الغفار
كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...
العربية
المؤلف | علاء الخليدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
إنه "الصدق" يا عباد الله، خُلق الصدق الذي تخلى عنه كثير من الناس في هذا الزمان واستبدلوا به الكذب ولا حول ولا قوة إلا بالله -عز وجل-، فالصدق هو سيف الله في أرضه الذي ما وُضع على شيء إلا قطعه، وما واجه باطلاً إلا أرداه وصرعه. الصدق من صال به -يا عباد الله- لا تُرد صولته، الصدق من نطق به -يا عباد الله- علت على الخصوم كلمته، ما نجا من نجا إلا بالصدق وما هلك من هلك إلا بالكذب.
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من سيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في سبيل ربه حق الجهاد، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واهتدى بهداه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اعلموا ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين..
فلنتق الله جميعا حق التقوى، ولنعلم يا عباد الله أن هذه الأجساد النحيفة الضعيفة على نار الله -جل وعلا- لا تقوى والله لا تقوى لا تقوى (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) [الطلاق:5].
عن ماذا تظنون أني سأحدثكم يا أيها المباركون؟ عن موضوع -يا عباد الله- عز وقل في الناس، رغم أنها صفة محمودة اتصف بها رب الجلال -سبحانه تبارك وتعالى-، بل لقب بها -صلى الله عليه وسلم- وهو في أوساط المسلمين يكرهونه ويسبونه ويؤذونه -صلى الله عليه وسلم- لكن هذه الخصلة فيه -صلى الله عليه وسلم- وشهد الكافرون أنها فيه ورغم عدائهم وكرههم للمصطفى -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه وسلم.
إنه "الصدق" يا عباد الله، خُلق الصدق الذي تخلى عنه كثير من الناس في هذا الزمان واستبدلوا به الكذب ولا حول ولا قوة إلا بالله -عز وجل-، فالصدق هو سيف الله في أرضه الذي ما وُضع على شيء إلا قطعه، وما واجه باطلاً إلا أرداه وصرعه.
الصدق من صال به -يا عباد الله- لا تُرد صولته، الصدق من نطق به -يا عباد الله- علت على الخصوم كلمته، ما نجا من نجا إلا بالصدق وما هلك من هلك إلا بالكذب.
اتصف الله -جل جلاله- فقال (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا) (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً)، ويأمرنا -جل وعلا- من فوق سبع سماوات أن نكون من الصادقين إن كنا حقا يا عباد الله مؤمنين، يقول الرب سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119]، وقال (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ)، وقال -جل وعلا- (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحجرات:15]. جهاد وإيمان وعدم شك بذي العز والجلال تكون بإذن الله من الصادقين.
الصدق -يا عباد الله- يدخل أهله الجنة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه الذي قال عبد الله بن مسعود فيما يرويه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال الرسول: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا".
إذا سُئل عنك في السماء قالوا عنك ماذا؟ الصادق! ألا تحب هذا الشرف وهذه الصفة تتصف بها عند الله وعند الملأ الأعلى إلى أن تلقاه، قالوا من الصادق فلان بن فلان، أما إذا أتيت بضده والذي ينافيه هو الكذب، قيل الكذاب وقيل الكذوب توصف عند الله وعند الملأ الأعلى ماذا؟ بالكاذبين.
أما الصدق عند الله نجاة ينجيك من المهالك، اسمعوا لروعة هذه القصة.
كان -رضي الله عنه وأرضاه- عمر بن الخطاب الفاروق ذات مرة جالسًا مع أصحابه الكرام إذ يرى شابين يقبلان من بعيد يجران بينهما أعرابي بتلابيبه فرفع -رضي الله عنه وأرضاه- عمر رأسه فقال للشابين: سبحان الله! ما هذا ما الذي تفعلانه بهذا الرجل الأعرابي؟ قالوا: يا عمر إن هذا الرجل قتل أبانا، فالتفت عمر إلى الرجل يتأكد: أحقًّا ما يقوله هذين الشابين؟ قال نعم يا أمير المؤمنين، إن أباهم دخل على أرضي بجمله متعديًا عليّ ظالما فنهرته عدة مرات وكرات، لكنه رفض يا أمير المؤمنين، فأخذت حجرًا وضربت بها رأسه فشج، ثم مات من ساعته.
قال عمر العادل: القصاص يا أخ العرب، قال الرجل: القصاص، لكن يا أمير المؤمنين أمهلني ليلة أو ليلتين أو ثلاث، أذهب بها إلى الصحراء، والله إني تركت زوجتي وأولادي يتضورون جوعا ولا عائل لهم يا أمير المؤمنين إلا الله -عز وجل- ثم أنا.
فالتفت عمر إلى الصحابة قال: من يكفل هذا القاتل ثلاث ليال إلى أهله، ثم يعود ثم نظر إلى الصحابة ذلك الرجل فما كفله أحد ثم نظره الثانية فما كفله أحد، فالتفت عمر إلى الشابين ألا عفوتما عفا الله عنكما؟ قالا القصاص ولا يضيع دم أبانا يا عمر هدر، ثم التفت ذلك المسكين إلى الناس فإذا برجل همام أقوى قوة من الجبال أبا ذر الغفاري قال أنا أكفله والله حسبي وحسبه.
التفت عمر متعجبًا قال: أتدري على ما ستكفله يا أبا ذر؟ قال نعم، قال والله ما رأيت في وجهه إلا صدقًا وحسبي وحسبه الله، قال: أتظن أن الرجل إذا لم يأتِ بعد ثلاث ليال سنتركك يا أبا ذر؟ قال: الله كفيلي وكفيله.
قال للرجل اذهب وقال قبل أن تغيب شمس اليوم الثالث تكون موجود في ساحة القصاص، قال نعم.
فمر اليوم الأول لم يأتِ الرجل، ومر الرجل الثاني لم يأتِ الرجل، ومر اليوم الثالث لم يأت الرجل، وقبل غروب الشمس بدقائق اجتمع الناس وجاء الحشد للقصاص، قال عمر يا أبا ذر أين الرجل؟ قال الله أعلم يا أمير المؤمنين ها أنا ذا إن لم يأتِ، قال الثانية أين الرجل ستُقتل؟ قال إذا أراد الله فماذا نقل.
ثم غاب قرص الشمس كاملاً، وكاد سيف القصاص يقتص من أبا ذر، فإذا برجل مشمرا ثوبه من بعيد يجري ها أنا يا أمير المؤمنين، ها أنا يا أمير المؤمنين، والله ما أخّرني إلا الصحاري وطول المسافات.
فوقف الرجل لما رآه عمر لم يتمالك نفسه وأرسل دمعه -رضي الله عنه وأرضاه-، قال عمر للأعرابي: ما الذي جاء بك وأنت تعلم أنك لن تعود لأولاك بعد هذه اللحظة إلا ميتا ولو لم تأت والله ما بحثنا عنك وما درينا عنك؟ قال الرجل: والله ما همني عمر وما همني الناس، ولكن هممت رب الناس سبحانه وتعالى، إني صادق ولن يضيعني الله يا أمير المؤمنين.
ثم أرسلها عبرات قال: جئتك يا أمير المؤمنين من الصحراء تاركا أولادي كفراخ الطير يتضاغون ليس له عائل إلا الله -سبحانه تبارك وتعالى- وجئت إليك كي ينفذ فيَّ حكم القصاص.
فتحدر الدمع من عيون عمر -رضي الله عنه وأرضاه- وعلا المكان الصمت وما تكلم أحد، وأرسل الكلام يا عباد الله إلى هذين الشابين ثم نظر عمر وقال: ألا بعد هذا الأمر تعفوان عفا الله عنكم.
نظر الشابين إلى الرجل فقالا: اذهب عفا الله عنك، عفا الله عنك.
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ..) [الأحزاب: 23- 24]، اصدق ولا تخشى إلا الله.
يقول الصديق -رضي الله عنه وأرضاه-: "الصدق أمانة والكذب خيانة".
ويقول أكثم بن صيفي "الصدق منجاة والكذب مهواة".
ويقول قائل: "الصدق في أقوالنا أقوالنا، والكذب في أفعالنا أفعالنا".
يقول أحدهم:
عليك بالصدق ولو أنه | أحرقك الصدق بنار الوعيد |
وابغِ رضا المولى فأغبى الورى | من أسخط المولى وأرضى العبيد |
ألا يا عباد الله يقول المطيبة الأفواه بذكره -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "تحروا الصدق وإن رأيتم أن فيه الهلكة، فإن فيه النجاة، وتجنبوا الكذب وإن رأيتم أن فيه النجاة فإن فيه الهلكة".
الصدق أفضل شيء أنت فاعله | لا شيء كالصدق، لا فخر ولا حسب |
اللهم اكتبني ومن قال آمين من الصادقين، اللهم اكتبني ومن قال آمين من الصادقين، اللهم اكتبني ومن قال آمين من الصادقين، واجعلها صفة نتحلى بها حتى اللقاء يا رب العالمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عمت رحمته وتمت كلمته وسرت سبحانه وتعالى في البرايا نعمه..
أوليتني نعماً أبوح بشكرها | وكفيتني كُلَّ الأمور بأسرها |
فلأشكرنك ما حييتُ وإن أمُتْ | فلتشكرنك أعظمي في قبرها |
والصلاة والسلام على من لُقب بالصادق الأمين صلوات ربي على الوفي الأمين خير من صلى وصام وطاف بالبيت الحرام ووحد العلام، وقرأ القرآن وصام الصيام وقام القيام قائدنا وقدوتنا وكحل لأعيننا سيدنا محمد عليه الصلاة وأفضل السلام.
الصدق أفضل شيء أنت فاعله | لا شيء كالصدق لا فخر ولا نسب |
يقول -صلى الله عليه وسلم- "الصدق طمأنينة والكذب ريبة".
من أقوال الصادقين في الصدق، يقول الفضيل بن عياض: "ما من مضغة أحب إلى الله من لسان صدوق، وما من مضغة أبغض إلى الله من لسان كذوب".
يقول إبراهيم بن الخواص: "ثلاث لا تخطئ: الصادق الحلاوة والملاحة والهيبة".
الصادق تعلو وجهه ثلاث صفات: حلاوة وهيبة وملاحة، يكون مليحًا ومهابًا وفي وجهه الحلا كما قيل.
وقال بعض البلغاء: "الصادق مصان خليل، والكاذب مهاب ذليل"، وقال بعضهم: "لا سيف كالحق، ولا عون كالصدق".
في ذلك اليوم يوم تقف الأجساد عارية، والأقدام حافية والرءوس كاشفة، والشمس مدنية من رءوس الخلائق، عرق يتصبب، عيون يا عباد الله تلتفت هنا وهناك، ذعر في القلوب من شدة ذلك اليوم وهوله، وما يكون فيه تصعد القلوب إلى الحناجر فيحصل الكظم والخنق في ذلك اليوم لا ينفع ذلك اليوم إلا الصادق، ولا ينفع صدق ذلك اليوم إلا من كان صادق, (قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ)، فلا ينفع ذلك اليوم إلا من كان صادقا مع الله في الدنيا فينجيه بفضل الله -عز وجل- صدقه يوم القيامة.
الصِّدْقُ يُنجيكَ فاحْرِصْ أنْ تلازِمَهُ | مَنْ يَعْتدِ الصِدَقَ يَحْظى الفضْلَ أوْفاهُ |
يَكْفيكَ فخراً بأنْ تعْزا لِطائِفةٍ | الصِّدْقُ دَيْدَنهُمْ مَنْ دامَ بُشراهُ |
أصْدُقْ بقولِكَ لا تأبَهْ نتيجَتها | مَرْحا لِمرْءٍ عَلى الإيمان مَحْياهُ |
تفديكَ روحي رَسولُ اللهِ أسْوَتُنا مِنْ بَعْدِكَ الصِّدْقُ عِنْواناً رَفعْناهُ
بعض الناس يسأل بالله -عز وجل-: أسألك بالله أأنت فعلت كذا؟! فيحلف بالله كاذبا، يحلف بالله زورا، ويحلف بالله الأيمان الفاجرة ذلكم الفاجر أنه لصادق، وأنه لا إله إلا هو لهو إمام الكذب ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الله يغضب وتكتب عنده كذابًا أو من الكذابين، وتدعى في السماء من الكذابين، أيسرك هذا يا كذاب يا مَن تحلف بالله -عز وجل- كذبًا وزورًا، ألا لهؤلاء فليتقوا الله -عز وجل- في أنفسهم بل بعض الناس يكذبون، فإذا كذَب وسئل لما الكذب؟ قال كنت مازحًا وكنت أفرح بذلك.
لا، إياك أن تكذب ولو كنت مازحا فلقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنه زعيم في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا"، نكذب ونأتي بجور عظيم والكذب يا عباد الله يؤدي إلى الفجور، والفجور يا عباد الله يؤدي إلى النار.
فإذا الكذب -يا عباد الله- كبيرة من الكبائر، يقول أهل العلم: "كل معصية متوعد عليها بنار أو بعذاب أو بشنار، فهذه كبيرة من الكبائر سيحاسب عليها العبد إن لم يتب لله تعالى منها".
اللهم اكتبني ومن قال آمين من الصادقين..