله أيده وهداه، ومن لجأ إليه كلأه ورعاه.
عباد الله: المؤمن بين مخافتين: أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه.
وفي بقية عمر الإنسان وقفات يحاسب فيها الحصيف نفسه، ويستذكر ذنبه، ويستغفر ربه، ويراجع أعماله؛ فمن الخير يزداد، وعن التقصير يقلع.
ولا يزال العبد على هداه ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته. يقول الحسن البصري: إن أيسر الناس حسابا يوم القيامة الذين حاسبوا أنفسهم في هذه الدنيا؛ فوقفوا عند أعمالهم، فإن كان الذي هموا به لله مضوا فيه، وإن كان عليهم أمسكوا، وإنما يثقل الحساب يوم القيامة على الذين جازفوا الأمور فأخذوها من غير محاسبة، فوجدوا الله قد أحصى عليهم مثاقيل الذر، قال -تعالى-: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:30].
وما حقيقة الأعمار إلا الأعوام، وما الأعوام إلا أيام، وما الأيام إلا أنفاس؛ وإن عمرا يقاس بالأنفاس لسريع الانصرام، وحوادث الدهر عدة، وعبر الأيام جمة، مدائن تعمر، وأخرى تدمر، يصبح ابن آدم معافى في صحته ثم يمسى في أطباق الثرى، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم؛ فلينظر بما يرجع".
عباد الله: إن تغير الأحوال، وانقضاء الآجال، وانقطاع الأعمال والآمال، وما يحدث فيها من الفواجع والأهوال؛ كل ذلك يشعر بعجز المخلوق وضعفه، وشدة افتقاره إلى ربه؛ فالدنيا محفوفة بالأنكاد والأكدار، مشحونة بالمتاعب، مملوءة بالمصائب، طافحة بالأحزان والأكدار، يقول الله -جل وعلا-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد:4].
فالإنسان فيها معرض للأمراض والأعراض، الأحوال فيها إما نعم زائلة، وإما بلايا نازلة، وإما منايا قاضية.
قيل لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: صف لنا الدنيا. قال: من صح فيها ما أمن، ومن سقم فيها ندم، ومن افتقر فيها حزن، ومن استغنى فيها فتن، في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب.
ولقد ذكر الله -عز وجل- حقيقتها بقوله: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد:20].
والمؤمن في الدنيا كالغريب، لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، له شأن وللناس شأن، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر".
ومن عرف الدنيا حق المعرفة لم يفرح فيها برخاء، ولم يحزن على بلاء، والحياة بغير الدين تحفها المنغصات، وأسعد الناس بها أرغبهم عنها، وأشقاهم بها أرغبهم فيها، الفائز من أعرض عنها، والهالك من رغب فيها، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء".
فإياكم والاغترار بزهرتها! فقد اغتر قوم قبلكم فأوردهم موارد العطب، أبهرتهم برونقها فما أفاقوا إلا وهم في عداد الموتى، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم".
عباد الله: ومرور الأيام يذكر بقرب الرحيل، ويوشك الأرض أن تزال منا كما أُزلنا منها فتأكل أجسادنا، وتشرب دماءنا، كما مشينا على ظهرها، وأكلنا من ثمارها، وشربنا من مائها.
وليلتان اجعلهما في خلدك: الليلة التي في بيتك منعما سعيدا، والليلة التي تليها في القبر وحيدا فريدا. والموت يكثر من نزع روح من في زهرة الحياة.
يقول ابن الجوزي: إنّ أقل من يموت الأشياخ، وأكثر من يموت الشبان؛ ولهذا يندر من يكبر؛ فاحذر الاغترار بالسلامة والإمهال، ومتابعة كواذيب المنى والآمال، وكل عمل كرهتَ الموت من أجله فاتركه ثم لا يضرك متى مُت، واعمل لآخرتك يكفك الله أمر دنياك، وبع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا.
يقول عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- مر علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نعالج خصا لنا، أي: بيتا من خشب وقصب، فقال: ما هذا؟ فقلنا: قد وهى، ونحن نصلحه، فقال: "ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك".
عباد الله: مهدوا لأنفسكم قبل أن تعذبوا، وتزودوا للرحيل قبل أن تُزعَجوا؛ فإنما هو موقف عدل، واقتضاء حق، وسؤال عن واجب، وخير الزاد ما صحبه التقوى، وخير العمل ما تقدمه خالص النية، وأعلى الناس منزلة عند الله أخوفهم منه، ومن قارب ساحل الأجل اغتنم اللحظات.
يقول يحيى بن معاذ: العقلاء ثلاثة: من ترك الدنيا قبل أن تتركه، وبنى قبره قبل أن يدخله، وأرضى خالقه قبل أن يلقاه.
فالدنيا معبر ينبغي للإنسان أن لا ينافس في لذاتها، وأن يعبر الأيام بها ولا يأمن التحول منها، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها".
والعاقل حقا من تغلب على طول الأمل بتذكر الموت، وإن زيارة المقابر وعيادة المرضى توقظ القلوب، وتذكر بالمصير، وإن كؤوس التسويف لن تسقيك سوى الندامة تتجرع مرارتها، فبادر بإطفاء ما أُوقد من نيران الذنوب، فدمعة التائب تطفئ نار الغضب، وامح بالتوبة زلتك، وإذا أصبحت فتأمل ما مضى من ليلتك، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله: اتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعلموا أن نصيب الإنسان من الدنيا عمره، فإن أحسن اغتنامه فيما ينفعه في دار القرار فقد ربحت تجارته، وإن أساء استغلاله وأكثر من المعاصي والسيئات بارت بضاعته، وكم من حسرة أنَّت تحت الثرى.
والرشيد من حاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله، والموفق من اغتنم وقته، وعرف دواءه من دائه، ولم يهمِل فيهمَل.
ودع عنك الذنوب، فترك الذنوب أيسر عليك من طلب التوبة، ولا تدع ذنبا يخلف ذنبا، فالخير كله بحذافيره في الجنة، فأجهدوا بالسير إليها؛ والشر كله بحذافيره في النار، فاجتهدوا في الهرب منها.
والحياة ميدان فسيح لصالح الأعمال، والسعيد من استودع مدة عمره صالحا من عمله، والشقي من شهدت عليه جوارحه بقبيح زلـله، فاحفظوا أيام عملكم قبل تفردكم في قبوركم، واغتنموا أيام حياتكم قبل الفوات.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
فأكثروا من الصلاة عليه، يعظم لكم ربكم بها أجرا، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا".
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي؛ وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، واحم حوزة الدين.
اللهم إنا نعوذ بك من شر اليهود والنصارى والرافضة، اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم، وندرأ بك اللهم في نحورهم.
اللهم خالف بين كلمتهم، اللهم واجعل بأسهم بينهم شديداً، اللهم واجعل بأسهم بينهم شديداً، اللهم واجعل بأسهم بينهم شديداً.
اللهم انصر دينك، وانصر من نصر دينك، واجعلنا من أنصار دينك يا رب العالمين.
اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين والمؤمنات في كل مكان من أرضك يا رب العالمين، اللهم ارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وفك أسرهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم.
اللهم وآمنا في دورنا، وأوطاننا، وأصلح ووفق ولاة أمورنا، اللهم وأصلح قلوبهم وأعمالهم يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم اصرف عنا وعن جميع المسلمين شر ما قضيت، اللهم ارفق بنا وبالمسلمين في قضائك وقدرك.
اللهم اغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولأولادنا ولأزواجنا، ولجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.