البحث

عبارات مقترحة:

الرحيم

كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...

اللطيف

كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...

الباطن

هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...

ميلاد الأمة

العربية

المؤلف صالح بن مبارك بن أحمد دعكيك
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات السيرة النبوية
عناصر الخطبة
  1. فضائل النبي -صلى الله عليه وسلم- .
  2. جعفر بن أبي طالب يختصر الإسلام للنجاشي .
  3. وضع العرب في الجاهلية .
  4. وضع العالم قبل البعثة وكيف تغير بعدها .
  5. ميلاد أمة .

اقتباس

وكانوا في ضلال مبين، وأيُّ ضلالٍ أشد مما كانوا فيه من الضلالة؟! ضلال في العقيدة؛ حيث كان لكل قبيلة صنم، بل كان لكل بيت صنم وإله، وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا، وتدرجوا من عبادة الأصنام إلى عبادة الجن وعبادة الأحجار، أخرج...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي أحيا الأمة بمولد سيد الأنام، وفرحت بمقدمه الأرض والسماوات، أكرمنا برسالته وهدانا بنوره على دين الحق، وأزاح عن القلوب فاسد الاعتقادات وموروثات الجاهليات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بعث نبيِّه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فويل لمن على غير هديه وملته مات.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أعلن دعوة التوحيد من ربوع وسفوح مكة، يسمع العالم كله كلمة التوحيد بعد أن أغوتها معابد الأوثان وأنواع الشركيات، ففتح الله بدعوته قلوبًا غلفًا وأعينًا عميًا، وأخرج بدعوته خير أمة للناس، وأحيا بدعوته أمة بعد الممات.

أتطلبـون من المختار معجزة

يكفيه شعب من الأجداث أحياه

عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي الروح الذي إذا سرى في قلب العبد أحياه بعد موته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ).

أمةَ الإسلام: كان دعوة أبيه إبراهيم حين قال: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ).

وكان بشرى أخيه عيسى ابن مريم حيث قال: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ).

وكان رؤيا أمه حين رأت في المنام قبل ولادته نورًا يخرج منها أضاء قصور الشام كما ورد ذلك في مسند الإمام أحمد.

إنه النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي تسعد قلوبنا بذكره، وتتلذذ ألسنتا بعطر اسمه، جعله الله سراجًا منيرًا، استنارت به الأرض بعد ظلمتها، جمع الله به الأمة بعد شتاتها، واهتدت به البشرية بعد حيرتها، ومع بعثته ولدت الحياة وارتوت البشرية بعد الظمأ.

ولد الهدى فالكائنات ضياء

وفـم الـزمـان تبسـم وثنـاء

يا خير من جاء الوجود تحية

من مرسلين إلى الهدى بك جاؤوا

أنت الذي نظـم البرية دينه

مـاذا يقـول ويـنظم الشعراء

صلى الله عليك يا علم الهدى ما هبت النسائم، وما ناحت على الأيك الحمائم.

أمة الإسلام: لقد كانت ولادة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أعظم خير وبشارة وأكبر نعمة ومنَّة، إنه حدث جلل كان بدايةً لعصر جديد للبشرية، وتحول عميق في حياة الإنسانية، وصدق الله حيث قال: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ).

ولقد سأل النجاشي أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- حين هاجروا إلى الحبشة: ما هذا الدين الذي فارقتم به قومكم؟! فأجاب جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "أيها الملك: كنَّا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منَّا الضعيف، وكنَّا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منَّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله -عز وجل- لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنَّا نعبد وآباؤنا من دون الله من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وشهادة الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئًا وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة". أخرجه أحمد.

ما أجمل هذا الكلام الذي قاله جعفر!! وما أحسنه وهو يخاطب الملك النجاشي ويخبره بما كان عليهم حالهم في الجاهلية وما دعاهم إليه هذا النبي الكريم المبعوث بهذه الخصال الشريفة والأخلاق الحميدة والدين القيِّم.

نعم، لقد جاءهم رسول من أنفسهم أشرفهم نسبًا، وأكرمهم مجدًا، جاءهم ليطهركم من أرجاس الجاهلية وأنجاسها في العقيدة والأخلاق التي كانوا يغرقون فيها إلى آذانهم، فأخرجهم من تلك الظلمات الحالكة المدلهمة إلى نور الإيمان والوحي والعلم.

وكانوا في ضلال مبين، وأيُّ ضلالٍ أشد مما كانوا فيه من الضلالة؟! ضلال في العقيدة؛ حيث كان لكل قبيلة صنم، بل كان لكل بيت صنم وإله، وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا، وتدرجوا من عبادة الأصنام إلى عبادة الجن وعبادة الأحجار، أخرج البخاري عن أبي رجاء العطاردي قال: "كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرًا خيرًا منه ألقيناه وأخذنا الآخر".

أرأيت إلى هذه العقول الضالة كيف تفكر؟! وكيف تعتقد وكيف تصنع آلهتها؟! يعبدون ما ينحتون، حتى إذا خجلوا من أنفسهم قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ).

يتوارثون الكفر كابرًا عن كابر دون دليل من كتاب أو أثارة من علم أو حياءً من أنفسهم.

وضلال المجتمع حيث يأكل القوي الضعيف، ويظلم المقتدر من دونه، وكانوا يحرمون المرأة من أبسط حقوقها، وكانت لا ترث بل تورث كما يورث الأغنام والإبل، وتكون من بعد وفاة زوجها من نصيب أول من يضع ثوبه عليها.

وأشد من ذلك ما بلغته الجاهلية من كراهيتهم للبنات إلى حد دفنها حيَّة في التراب، ويصوِّر القرآن هذه المأساة ويقول: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ).

كانت تدور بينهم الحروب لأتفه الأسباب، لأجل امرأة أو ناقة أو فرس، فتستمر سنين طويلة، كانت عقولهم قد غابت، ناهيك عمَّا تنتشر بينهم من الأخلاق الفاسدة كانتشار البغاء واتخاذ الخليلات والأنكحة الباطلة التي لا يقرُّها عقل سوي وشرع حنيف، فأبطل نبي الإسلام ذلك الخبث كله، وأبدلهم بالنكاح الحلال المشروع، ونهى عن الفواحش: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً).

وكان من الظلم الاجتماعي والكبر الذي غرس في طباعهم أنهم كانوا إذا قتل فرد منهم لم ترضَ هذه القبيلة إلا أن يقتص من رئيس القبيلة أو يقتلوا بالواحد عشرًا وبالأنثى ذكرًا، فإن أُجيبوا إلى طلبهم وإلا أقاموا الحروب وسفكوا الدماء ظلمًا وعدوانًا، ما أعظمه من ظلم وما أقساه من جوار! فشرع الله القصاص الذي يحقق العدالة والحياة: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى)، (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون).

بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر.

أقول ما تسمعون...

الخطبة الثانية:

أيها المسلمون: لم تكن تلك الجاهليات المظلمة قاصرة على بلاد العرب، وإنما كانت في العالم كله، وفي بلدان تدعي الحضارة وهي تعبد النار أو الشجر والأبقار، وتسوم المرأة سوء العذاب، والكلمة فيها للقوي الظالم، وكان العالم يعيش ذلك التيه والضلال والجاهلية قرونًا حتى أذن الله لنوره أن يسطع ببعثة النبي الهادي خير الخلق أجمعين، فكانت بعثته حياة حقيقية بعد الموت الذي اكتنف البشرية، كانت بعثته منَّة لا تقوّم بمال الدنيا كلها، بعثه بالهدى ودين الحق ليضع الجنس البشري في مساره الصحيح، وليشفيه من أمراضه التي كادت أن تقضي عليه، وليطهر قلوب الأفراد والمجتمعات وعقولهم وأعراضهم وبواطنهم ويردهم إلى الصواب والصراط المستقيم، وكان ذلك في مدة لا تساوي في عمر الزمان شيئًا في ثلاثة وعشرين عامًا من عمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقريب منها في زمن خلفائه الراشدين فتغير وجه الحياة، واستقامت موازين الخلق وارتفعت أعلام الحق، وسرى الإسلام في قلوب الناس فأحياها كما تحيا الأرض الميتة بوابل المطر.

وقد كان هذا الكون قبل وصوله

شؤمـًا لظـالمـه وللمظـلوم

لـما أطـل محمـد زكت الربى

واخضر في البستان كلُ هشِيمِ

إن الذين كانوا يعبدون الأصنام قاموا بعد بعثته ليحطموها بأيديهم، واتخذوا من خشبها حطبًا لنارهم، والذين يشربون الخمر أراقوها في سكك المدينة وضواحيها بمحض إرادتهم، والذين كانوا يعشقون الحروب أصبحوا دعاة الإسلام.

والذين كانوا يعشقون المحرمات أصبحوا دعاة ورع، والذين كانوا يتعاطون الفواحش أصبحوا حراسًا على الفضيلة، والذين كانوا يتوارثون الجهل أصبحوا بناة حضارة وأساتذة العالم، والذين كانت الأنانية تقتلهم والطمع يستبد بهم والعدوان يستهويهم أصبحوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، والذين كانت تأخذهم العزة والكبرياء إذا سقط سوط أحدهم خرج من ظهر ناقته ليأخذه ولا يكلم أحدًا، والذين كانوا على شفا حفرة من النار أصبحوا بنعمة الله إخوانًا.

مَنْ الذي غيَّرهم؟! مَنْ الذي غسل عنهم أدران الوثنية وأوهام الشرك؟! مَنْ الذي جعلهم خلقًا آخر؟!

إنه دين الله رب العالمين الذي حمل لواءه سيد الخلق وحبيب الحق -صلى الله عليه وسلم-، فميلاد النبي -صلى الله عليه وسلم- هو في الحقيقة ميلاد أمة وانطلاق دعوة ورحمة مهداة، وإنشاء دولة ومبعث حضارة واعتلاء الحق وظهور دين الله على الدين كله ولو كره الكافرون.

فاحمدوا الله -أيها المسلمون- على نعمة الإسلام العظيمة، واستقيموا على هداه وتمسكوا بكتابه، واقتدوا برسوله، وناصروا ملَّته، واجعلوا الله والدار الآخرة نصبًا لأعينكم.

(وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

هذا؛ وصلوا وسلموا على من أكرمه ربه، وصلى عليه ملائكته...