القدوس
كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...
العربية
المؤلف | ياسر الطريقي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
محبةٌ وصفاء, مودةٌ وإخاء, درجةٌ رفيعة, ومنزلةٌ عالية, لا يمكنُ تحقيقُها إلا بسلامةِ الصدرِ وتنقيةِ السريرة, وصلاحِ السيرة. هذه أركان الأخلاق الجامعة, فكل صفة حسنة, وفعل حسن, وكلمة حسنة, فرع عن هذه الأربعة, فاستمسك بها, وعُضَّ عليها بالنواجذ, واستعن عليها بالدعاء, وقل كما...
إن الحمد لله, نحمده, ونستعينه, ونستغفره, ونعوذ بالله, من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مُضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, أعظمُ الخلق خُلقاً, وأصدقُهم مقالاً, وأحسنُهم فعالاً, صلى الله عليه, وعلى آله, وصحبه, والتابعين.
أما بعد:
عبادَ الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله, فمن اتقى الله وقاه, وهداهُ إلى أحسنِ الأخلاقِ واصطفاه: "اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ".
أيها المؤمنون: للأخلاقِ الكريمةِ الفاضلة, والخصالِ الشريفةِ السامية؛ مكانةٌ عاليةٌ في الإسلام, وكتابُ الله تعالى يدعوا إلى كلِ خُلقٍ كريم, وينهى عن كلِ فاحشٍ ذميم, قال تعالى في وصف أخلاق المتقين: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134].
وقال تعالى آمراً نبيَه صلى الله عليه وسلم: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ )[الأعراف: 199].
وقال تعالى: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) [النحل: 127].
وقال سبحانه: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[الشعراء: 215].
وأوصى سبحانه عبادَه، فقال: (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[الأنعام: 151].
ويقررُ سبحانه مبدأَ محاسنِ الأخلاقِ القولية بقوله: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)[البقرة: 83].
ويؤصلُ مبدأَ محاسنِ الأخلاقِ الفعلية بقوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) [المؤمنون: 96].
وبقوله: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[فصلت: 34].
والمثلُ الأعلى في كلِ خُلقٍ كريم, وفي كل وصَفٍ حميدٍ عظيم سيدُ البشر, نبيُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم القدوةٌ الإمام, أخلاقُه كانت عُنواناً لدعوتِه, وبرهاناً على نبوتِه, وتبياناً لصدق رسالتِه, عظيمُ الخُلُقِ قبل بعثتِه, وبعد بعثتِه, لقبه المشركون بالصادقِ الأمين, وشهد له الله في كتابِه الكريم, بل أقسم سبحانَه, فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4].
ولما سُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ خُلُقِه قالت: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ" وقال كما في المسند من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ بإسناد حسن: "إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ".
بين فضلَ حُسنِ الخلق, وحثَّ على مكارمِ الأخلاق, وكان يقول كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو: "إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا".
فالأخلاقُ أساسٌ من أُسُسِ كمالِ الإيمان, ومظهرٌ من مظاهرِ الإسلام.
ومن اتصف في الدنيا من المؤمنين بمحاسنِ الأخلاق, وتَمَثَّلَ بكريمِ السجايا والصفات, رافقَ النبيَّ صلى الله عيه وسلم في الآخرةِ, وقَرُبَ من مجلسِه, كما في الترمذي بإسنادٍ حسنٍ من حديث جابرٍ رضي الله عنه: "إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقاً, وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيْهِقُونَ".
وفي سنن أبي داود والترمذي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ".
وفي حديث أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه عند أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا, وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا, وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ".
عبادَ الله: الأخلاقُ شأنُها عظيمٌ, تصلحُ بها أمورُ الخلق, ويصفو العيش.
وإنما الأمم الأخلاقُ ما بقيت | فإن تولت مضوا في إثرها قُدما |
والحديثُ عن الأخلاقِ يطولُ ويتسع, وحصرُ ما وردَ فيها من السنةِ في هذا المقامِ يتعذرُ ويمتنع, وحَسبُكَ من القِلادَةِ ما أحاطَ بالعُنُق, فدونَك أحاديثُ أربعةٌ جامعة, مَرَدُّ ما وردَ في السُنةِ إليها كما ذَكر بعضُ أهلِ العلم.
الأول: حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ".
الثاني: حديثُ علي بن الحسين رضي الله عنه عند مالك في موطئه مرسلاً: "مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ".
الثالث: حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَوْصِنِي, قَالَ: "لَا تَغْضَبْ" فَرَدَّدَ مِرَارًا, قَالَ: لَا تَغْضَبْ".
الرابع: حديثُ أنسٍ رضي الله عنه في الصحيحين: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ".
ومن تأملَّ هذهِ الأحاديث وَجَدَ أنَّ كلَّ حديثٍ منها يُمَثِّلُ رُكْناً من أركانِ الأخلاق, وذلك أن الأخلاقَ تقوم على أربعةِ أركانٍ مُجملة:
الركنُ الأول: صيانةُ اللسانِ وحفظُهُ من النطقِ بالشرِ والقبيح, وكُلِّ ما لا فائدةَ مِنْهُ، وذلك قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ".
فعلى المسلم أن يتفكرَ فيما سيتكلمُ به قبلَ أن ينطق؛ فإن كان خيراً واضحاً تكلم به, وإن كان شراً أو قبيحاً كالشتم, والغيبة, والنميمة, والاستهزاء, والسخرية, والكذب, والبهتان ونحوها, حَبَسَ لسانَه وصانَه, وإن كان شيئاً لم يتبين أمرُه أخيرٌ أم شر, فليمسك عنه استبراءً لدينه وخُلقه.
وصيانةُ اللسانِ من التقوى, قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ) [الأحزاب:70].
الركنُ الثاني: تَرْكُ الفُضُول, فمن ذَمِيمِ الأخلاق أن يُقْحِمَ المرءُ نفسَه, ويحشرَ أنفَه فيما لا يعنيه, والفضولُ يجر إلى سوءِ الأدب, والفُضُولي مذمومٌ عند الناس؛ لأنه يتطلعُ إلى معرفةِ كلِّ شيءٍ حولَه, ولو كان خاصاً بغيره, وهذا هو قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه: "مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ".
الركنُ الثالث: تَجَنُبُ الغضبِ, وعدمُ الانسياقِ مع انفعلاتِ النفس؛ لأن الغضبَ جماعُ الشر, ولو فعلَ الإنسانُ ما تمليه عليه نفسُه عند الغضبِ لوقعَ في أسوأِ الأخلاق, وأقبحِ الفعال من السبابِ واللعان, والبطش, والبغي, والجور, وغيرِ ذلك.
فكان على المسلم أن يتجنبَ أسبابَ الغضب, وهذه وصيةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : "لَا تَغْضَبْ".
وقد حثَّ النبيُ صلى الله عليه وسلم إلى تغيير الحالةِ والهيئةِ التي يكونُ عليها الغضبان؛ ليزولَ الغضبُ, وتنطفئَ نارُه؛ كما عند أبي داود من حديث أبي ذر رضي الله عنه: "إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ".
وأَمَرَ الغاضبَ بالسكوتِ, والامتناعِ عن الكلامِ حالَ الغضب كما في المسند من حديث ابن عباس: "عَلِّمُوا, وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا, وَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ".
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله على إحسانِه, والشكرُ له على توفيقِه وامتنانِه, وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شريك له تعظيماً لشأنه, وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه صلى الله عليه, وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً.
أما بعد:
أيها المؤمنون: الركنُ الرابع: من أركان الأخلاقِ الفاضلةِ, والصفاتِ السامية سلامةُ الصدرِ من الغلِ والحقدِ والحسد: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) [الحشر: 10].
وهذا هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ".
محبةٌ وصفاء, مودةٌ وإخاء, درجةٌ رفيعة, ومنزلةٌ عالية, لا يمكنُ تحقيقُها إلا بسلامةِ الصدرِ وتنقيةِ السريرة, وصلاحِ السيرة.
هذه أركان الأخلاق الجامعة, فكل صفة حسنة, وفعل حسن, وكلمة حسنة, فرع عن هذه الأربعة, فاستمسك بها, وعُضَّ عليها بالنواجذ, واستعن عليها بالدعاء, وقل كما في الصحيح: "وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ".
فإذ رُزقت خليقةً محمودةً | فقد اصطفاك مُقَسِّمُ الأرزاقِ |
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, وارْضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين, وعن سائرِ أصحابِ نبيك أجمعين, وعنا معهم بفضلك وإحسانك وجودك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعز الإسلامَ والمسلمين, وأذلَ الشرك والمشركين, ودمر أعدائَك أعداءَ الدين من اليهود والنصارى والرافضةِ والعلمانيين.
اللهم انصر عبادَك الموحدين في الشام وفي كل مكان.
اللهم انصرهم نصراً مؤزراً, على عدوك وعدوهم.
اللهم ولي عليهم خيارهم, واكفهم شر أشرارهم.
اللهم وأصلح إمامنا, وولي أمرنا, وارزقه البطانةَ الصالحة التي تعينه على الحق, وتدله إليه.
اللهم آت نفوسنا تقوها, وزكها أنت خير من زكاها, أنت وليها ومولاها.
اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا كرباً إلا نفسته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا غائباً إلا رددته يا حي يا قيوم
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت, واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار, ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان, ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا, ربنا إنك رؤوف رحيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.