البحث

عبارات مقترحة:

الشكور

كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...

الآخر

(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...

الجبار

الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...

الجهاد وأسباب النصر

العربية

المؤلف سعيد بن علي القحطاني
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات كتاب الجهاد
عناصر الخطبة
  1. معنى الجهاد .
  2. حكمه .
  3. مراتبه .
  4. أنواعه .
  5. فضل الرباط والجهاد والشهادة .
  6. أهداف الجهاد .
  7. أسباب النصر .
  8. هدي النبي الكريم في الجهاد. .

اقتباس

ثم بين -تبارك وتعالى- ترغيبا في الجهاد في سبيل الله فضل الشهادة في سبيل الله، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويزوج من الحور العين، ويأمَن الفزعَ الأكبر، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه" رواه الإمام أحمد والترمذي بإسناد صحيح.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

عباد الله: إن الله -تبارك وتعالى- خلق الإنسان، واشترى منه نفسه، تفضل عليه بأن أوجده في هذه الحياة، ثم هو يدفع الثمن -تبارك وتعالى- بشراء نفس الذي وهبها له، يقول -تبارك وتعالى-: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:111].

بين الله -عز وجل- أنه اشترى من المؤمنين أنفسهم، فهو فضل منه -تبارك وتعالى- أن أعطاهم هذه الأنفس ثم هو يشتريها -تبارك وتعالى- بهذه الجنة العظيمة، وقد أثبت الله -تبارك وتعالى- ذلك الوعد وذلك الشراء في التوراة والإنجيل والقرآن، (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ)؟.

ويقول الله -تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [الصف:10-12]

فهو فضل منه -تبارك وتعالى- أن اوجب القتال على الإنسان؛ والقتال أو الجهاد في سبيل الله -تعالى- له أهداف عظيمة، وهي أن يكون الدين كله لله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ)....

ولذلك؛ بين أهل العلم أحكام الجهاد في سبيل الله -تبارك وتعالى-، فالجهاد هو بذل الوسع والطاقة، وهو جهاد الكفار والمنافقين والظالمين والمعتدين والبغاة، يجاهَدون باليد، واللسان، والقلب، والأموال، وغير ذلك.

فحكمه أنه فرض كفاية؛ إذا قام به بعض الناس أو قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين.

ولكنه يتأكد ويكون فرض عين على كل إنسان مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله في ثلاث حالات:

الحالة الأولى: وهي إذا دهم العدو بلاد المسلمين، فحينئذ ليس لأحد أن يتخلف عن الجهاد في سبيل الله، ولا يستأذن من والديه الذين كان يستأذنهما حينما كان الجهاد فرض كفاية، أما حينما يدهم العباد والبلاد أو يكون على أطرافها فحينئذ يكون فرض عين على كل إنسان مسلم قادر على القتال في سبيل الله -عز وجل-.

الحالة الثانية: وهي إذا استنفر الإمام المسلمين، فإذا استنفر الحاكم المسلم العباد المسلمين بأن ينفروا خفافا وثقالا في سبيل الله ويقاتلوا بأموالهم وأنفسهم فحينئذ وجب على كل إنسان قادر أن ينفذ ويطيع ولي أمر المسلمين المسلم الذي يدعو إلى ذلك.

الحالة الثالثة: إذا التحم الصفان وتقابل الزحفان، وكان هذا الإنسان في الجبهة أو كان في القتال، فإنه حينئذ لا يجوز له أن ينصرف؛ بل عليه أن يثبت ويقاتل في سبيل الله -عز وجل-.

والجهاد فرض عين على كل إنسان مسلم على حسب حاله في هذه المراتب: الجهاد باليد، والجهاد باللسان، والجهاد بالمال، والجهاد بالقلب؛ هذا فرض عين على كل إنسان مسلم قادر على أن يقوم بمرتبة من هذه المراتب، فلا يعذر أحد في ترك شيء من هذه الأشياء الأربعة، يجاهد بيده أو بلسانه أو بقلبه أو بماله على حسب الحاجة، وعلى حسب حاجة المسلمين إليه، سواء كان بالمال أو باليد أو بالقلب أو غير ذلك.

والجهاد هو أربع مراتب كما ذكر ذلك أهل العلم وخاصة المحققون منهم، ذكروا بأنه أربع مراتب، لا يمكن للإنسان أن يحصل على قتال الكفار إلا بإكمال المراتب التي قبل قتاله.

المرتبة الأولى: جهاد النفس، يجاهد نفسه، فإذا انتصر عليها فحينئذ ينتصر على العدو الثاني، فإذا انتصر عليه انتصر على العدو الثالث.

وجهاد النفس يكون بأربعة أمور: يجاهد نفسه على تعلّم الدين والاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في أقواله وأفعاله وتصرفاته، ثم يجاهدها على العمل بما علم، ثم يجاهدها ثالثا على الدعوة إلى ما علم، ثم يجاهدها رابعا على الصبر على الأذى مما يصيبها في هذه الحياة الدنيا، هذه هي مراتب جهاد النفس.

فإن تغلب على نفسه فينتقل إلى المرتبة الثانية وهي جهاد الكفار؛ ولكنه لا يستطيع أن ينتقل إلى جهاد الكفار والمنافقين والظالمين إلا بعد أن يخمد وبعد أن يهلك العدو الثاني أو العدو الذي يثبت العدو الأول...

فإذا انتصر الإنسان على نفسه وأراد أن يجاهد الكفار والمنافقين وجد له عدوا آخر: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)، فيجاهد الشيطان بمرتبين: جهاد في درء الشبهات والشكوك وما يحصل في قلبه من الكفر بالله أو النفاق أو غير ذلك مما يورده الشيطان على القلب، والمرتبة الثانية: وهو يجاهده على ترك الشهوات كالزنا والخمر والمحرمات وغير ذلك مما حرم الله -عز وجل-.

فإذا انتصر على العدو الثاني تغلب وصارت عنده قوة عظيمة بجهاد العدو الثالث وهم الكفار والمنافقون، وهؤلاء جهادهم بأربعة أشياء كما سمعتم: بالقلب واللسان واليد والمال، وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.

ثم ينتقل إلى عدو خامس وهم الظالمون والمعتدون والمبتدعون وغير ذلك، فيجاهدهم بثلاث مراتب: بيده، فإن لم يستطع ذلك فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.

وهذه ثلاث عشرة مرتبة من حصل عليها فقد حصل على أنواع الجهاد.

وأكمل الناس في هذه المراتب هو محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد جاهد وقد فاز وقد انتصر بهذه المراتب على نفسه وعلى الشيطان وعلى الظالمين والمنافقين والمعتدين، وحينئذ نصره الله -عز وجل- وأعز به المسلمين، وكان ذكره خالدا إلى قيام الساعة في كل يوم وليلة صلوات الله وسلامه عليه.

وربنا -تبارك وتعالى- حث الناس على الجهاد في سبيل الله -عز وجل-، والجهاد في سبيل الله يكون لإعلاء كلمة الله، الجهاد الذي للوطنية أو للحمية أو للقبيلة فهذا ليس بجهاد ولكن الجهاد هو الذي يكون لإعلاء كلمة الله -تبارك وتعالى- والحفاظ على دينه والحفاظ على ما يحبه -تبارك وتعالى- ودفع ما يبغضه -تبارك وتعالى-...

لقد رغب الله في الرباط في سبيل الله -عز وجل-، والرباط هو أن يكون المجاهدون في سبيل الله على ثغور البلاد أو ثغور الإسلام أي في الجبهات.

ولذلك بين النبي -صلى الله عليه وسلم- فضل الرباط في سبيل الله، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "رباطُ يومٍ وليلةٍ في سبيل الله خيرٌ من صيام شهر وقيامه، وإذا مات أجري عليه عمله ورزقه، وأمن الفتان" أي فتنة القبر. رواه مسلم.

ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم خير من الدنيا وما عليها، ورَوْحَةٌ في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها" رواه البخاري. هذا فضل عظيم!.

وكذلك بين النبي -عليه الصلاة والسلام- فضل الحرس والمراقبين للأعداء، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله"، أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه.

وبين الله -عز وجل- على لسان نبيه -عليه الصلاة والسلام- فضل الجهاد في سبيل الله في أحاديثَ كثيرةٍ، منها: "إن في الجنة مائة درجةٍ، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله". خصص الله هذه المرتبة العظيمة، وخصص الله هذه الدرجات للمجاهدين في سبيل الله، الذين يرجون وجه الله، ويرجون ما عنده -تبارك وتعالى-.

ثم بين -تبارك وتعالى- ترغيبا في الجهاد في سبيل الله فضل الشهادة في سبيل الله، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويزوج من الحور العين، ويأمن الفزعَ الأكبر، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه" رواه الإمام أحمد والترمذي بإسناد صحيح.

فضلٌ عظيم! لو لم يحصل إلا على مرتبة من هذه لكان فوزا عظيما في الدنيا والآخرة؛ ولذلك يقول النبي -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه مسلم في صحيحه: "أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة في العرش". هذا فضل عظيم للمجاهد في سبيل الله، وفضل عظيم لمن جاهد في سبيل الله لا يرجو إلا وجه الله -عز وجل-.

ولذلك ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال...: "من سأل الله الشهادة بصدق من قلبه بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه"، هذا فضلٌ منه -تبارك وتعالى-... فالمسلم عليه أن يرغب فيما عند الله -تبارك وتعالى- وفي الشهادة في سبيله وفي هذا الثواب العظيم.

وينبغي أن يعلم أن القتال له أهداف ثلاثة:

الهدف الأول: الدعوة إلى الله -عز وجل- وتطهير الأرض من الذين يصدون عن دعوة الله -تبارك وتعالى-، وحينئذ يُدعَون إلى ثلاث خصال إن كانوا من الكفار أو كانوا من أهل الكتاب أو المجوس، يدعون إلى ثلاث قبل القتال: يدعون إلى الإسلام، فإن أبَوا فيدعون إلى الجزية، إلى بذل الجزية إلى المسلمين وهم صاغرون، ويدعون إلى الهجرة، فإن هاجروا وإلا يدعون إلى المرتبة الثالثة، فإن أبوا الإسلام وأبوا الجزية حينئذ يقاتلون، وهذا هو هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا هو الأمر الأول.

الأمر الثاني: قتال البغاة الذين يعتدون على المسلمين، كما قال الله -عز وجل- (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) [الحجرات:9].

أي: إذا اعتدى أحد على بعض المسلمين أو بعض الجماعات الإسلامية أو غير ذلك من المسلمين فحينئذ على المسلمين أن يدعوهم إلى الصلح ويدعوهم كذلك إلى الأحكام الشرعية، فإن أطاعوا ذلك ووافقوا على ذلك فإن ربنا -تبارك وتعالى- قال: (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ)، وقتالهم يكون في سبيل الله؛ لأن الله -تبارك وتعالى- أمر به.

نوع ثالث: وهو الدفاع عن النفس والمال والعرض والدين والأهل، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لرجل جاء يسأله قال: يا رسول الله، الرجل يريد أن يأخذ مالي؟ قال: "لا تعطه مالك"، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتِلْهُ"، قال: فإن قتلتُه؟ قال: "هو في النار"، قال: إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد" رواه مسلم.

ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما ثبت عنه: "مَن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد".

فهذه أنواع القتال أو أهداف القتال في سبيل الله -تبارك وتعالى-، فالمسلم عليه أن يتقي الله -تبارك وتعالى- ويرجو ما عند الله حتى يفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة.

أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحفظ علينا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأن يوفق جميع المسلمين لما يحبه ويرضاه، وأن يرد كيد الكائدين في نحورهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين المعتدين، والعاقبة للمتقين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون: إن النصر من الله -تبارك وتعالى-، والجهاد في سبيل الله لا يفوز فيه المسلمون ولا ينتصرون على أعدائهم إلا إذا قاموا بأسباب النصر وعوامل النصر التي بينها الله -عز وجل- في كتابه، وبينها النبي -عليه الصلاة والسلام-، فلا نصر ولا فلاح ولا فوز ولا نجاح للمسلمين الذين يقاتلون ويقولون إنهم يقاتلون في سبيل الله إلا بأسباب النصر التي بينها الله -عز وجل- في كتابه وبينها النبي صلوات ربي وسلامه عليه.

فأول هذه الأسباب: الإيمان بالله -تبارك وتعالى-؛ ولذلكم بيّن الله -عز وجل- أن النصر والدفاع يكون للمؤمنين، يقول الله -عز وجل-: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر:51-52]، ويقول الله -عز وجل-: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم:47]، كان حقا على الله أن ينصر المؤمنين.

السبب الثاني: نصرة دين الله -عز وجل-، ينصر الإنسان دين الله -تبارك وتعالى- بامتثال الأوامر والابتعاد عن المحرمات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بالصلاة والزكاة وغير ذلك مما أوجب الله -تبارك وتعالى-.

ولذلكم بين الله -عز وجل- أنه ينصر من ينصره، يقول الله -تعالى-: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:40]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7].

فإذا نصروا الله -عز وجل- بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمحافظة على الواجبات والابتعاد عن المحرمات، وقاموا بغير ذلك مما أوجبه الله -عز وجل-، والحكم بما أنزل الله في عباد الله -عز وجل-، نصرهم الله، ونصر العباد المؤمنين لأنهم نصروا الله -تبارك وتعالى-.

كذلك يقول الله -عز وجل- في هذا الأمر كما سمعتم أنه يدافع عن الذين آمنوا: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا)، وهذا يرجع إلى الدفاع عن المؤمنين ونصرة المؤمنين.

السبب الثالث: التوكل على الله -عز وجل-، يتوكل على الله: (وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [المائدة:23].

وأعظم الناس توكلا هم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، والتوكل يقوم على ركنين عظيمين إذا سقط ركن لا يكون هناك توكل على الله.

الركن الأول: الاعتماد على الله، والرغبة فيما عنده -تبارك وتعالى- من الخير العظيم، والثقة في وعده ونصره، هذا الأمر الأول.

الأمر الثاني: الذي يساند هذا هو أن يعد القوة ويأخذ بالأسباب ،كما قال -سبحانه-: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ)، هذا الأمر الثاني في التوكل.

ولذلكم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أعظم الناس توكلا، حينما دعي -صلوات الله وسلامه عليه- بعد معركة أحد إلى القتال وأرسل له أبو سفيان ليلتقي به أرسل له بأن الناس قد جمعوا لكم فحينئذ أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- من خرج ومن جرح في المعركة أن يخرجوا وحدهم، وأمرهم ألا يُخرجوا أحداً ممن لم يحضر معركة أُحُد، ولذلكم حينما بلغه هذا قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل!"، ولذلكم قال الله -عز وجل-: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) [آل عمران:173-174]. فحينئذ قال ابن عباس "حسبنا الله ونعم الوكيل!".

قالها إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- حينما ألقي في النار، وقالها النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- حينما قيل له إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم؛ فالتوكل على الله -عز وجل- لا بد أن يكون بثقة في الله، وبالأسباب.

السبب الرابع:  وهو الشورى بين المسلمين، وخاصةً مع القادة المصلحين، عليهم أن يتشاوروا؛ لأن قدوتهم في هذا محمدا -صلى الله عليه وسلم- كان يستشير الناس قبل القتال -صلوات الله وسلامه عليه-؛ ولذلك أمره ربه -عز وجل- بذلك: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران:159].

فإذا عزمت فتوكل على الله، فحينئذ يشاور المسلمون بعضهم بعضا، ولا يستبد كل إنسان برأيه فإن النبي -عليه الصلاة والسلام- هو قدوتنا وهو إمامنا -صلوات الله وسلامه عليه-، هذا سبب خامس.

أسباب ستة أخرى جمعها الله -تبارك وتعالى- في آية واحدة أو آيتين، يقول الله -عز وجل- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:45-46]...

السبب السادس في هذه الأسباب وهو الأول في هذه الآية هو الثبات في القتال في سبيل الله، كما ثبت محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فقد كان -عليه الصلاة والسلام- يثبت وكان أشجع خلق الله -صلوات الله وسلامه عليه-؛ ولذلكم ثبت في معاركه كلها...

يقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "كنا إذا حمي الوطيس يتقي الرجل الشجاع منا بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، يثبت في سبيل الله -عز وجل-".

وكذلك في معركة حُنين، ثبت -صلوات الله وسلامه عليه- وانهزم الناس وبقي هو وحده، وكان ينادي العباس: يا عباس! يا عباس! ناد الناس، أو كما قال -صلوات الله وسلامه عليه- وهو يقول: "أنا النبي لا كَذِب، أنا ابن عبد المطلب".

ثم نزل من على بغلته وأخذ كفا من تراب ثم رمى به القوم فقال: "شاهت الوجوه"، قال الراوي: "والله ما ترك الله واحدا منهم إلا وملأ عينيه من هذا التراب!" أو كما قال -رضي الله عنه-.

فعل ذلك في بدر، وفعل ذلك في حنين، وكان -عليه الصلاة والسلام- في حنين يقاتل على بغلة، قال بعض أهل العلم، "هذا من قبيل الشجاعة لأنه يقاتل على بغلة حتى لا تفر"، لأن الذي يقاتل على خيل ربما يقر ويفر، أما النبي -صلى الله عليه وسلم- فاختار البغلة -صلوات الله وسلامه عليه- حتى يثبت، لأنه واثق بوعد الله -عز وجل-.

قال (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا)، هذا سبب سابع، أنهم يذكرون الله -عز وجل-، قلوبهم معلقة بالله، يدعون الله -عز وجل- أن ينصرهم وقلوبهم دائما تلهج بذكر الله -عز وجل- وألسنتهم كذلك.

ولذلكم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو الله في معاركه، كان يقول -صلوات الله وسلامه عليه-: " اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، مُجْرِيَ السَّحَابِ، هَازِمَ الأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ".

وكان -صلوات الله وسلامه عليه- يقول: "اللهم أنت عضدي وبك أحول" أي ما يتحول ولا يحتال في القتال إلا لأجل الله -عز وجل-، "بك أحول وبك أصول وبك أقاتل"، يستعين بالله -عز وجل-.

وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول إذا خاف قوما: "اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم"، فكان -صلوات الله وسلامه عليه- يدعو الله وقلبه معلق بالله، ليس معلقا بالقوة وإن أعدها -صلوات الله وسلامه عليه-.

في يوم بدر استقبل القبلة وأخذ يدعو الله -عز وجل- ويستغيث الله -عز وجل- حتى سقط رداؤه من على منكبيه، وكان أبو بكر يقول: يا رسول الله، استجاب الله لك، أو كما قال -رضي الله عنه-، يطمئن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم انطلق النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "سيهزم الجمع ويولون الدبر"، ثم قاتل صلوات الله وسلامه عليه.

فالدعاء مطلوب، الإنسان الذي يعرض عن طاعة الله أو يصطحب ما حرم الله أو يتلبس بما حرمه الله -عز وجل- ويترك بعض الواجبات أو يتركها كلها فهذا إنسان قد تخلى عن أسباب النصر، وحينئذ تكون الغلبة لمن سلاحه أقوى.

أما المؤمن المسلم فتكون الغلبة له بإذن الله -عز وجل-، ولذلكم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقاتل في بدر بثلاثمائة وسبعة عشر أو أقل أو أكثر بقليل، كان يقاتل ألف فارس من الشجعان الأبطال الذين كانوا على الشرك بالله -عز وجل-، ولكن انتصر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوة الله -عز وجل-: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال:9]، فأمده الله -عز وجل- بالملائكة.

وكان الصحابة يقولون لبعضهم إني أرى الرجل في معركة بدر رأسه يسقط قبل أن أضربه بالسيف، فأخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال: إن هذا من الملائكة، وكان جبريل يقاتل، وسمع صوته يقول: "أقدم خيزوم، نصر من الله يتنزل على المؤمنين، وعلى من قام على طاعة الله -عز وجل- حتى قيام الساعة".

فالمسلم عليه أن يدعو الله -عز وجل-، ويستعين بالله، ويسأل الله أن ينصر المسلمين، هذا أمر.

سبب ثامن: (وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ) [الأنفال:45-46]، يتفقد الجيش ويتفقد المقاتلون والمجاهدون أنفسهم وأعمالهم: هل هي مخالفة لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ هل عندهم مخالفة؟.

ولذلكم يروى أن بعض الصحابة أرسل لجيشه حينما لم يغلبوا أعداءهم أن انظروا إلى أنفسكم فنظروا إلى أنفسهم فوجدوا أنهم قد أطاعوا الله وأطاعوا النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال بعضهم: بلى قد تركتم سنة من سنن النبي -عليه الصلاة والسلام-، قالوا: وما هي؟ قال: تركتم السواك، وهو سنة من سنن النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولعل هذا في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، حينئذ انطلقوا إلى الأشجار وأخذ كل منهم عصا مسواك يستاك بها، فرأى الأعداء ذلك فقالوا المسلمين جنوا وهم أكلوا الأشجار وسيأكلوننا الآن، فحيئنذ أنزل الله الرعب في قلوبهم بإقامة سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

(وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ)، ثم قال: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:46] النزاع والخلاف ينبغي ألا يكون بين المسلمين، فإنهم حينئذ إذا تنازعوا ولم يجتمع رأيهم فسيفشلون وينهزمون؛ ولذلك قال (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)، فحينئذ تذهب قوتكم إذا تنازعتم.

وحينئذ قال في السبب العاشر: (وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، يصبر الإنسان المسلم في قتاله، يرجو ثواب الله، ويرغب فيما عند الله -تبارك وتعالى-.

السبب الحادي عشر هو الرغبة فيما عند الله -عز وجل-، يرغب الإنسان فيما عند الله، لا يرغب في الأهل ولا في المال، بل عليه أن يحمد الله -عز وجل- ولا يضعف، بل عليه أن يقاتل، ولا يمكن نفسه من الأعداء؛ بل عليه أن يقاتل لله، ابتغاء ما عند الله -تبارك وتعالى-.

ولذلكم كان أنس بن النضير قد تخلف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في بدر، فقال: "أول مشهد تخلفت عنه مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع!" حينئذ صدق الله فصدقه، حضر في معركة أحد وهو يقاتل في سبيل الله وقال: "يا أبا عمرو -وهو سعد بن معاذ- إني لأجد ريح الجنة من دون أُحُدٍ ورب الكعبة!"، أو كما قال -رضي الله عنه-، فانطلق وقاتل في سبيل الله حتى قتل.

كان بين المشركين يقتل هذا ويطعن هذا حتى قتل، قالت أخته -رضي الله عنها-: فوجدناه قد أصابه ثمانون ما بين ضربة ورمية وطعنة، فحينئذ لم يعرف إلا ببنانه -رضي الله عنه-...

سمع عُميرٌ النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض"، فقال رضي الله عنه: "بخٍ بخٍ! جنة عرضها السماوات والأرض؟!"، فسأله النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما يحملك على قولك بخ بخ ؟"، فقال يا رسول الله إني أرجو الله أن أكون منهم، فقال -صلى الله عليه وسلم- "أنت منهم"، فحينئذ أخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: "لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة"، ثم رمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل.

فالرغبة فيما عند الله -عز وجل- هي من أسباب النصر على الأعداء؛ لأن الإنسان حينما يرغب فيما عند الله -عز وجل- يبيع نفسه ولا يجبن ولا يتراجع عن القتال؛ بل يقاتل، لأنه يعلم أن الموت مهما حصل لا يأتيه إلا في الوقت الذي حدده الله له.

ولذلكم؛ كم من الناس طلب الشهادة في سبيل الله ولم يحصل عليها! خالد بن الوليد -رضي الله عنه- قاتل في عدة معارك ولكنه لم يرزق الشهادة في القتال؛ ولكن نسأل الله -عز وجل- أن يجعله من الشهداء، فإنه قد نوى ذلك، وقد سأل الله -تبارك وتعالى- ذلك، فالمسلم عليه أن يثق فيما عند الله -عز وجل-، يرجو ثواب الله، ويطمع فيما عنده، حتى يفوز ويسعد في الدنيا والآخرة.

أسأل الله -عز وجل- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضى، نسأله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا الشهادة في سبيله بعد عمر طويل معمور بطاعة الله، معمور بطاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وصلوا وسلموا على خير خلق الله، نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه.