الولي
كلمة (الولي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (وَلِيَ)،...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن الصادق القايدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
لقد ذاع وانتشر هذه الأيام هضم حقوق العمال والأجراء والخدم، إن العدل مع الأجير وإعطاءه حقه وحسن التعامل معه ليس خلقًا كريمًا فقط، بل هو عمل صالح يتقرب به الإنسان إلى ربه، وصور الظلم وسوء المعاملة للعمل كثيرة يصعب حصرها في جانب واحد، بل هي تتغير وتتبدل حسب ظروف العمل، ولكنني أذكر نفسي وكل من يستأجر عاملاً أو أجيرًا بأمور لا...
الخطبة الأولى:
أيها الناس: لقد جاء الإسلام بتعليمات كريمة ومبادئ عليا، من أخذ بها عزّ في دنياه وآخرته، وجعل لذلك مبدأ أساسيًّا تقوم عليه كل هذه التعليمات والمبادئ، ألا وهو العدل.
العدل -عباد الله- هو مصدر الأمن والاستقرار في هذه الأرض، هو مصدر ضمان الحقوق واطمئنان النفوس وسكونها.
بالعدل -أيها الإخوة- يعمر الكون، وعليه قامت السماوات والأرض، بالعدل رست لكل فرد ولكل أمة قاعدة ثابتة للتعامل لا تميل ولا تتأثر بالأهواء، ولا بمودة ولا بغضاء، إنما تكال وتوزن بمكيال واحد وهو العدل.
عباد الله: اقتضت حكمة الله أن يتفاوت الناس فيما بينهم، فمنهم الغني والفقير، ومنهم الشريف والوضيع، ورئيس ومرؤوس، وعالم وجاهل؛ لكي يحتاج الناس بعضهم بعضًا، قال تعالى: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) [الزخرف:32]. قال العلماء المفسرون: أي: ليسخر بعضهم لبعض في الأعمال والحرف والصنائع؛ لأنه لو تساوى الناس في الغنى ولم يحتج بعضهم لبعض لتعطلت كثير من مصالحهم واحتياجاتهم.
معاشر المسلمين: لقد ذاع وانتشر هذه الأيام هضم حقوق العمال والأجراء والخدم، إن العدل مع الأجير وإعطاءه حقه وحسن التعامل معه ليس خلقًا كريمًا فقط، بل هو عمل صالح يتقرب به الإنسان إلى ربه، وصور الظلم وسوء المعاملة للعمل كثيرة يصعب حصرها في جانب واحد، بل هي تتغير وتتبدل حسب ظروف العمل، ولكنني أذكر نفسي وكل من يستأجر عاملاً أو أجيرًا بأمور لا يجوز إغفالها أو إهمالها.
أولاً: إن هذا العامل أو الأجير إنسان يجب تكريمه بتكريم الله له، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء:70]، فالله تعالى هو الذي كرم هذا الآدمي وفضله، وديننا يأمرنا ويحثنا على الرفق بالحيوان، فكيف بالإنسان؟! قال -صلى الله عليه وسلم-: "دخلت امرأة النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض". فهذه المرأة تصلى النار بسبب قطة.
ومر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على دابة قد وسم وجهها فقال: "لعن الله من فعل هذا"، أي: الذي حرق وجه هذه الدابة ليجعلها كعلامة، ملعون أي: مبعد من رحمة الله، فكيف بإنسان يشهد أن لا إله إلا الله ويصلي ويصوم ويعمل جميع الأركان والواجبات؟! فهو أخوك بحكم الإسلام، وإن كنت أنت غنيًا وهو فقير، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم أخو المسلم"، بل قد يكون هذا الأجير أفضل منك وأتقى منك عند الله: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
ثانيًا: إن هذا العامل ما جاء إلى هذه البلاد وترك أهله ووطنه ليعيش غريبًا بعيدًا إلا ليعف نفسه وعائلته بالكسب الحلال من عمل يده، ولو شاء لسلك طريق الحرام وهو كثير ومتوفر وميسور لمن أراد أن يسلكه، قال -صلى الله عليه وسلم-: "خير الكسب كسب يد العامل إذا نصح"، أي: إذا اجتهد في إتقان العمل، وفي صحيح البخاري عنه -صلى الله عليه وسلم-: "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده".
وإن مسلمًا ترك سبيل الحرام وهو قادر عليها ليعف نفسه وأسرته لهو حري وجدير بمن يعمل لديه أن يكرمه ويعزه ويجله ويكبره.
ثالثًا: إن هذه المهن التي يعمل فيها أكثر العمال اليوم هي مهن شريفة، بل هي مهن الأنبياء والمرسلين، قال ابن عباس: "كان نوح -عليه السلام- نجارًا، وكان إدريس -عليه السلام- خياطًا، وكان إبراهيم ولوط -عليهما السلام- مزارعين، وكان صالح -عليه السلام- تاجرًا، وكان داود -عليه السلام- حدادًا، وكان موسى وشعيب -عليهما السلام- ورسولنا محمد –صلى الله عليه وسلم- رعاة غنم".
إذًا كل هذه المهن التي يمارسها العمال والأجراء هي مهن شريفة، لا يستعاب منها، بل هي مهن الأنبياء.
والعدالة واجبة حتى لو كان الأجير غير مسلم، فيجب أن توفي معه بالعقد الذي بينك وبينه، وتعطيه حقه كاملاً؛ لأن الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، وقال –صلى الله عليه وسلم-: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه"، وقال –صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة"، وذكر منهم: "ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره". والحديث عام.
رابعًا: يوجد كثير من المؤسسات والأفراد -هداهم الله- يتعاقدون مع أجراء وعمال من خارج البلاد بدوام معلوم وأجر معلوم ومميزات معلومة كالسكن والإعاشة وتكاليف السفر وغير ذلك، ولكن إذا قدم العامل وجد غير ذلك، وجد الدوام من الصباح إلى منتصف الليل، ولم يجد الأجرة كافية، ولا كاملة، ولم يهيأ له السكن ولا الإعاشة، فيجد نفسه في مشكلة كبيرة، عليه ديون التأشيرة، ولم يستلم راتبه المتواضع جدًّا، وإذا تظلم أو اشتكى تهدده الكفيل بالخروج النهائي أو السجن، فبربكم ماذا يفعل مثل هؤلاء العمال المسحوقين؟! أنا لا أبالغ ولا أهول القضية، بل هذه حقيقة أعيشها أنا وأنتم بشكل يومي، وفي مسجدنا هذا نسمع كثيرًا من هذه المشاكل.
فاتقوا الله -عباد الله-، وأحسنوا إلى من تحت أيديكم من العمال والخدم، واعلموا أن الله يراكم ويسمع شكواكم، ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- خصمكم يوم القيامة، وأن الذي أعزكم وأذلهم قادر على أن يعزهم ويذلكم ويغير حالكم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة...
الخطبة الثانية:
عباد الله: قاعدة عظيمة رسمها لنا ديننا في التعامل مع الأجراء والخدم، روى البخاري ومسلم أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم"، أي: أن هؤلاء الخدم إخوانكم، فسماهم إخوانًا، وأمرنا بالإحسان إليهم، وأن نطعمهم مما نطعم، ونلبسهم مما نلبس.
بعض الناس -هداهم الله- لا يعطونهم إلا الفضلة، وهذا لا يجوز، بل حرام عليهم هذا الفعل، كذلك إن كان العمل شاقًّا علينا أن نعينهم على أدائه أو نعفيهم منه من البداية ولا نشق عليهم.
عباد الله: بعض الناس يأتي بالعامل ويكلفه بعمل قليلاً كان أو كثيرًا أو بدون شروط، فإذا انتهى العامل أدخل صاحب العمل يده في جيبه وأخرج له مبلغًا زهيدًا لا يساوي شيئًا بالنسبة للعمل الذي عمله والجهد الذي أداه، فإن رفض العمل أو تذمر أو قال: "هذا قليل" قال له: "إما تأخذه وإلا مع السلامة". ففي هذه الحالة إما أن يترك العامل الفلوس وهو في أمسّ الحاجة إليها، أو يأخذها ويشكو أمره إلى الله. وهذا لا يجوز شرعًا، فلا بد من تحديد العمل، وتحديد أجره قبل البدء في العمل؛ حتى لا يظلم العامل، فهذا نبي الله موسى -عليه السلام- لما ذهب إلى الرجل الصالح وقيل: إنه شعيب النبي وقال لموسى: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ)، فحدّ له الأجرة، وهي تزويجه ببنته، وحدد له الزمن وهو ثماني سنين شرطًا، وإن زاد موسى سنتين وأتمها عشرًا فباختياره ورضاه، فقبل موسى -عليه السلام- الشرط، ونفذ ما طلب منه، ووفى الرجل الصالح شعيب بعقده معه.
أيها الناس: بالخلق الحسن واحترام الآخرين والعدل يسود الحب والوئام، وإن من سوء الخلق ورداءة الطبع أن يقوم السيد أو السيدة بضرب الخادم أو الخادمة وشتمه، يقول أبو مسعود: كنت أضرب غلامًا لي فسمعت من خلفي صوتًا: "اعلم -أبا مسعود- لله أقدر عليك منك عليه"، فالتفتّ فإذا هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: يا رسول الله: هو حر لوجه الله، فقال: "أما لو لم تفعل للفحتك النار". رواه مسلم.
فتصوروا ضربًا بسيطًا نتيجته أن تلفحه النار، فكيف بالذين يضربون الخدم ويهينونهم ولا يرحمونهم ويقسون عليهم، إن هذا الأجير الذي ظلم اليوم سيقف أمام الله في يوم القيامة ليحاجك، وما أظنك ناجيًا إذ إنه لا تنفع عند الله الحيل ولا الشطارة كما هو الحال في الدنيا، وتذكروا يومًا تقفون فيه للقضاء والعدل كما يقول تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ). سبحانك ما أعظمك وأحلمك على خلقك!
وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد...