الحي
كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...
العربية
المؤلف | حسان أحمد العماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
وإن من أعظم الأخلاق وأهمها والتي ينبغي للمسلم أن يربي نفسه عليها: خلق الصبر الذي تدور حوله جميع الأخلاق، وهو خلقٌ كريم ووصف عظيم، وصف الله به الأنبياء والمرسلين والصالحين، فقال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ) [الأحقاف:35]، وروى مسلم من حديث أبي مالك الأشعري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك".
الخطبة الأولى:
الحمد لله العفو الغفور، الذي لا تنقضي نعمه ولا تحصى على مر الدهور، سبقت رحمته غضبه من قبل خلق الأيام والشهور، يتوب على من تاب ويغفر لمن أناب ويجبر المكسور، نحمده -تبارك وتعالى- حمد القانع الشكور، ونعوذ بنور وجهه الكريم من الكفر والفجور.
وأشهد أن لا إله إلا الله جعل الظلمات والنور، خلق سبع سماوات طباقًا ما ترى فيها من تفاوت أو فطور، وأنزل من السماء ماءً فمنه أنهار وآبار وبحور، وجعل الليل لباسًا والنوم سباتًا وفي النهار نشور، ولولاه سبحانه ما اهتدينا، وإلى الله ترجع الأمور، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله كامل النور، المرفوع ذكره في التوراة والإنجيل وكذلك في الزبور، المزمل بالفضيلة والمدثر بالطهر والعفاف والمبرأ من الشرور، هو الرحمة المهداة، وهو النعمة المسداة، ولو تبعنا سنته ما اختلطت علينا الأمور.
اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمد بدر البدور، وعلى الصحب والآل ومن تبع بإحسانٍ إلى يوم النشور.
أما بعد:
عباد الله: لقد جعل الله -سبحانه وتعالى- التفاضل بين الناس على أساس التقوى، وجعل التفاضل بين المؤمنين المتقين بالأخلاق ومدى التزامهم بها وممارستها سلوكاً في الحياة؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خلقًا". الألباني في السلسلة الصحيحة (284).
بل رتب -عليه الصلاة والسلام- الجزاء الأوفر يوم القيامة لمن حسن خلقه فقال: "إنّ من أحبِّكم إليّ وأقربِكم منّي مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا". رواه البخاري.
والمسلم بدون أخلاق لا ينتفع بعبادة أو عمل صالح إذا لم يكونا سبباً في تزكية أخلاقه وسلوكه ومعاملته مع الخلق من حوله، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أتدرون من المفلس؟!"، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وسب هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار". رواه مسلم.
وإن من أعظم الأخلاق وأهمها والتي ينبغي للمسلم أن يربي نفسه عليها: خلق الصبر الذي تدور حوله جميع الأخلاق، وهو خلقٌ كريم ووصف عظيم، وصف الله به الأنبياء والمرسلين والصالحين، فقال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ) [الأحقاف:35]، وروى مسلم من حديث أبي مالك الأشعري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك".
وقد أثنى الله على الصبر وأهله فقال: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة:177]، وأوجب سبحانه للصابرين محبته فقال تعالى: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران:146]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "وما أُعطي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر". البخاري 1400.
والصبر -إلى جانب أنه خلق العظماء- فهو كذلك عبادة لله عاقبتها النصر والظفر وحصول المطلوب، وبه ترفع الدرجات وتزيد الأجور وتغفر الذنوب والزلات؛ قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24]، قال ابن القيم -رحمه الله-: "قال الإمام أحمد: ذكر الله الصبر في القرآن في تسعين موضعًا". مدارج السالكين (2/152).
أيها المؤمنون عباد الله: من دون الصبر لا يمكن للإنسان الحفاظ على نفسه وعقله ودينه وعلاقاته مع الآخرين، فإن في الصبر علاجًا لأمراض شتى وأعراض مختلفة يصاب بها الأفراد والجماعات، علاجًا من حالات الغضب والاستعجال والانتقام، وبه يسلم المرء من اليأس والقنوط والكسل وغيرها من الحالات السلبية الناجمة عن ألوان الفتن والشهوات والأحزان ومظاهر الفقر والقهر وجور السلطان والظلم وأساليب المكر والخيانة والطغيان وصنوف الابتلاء، ولقد وعت هذه الحقيقة فئة من عباد الله فسألت ربها الصبر وقالت: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) [البقرة: 250]، فاستعملت عبارة الإفراغ الدالة على التدفق الموحية بأن كمية الصبر المطلوبة والمحتاج إليها ليس مما يمكن تقديره عدًّا أو كيلاً، وقد أمرنا الله به في موضع فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200].
والصبر مطلوب في سائر حياتنا، فالعبادة والطاعة والمحافظة عليهما تحتاج إلى صبر؛ قال تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة: 45]، وروى مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟! إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط".
لقد فهم الصحابة حقيقة هذه العبادات من صلاة وصيام وحج وزكاة وذكر، وحاجتهم للصبر عند القيام بها بسبب حظوظ النفس والشيطان والهوى وملذات الدنيا وشهواتها، فصبروا عليها وقاموا بها وتربت نفوسهم عليها، قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "لقد رأيت أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فما رأيت شيئاً يشبههم، كانوا يصبحون شعثاً غبراً صفراً، بين أعينهم كأمثال ركب المعز من كثرة السجود، قد باتوا لله سجداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا طلع الفجر ذكروا الله، كانوا إذا سمعوا آية من كتاب الله مادوا كما يميد الشجر في يوم ريح عاصف، وهطلت أعينهم بالدموع، والله لكأنّ القوم باتوا غافلين". قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَاتُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال: 2].
ومن أنواع الصبر: الصبر عن المعاصي والمحرمات والبعد عنها قال تعالى: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد:22]. إن أكثر الناس قد يصبرون على فعل الطاعات، لكنهم لا يصبرون عن كثير من المعاصي والسيئات، ومن هنا تأتي أهمية الصبر وفضائله وثماره بالنسبة للمسلم؛ قال تعالى: (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل:96]، ما أكثر مشاكلنا اليوم بسبب ضيق الصدر وقلة الصبر وسرعة الغضب، كم سُفكت من دماء، وسُلبت من أموال، واعتُدي على أعراض، وحدثت القطيعة بين الأرحام، وهجر الأخ أخاه، والجار جاره، كم عصي الله في الأرض وانتهكت حرماته بسبب عدم الصبر عما حرم الله ونهى عنه، إن الفلاح في الدنيا والآخرة لا يكون إلا بالصبر من أجل الله ورجاء ثوابه والخوف من عقابه؛ يقول -سبحانه وتعالى-: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 35].
ومن الصبر: تحمل الخلق والصبر على أذاهم ومسامحتهم والعفو عن زلاتهم؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْراً مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُّ النَّاسَ، وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ". رواه ابن ماجه.
ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة؛ فقد تحمّل وصبر على إيذاء قومه وتكذيب دعوته والسخرية والاستهزاء بدينه، بل صبر على غلظتهم وشدتهم فكان عاقبة ذلك أن نصره الله وفتح لدينه قلوبهم فقدموا للإسلام كل شيء، عن أنس بن مالك قال: كنت أمشي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة نظرت إلى صفحة عنق رسول الله -صلى وسلم عليه- وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: "يا محمد: مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فضحك ثم أمر له بعطاء". متفق عليه.
ومن صور صبر النبي -صلى الله وسلم عليه-: حِلْمُه في جواب اليهود الذين كانوا يؤذونه بالكلام، فعن عائشة قالت: استأذن رهط من اليهود على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: السام عليكم، فقالت عائشة: بل عليكم السام واللعنة، فقال رسول الله -صلى الله وسلم عليه-: "يا عائشة: إن الله يحب الرفق في الأمر كله"، قالت: ألم تسمع ما قالوا؟! قال: "قد قلت: وعليكم". متفق عليه. والسام هو الموت، فقال -عليه الصلاة والسلام-: الموت علينا وعليكم. قال تعالى: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى:43].
عباد الله: ومن أنواع الصبر: الصبر على أقدار الله والرضا بها، واليقين بأن ما كتبه الله وقضاه على العباد كائن لا محالة، وأنه نوع من الابتلاء للعبد؛ لذا فإن عليه أن يصبر لينال الأجر من ربه، ولترفع درجته يوم القيامة في جنةٍ عرضها السماوات والأرض، ثم إن الساخط على ربه لا يجني من ذلك شيئاً، عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا مات ولد العبد، قال الله -عز وجل- لملائكته: "أقبضتم ولد عبدي؟!"، فيقولون: نعم؛ فيقول -وهو أعلم-: "أقبضتم ثمرة فؤاده؟!"، فيقولون: نعم. فيقول: "ماذا قال عبدي؟!"، فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله -عز وجل-: "ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمّوه بيت الحمد". السلسلة الصحيحة (3/398) رقم الحديث 1408.
وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا همٍ ولا حزن ولا أذىً ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه". البخاري 5641.
عن عطاء بن رباح قال: قال لي ابن عباس -رضي الله عنه-: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟! قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إني أصرع، وإني أتكشّف، فادع الله لي، قال: "إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك". فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف، فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها. البخاري 5652.
إنه صبر عاقبته الجنة، وأي شيء أعظم من الجنة!! اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عباد الله: ومن أنواع الصبر، أن يصبر المسلم على الحق ويثبت عليه، فالدنيا ابتلاءاتها كثيرة، وفتنها عديدة، وصراعاتها متشعبه، وفيها أنواع الظلم وصنوف الفساد والاستعلاء والاستكبار، والحق والباطل والخير والشر في صراع إلى يوم القيامة، والمسلم يوطّن نفسه على أن يكون مع الحق ويصبر على ذلك، وإذا ثبتت حقيقة الصراع بين الحق والباطل وبناء مسار التاريخ عليها، فجدير بنا أن نثبت حقيقة مرتبة عليها، وهي أن الحق هو المنتصر في النهاية، وأن الباطل -وإن حقق انتصارات هنا وهناك- فإنها انتصارات آنية واهية، وليست بانتصارات حقيقية واقعية.
يخبرنا القرآن حول هذه الحقيقة في آيات كثيرة، تبين أن النصر دوماً في جانب الطرف الذي يدافع عن الحق، وأن الهزيمة في النهاية واقعة في جانب الطرف المدافع عن الباطل، نجد هذا المعنى في قوله سبحانه: (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف:118]، وقوله -عز وجل-: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [الأنفال:8]، وقوله تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) [الإسراء:81]، وقوله -عز من قائل-: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) [الأنبياء:18]، وقوله سبحانه: (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) [سبأ:49]، وقال تعالى: (وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ) [الشورى:24].
وهذا النصر والتمكين وحصول المطلوب وتحقيق المرغوب مرتبط بالعمل وبذل الجهد المستطاع والصبر على ذلك، وتأمَّلوا كم مكَث فرعون يقتل في بني إسرائيل قبل مجيء موسى -عليه السلام-، ثم كانت العاقبة للمستضعفين بعد صراع طويل ومرير مع أهل الباطل! وتأمَّلوا كم عانى يوسف -عليه السلام- في حياته ثم كانت العاقبة له، وعلَّل يوسف -عليه السلام- نصره بشرطين، ذَكَرهما الله تعالى في قوله: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 90]، فهذان الشرطان هما مُرتكز أسلحة المؤمنين: الصبر والتقوى، كما قرَّر البارئ -سبحانه- في التغلب على كيد الأعداء أيضًا بهذين الشرطين: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران: 120]، يقول سيد قطب -رحمه الله- حول هذه الآية الكريمة: "فهو الصبر والعزم والصمود أمام قوتهم إن كانوا أقوياء، وأمام مكْرهم وكيدهم إن سلكوا طريق الوقيعة والخِداع، الصبر والتماسك لا الانهيار والتخاذل، ولا التنازل عن العقيدة كلها أو بعضها؛ اتقاءً لشرهم المتوقَّع، أو كسبًا لودهم المدخول، ثم هو التقوى: الخوف من الله وحده، ومراقبته وحده، هو تقوى الله التي تربِط القلوب بالله، فلا تلتقي مع أحد إلا في منهجه، ولا تَعتصِم بحبل إلا حبله، وحين يتَّصِل القلب بالله فإنه سيَحقِر كلَّ قوة غير قوَّته، وستَشد هذه الرابطة من عزيمته، فلا يستسلم من قريب، ولا يوادّ مَن حاد الله ورسوله؛ طلبًا للنجاة أو كسبًا للعزة". في ظلال القرآن (1/423).
قال تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [آل عمران: 137].
عباد الله: ومع الصبر وتحمل المشاق والإصرار على النجاح وتحقيق المطلوب لابد من بث الأمل في النفوس وعدم اليأس والقنوط، فكل شيء بيد الله، وهو القادر على كل شيء، وهو الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو أرحم بعباده من أنفسهم، وإن ابتلاهم فما أراد إلا أن يرفع درجتهم ويزيد في أجورهم، فأبشروا وأملوا واصبروا واثبتوا على الحق والخير مهما كانت المحن والفتن والشدائد، ولا تبيعوا ديناً ولا حقاً بدنيا فانية ولذة عابرة، وانظروا إلى ثمار الصبر وفوائده في الدنيا والآخرة، وأحسنوا الظن بالله، عندها فقط يأتي الله بالنصر والتمكين، ويرفع الظلم ويهدم الباطل، ويحقق الأمنيات والرغبات، وتستجاب الدعوات، يقول الإمام الشافعي -رحمه الله-:
سيفتح باب إذا سـد بـاب | نعم وتهون الأمور الصعـاب |
ويتسع الحال من بعـد مـا | تضيق المذاهب فيها الرحـاب |
مع العسر يسران هون عليك | فلا الهم يجدي ولا الاكتـئاب |
فكم ضقت ذرعاً بمـا هبته | فلم ير من ذاك قـدر يهـاب |
وكم برد خفته من سحاب | فعوفيت وانجاب عنك السحاب |
ورزق أتـاك ولـم تأتـه | ولا أرق العيـن منـه الطلاب |
وناء عن الأهـل ذي غربة | أتـيح له بعـد يـأس غيـاب |
وناج من البحر من بعد ما | علاه مـن الموج طـام عبـاب |
إذا احتجب الناس عن سائل | فما دون سائـل ربي حجـاب |
يعود بفضل على من رجـاه | وراجيـه في كـل حين يجاب |
فلا تـأس يومًا على فـائت | وعندك منه رضا واحتسـاب |
اللهم استعملنا في طاعتك، وامنحنا الصبر والثبات على دينك، اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل عسر يسرًا، ومن كل بلاء عافية.
اللهم مكّن لدينك وكتابك وعبادك الصالحين، يا أرحم الراحمين.
هذا؛ وصلوا على نبي الرحمة نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم فقال -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
والحمد لله رب العالمين.