البحث

عبارات مقترحة:

الحفيظ

الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...

المصور

كلمة (المصور) في اللغة اسم فاعل من الفعل صوَّر ومضارعه يُصَوِّر،...

الولي

كلمة (الولي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (وَلِيَ)،...

إعجاز نظم القرآن

العربية

المؤلف عبد الرحمن بن محمد الهرفي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات أركان الإيمان
عناصر الخطبة
  1. القرآن يتحدى العرب .
  2. الوليد يصف القرآن .
  3. الكفار يستمعون القرآن سرا .
  4. حقيقة الإعجاز النظمي .
  5. نصارى ويهود يسلمون انبهاراً بالقرآن .
  6. نماذج لجمال النظم القرآني .
اهداف الخطبة
  1. الحث على تدبر القرآن
  2. بيان إعجاز القرآن من حيث نظمه
  3. استشعار عظمة كتاب الله
  4. ذكر نماذج من معجزة النظم القرآنية

اقتباس

وهذا النظم هو مسحةٌ خلابة عجيبة، تتجلى في نظامه الصوتي وجماله اللغوي، فأما نظامه الصوتي فإنك تجده متسقاً مؤتلفاً في حركاته وسكناته ومدوده وغُنَّاته، واتصالاته وسكتاته، اتساقاً عجيباً وائتلافاً رائعاً، يسترعي الأسماع ويستهوي النفوس بطريقة لا يمكن أن يصلَ إليها أيُّ كلام آخر من منظوم ومنثور. فجرسه الصوتي يجذب السامع له ويلفت انتباهه، حتى لو كان...

الخطبة الأولى :

الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102], (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1], (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتابُ الله وأحسنُ الهدي هديُ محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وشرَّ الأمور محدثاتها وكلَّ محدثة بدعة وكلَّ بدعة ضلالة وكلَّ ضلالة في النار.

 عبادَ الله: فقد قال علي بن أبي طالب في صفة القرآن الكريم: " كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَاُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ, هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ هُوَ الَّذِي مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ, وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ اَضَلَّهُ اللَّهُ, فَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ, وَهُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْاَهْوَاءُ وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْاَلْسِنَةُ وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ, وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ, وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَنْتَهِ الْجِنُّ اِذْ سَمِعَتْهُ أن قَالُوا إنا سَمِعْنَا قُرْانًا عَجَبًا, هُوَ الَّذِي مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ, وَمَنْ عَمِلَ بِهِ اُجِرَ وَمَنْ دَعَا اِلَيْهِ هُدِيَ اِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ".

عبادَ الله: إنه ليس ثمَّ حُجةً ولا معجزةً أبلغُ ولا أنجعُ في العقولِ والنفوسِ, من هذا القرآنِ الذي لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر: 21], ولكن ثمت نفوس خبيثة خسيسة ترفض الحق ولا تذعن إلا لهواها (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) [الإسراء: 89].

 عباد الله: تحدثنا في خطبة ماضية عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، واليوم نتناول نوعا آخر من الإعجاز ألا وهو سرُّ القرآن, والذي به تميَّز كلامُ الرحمن وهو الإعجاز النظمي، وهو حسنُ السَّبَك وجمالُ التركيب. فالقرآن موضوع من حروف وكلمات عربية يتقنُها كلُ عربي, فضلا عن قرشي بلغ المدى في الفصاحة والبيان، ومع هذا لم يأت أحد منهم بشيء يعارض فيه القرآنَ سوى مجنونِ اليمامة الكذابِ مسيلمة, فأضحك العجوز الثكلى على بلاهته وقلّةِ عقله وسخافة فهمه واضمحلال لغته.

عباد الله: تأبى النفسُ الأبية أن تسكنَ لمن يتحداها على فعل شيء, فكيف بنفس العربي الجاهلي، فكيف بمن تحدى وأوعد بالذبح لمن لم يقدر على أن يأتي بمثل ما أتى به؟

قال عبد القاهر الجرجاني: " كيف يجوز أن يظهر في صميم العرب وفي مثل قريش ذوي الأنفس الأبيّة والهمم العلّية والأنفة والحميّة من يدعي النبوة ويقول: وحجتي أن الله قد أنزل عليّ كتاباً تعرفون ألفاظه وتفهمون معانيه، إلا أنكم لا تقدرون على أن تأتوا بمثله ولا بعُشر سور منه ولا بسورة واحدة، ولو جهدتهم جهدكم واجتمع معكم الجن والإنس. ثم لا تدعوهم نفوسهم إلى أن يعارضوه ويبينوا سرفه في دعواه، لو كان ممكناً لهم، وقد بلغ بهم الغيظ من مقالته حداً تركوا معه أحلامهم وخرجوا عن طاعة عقولهم، حتى واجهوه بكل قبيح ولقوه بكل أذى ومكروه ووقفوا له بكل طريق"[ الشافية]. وفعلُ قريش هذا يدل على عدم مقدرتهم على معارضة نظم القرآن، فبدلا من المعارضة بدأ التشويشُ بالتصفيق والتصفير (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت: 26], قال الشيخ الشوكاني: "عارِضُوه باللغو الباطل، أو ارفعوا أصواتكم ليتشوش القارئ له." هذا أكثر ما ملكته القبيلة العربية الفصيحة قريش.

عباد الله: لما سمع الوليد بن المغيرة القرآن رَقَّ له فقد أيقن أنه ليس من كلام البشر، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عمُ إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوه لك، فإنك أتيت محمداً لِتَعرَّض لما قِبَله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً! قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومَك أنك منكرٌ له، قال: وماذا أقول؟! فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا أعلم برَجَزِه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمُثمر أعلاه مُغْدِق أسفله، وإنه ليَعْلو وما يعلى، وإنه ليَحْطِمُ ما تحته!!

قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه!!. قال: فدعني حتى أفكر فيه، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره!! فنزلت الآيات في الوليد قال تعالى: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) [المدثر: 11 - 25].

وقال الزهري: حُدِّثْتُ أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شُرَيْقٍ, خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يصلي بالليل في بيته، وأخذ كلُ رجل منهم مجلساً ليستمع فيه، وكلٌ لا يعلم بمكان صاحبه، فلما طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فتلاوموا، وقال بعُضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً، ثم انصرفوا.

حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فقال بعضُهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرحُ حتى نتعاهدَ ألاّ نعود، فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا. فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد، فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفُها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها، ولا ما يراد بها، قال الأخنس: وأنا والذي حلفتَ به كذلك.

قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعتَ من محمد؟ فقال ماذا سمعت! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منّا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه! والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقُه. قال: فقام عنه الأخنس وتركه.

عباد الله: لقد كان الذوق العربي السليم يساعد أصحابه على إدراك الأساليب القرآنية في مخاطباته، وبقي هذا الأمر بعد عصر النبوة والخلفاء الراشدين وردحا من الزمن في الدولة الأموية، إلا أن بدأ صفاءُ السليقة العربية يفقد رونقها، وبدأت الثقافاتُ الفارسية واليونانية تأخذ طريقها إلى المجتمع الإسلامي, على يد أبناء الأمصار التي فتحها المسلمون, وأخذ الناس يفكرون بطريقة عقلية مجردة عن التذوق الجميل لأساليب القرآن وإدراك المعاني بالطريقة الصافية، عند ذلك فقد الناس حلاوةَ اللغة العربية بشكل عام وحلاوةَ القرآن بشكل خاص, وغاب عنهم لذةُ النظم العظيم. وهذا النظم هو مسحةٌ خلابة عجيبة، تتجلى في نظامه الصوتي وجماله اللغوي، فأما نظامه الصوتي فإنك تجده متسقاً مؤتلفاً في حركاته وسكناته ومدوده وغُنَّاته، واتصالاته وسكتاته، اتساقاً عجيباً وائتلافاً رائعاً، يسترعي الأسماع ويستهوي النفوس بطريقة لا يمكن أن يصلَ إليها أيُّ كلام آخر من منظوم ومنثور.

فجرسه الصوتي يجذب السامع له ويلفت انتباهه، حتى لو كان أعجمياً لا يعرف اللغة العربية، ولعل هذا هو الذي حمل بعض العرب في عهد النبوة أن يقولوا: إنه شعر، ثم عادوا إلى أنفسهم فعلموا أنّه فوق الشعر وأنه لا يسير على منهج الشعر ومنواله فقالوا: هو سحر.

وأما جمالُه اللغوي فيظهر فيما امتاز به في رصف حروفه وترتيب كلماته ترتيباً بديعاً، بحيث أنك تجد لذةً حين تسمع حروف القرآن خارجة من مخارجها الصحيحة.

عباد الله: لقد تأثر عدد من الناس بجمال القرآن ومنهم الشاعر المعاصر نقولا حنّا حيث كان نصرانياً، ثم أعلن إيمانه بالقرآن وبالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قال: "قرأت القرآن فأذهلني، وتعمقتُ به ففتنني، ثم أعدت القراءة فآمنت.. آمنت بالقرآن الإلهي العظيم، وبالرسول مَنْ حَمَله، النبي العربي الكريم" … إلى أن يقول: " كيف لا أومن ومعجزةُ القرآن بين يديّ أنظرها وأحسها كل حين؟! هي معجزة لا كبقية المعجزات.. معجزة إلهية خالدة تدل بنفسها عن نفسها، وليست بحاجة لمن يحدث عنها أو يبشر بها". وقال: "وكم احتاجت وتحتاج الأديانُ السابقة إلى علماء ومبشرين وشواهد وحجج وبراهين لحض الخلق على اعتناقها، إذ ليس لديها ما هو منظور محسوس يثبت أصولها في القلوب.. أما الإسلام فقد غني عن كل ذلك بالقرآن فهو أعلم مُعلِّم وأهدى مبشر، وهو أصدق شاهداً وأبلغ حجة وأدمغ برهاناً.. هو المعجزة الخالدة خلود الواحد الأزلي المنظورة المحسوسة في كل زمان". ثم نظم قصيدة يبين فيها إعجاز القرآن وعظمته ومما قاله فيها: [علوم القرآن الكريم د. نور الدين عتر ص201-202].

يقولون:

ما آياته؟ ضلَّ سعيهم وآياته – ليست تُعَدُّ – عِظَامُ

كفى معجزُ الفرقان للناس آيـةً

    علا وسما كالنجم ليس يُرام

فكُلُّ بليـغٍ عنـده ظل صامتـاً    

    كأنَّ على الأفواه صُرَّ كِمَـامُ

وشاء إله العرش بالناس رحمةً   

    وأن يتلاشى حقدهم وخصامُ

ففرّق ما بين الضلالة والهـدى   

    بفرقان نـور لم يَشُبْه قَتَـامُ

وممن أثر فيه نظمُ القرآن الدكتور أحمد نسيم سوسة - وهو عراقي يهودي أسلم - وقال: "يرجع ميلي إلى الإسلام حينما شرعت في مطالعة القرآن الكريم للمرة لأولى فَوَلِعتُ به ولعاً شديدا.. وكنت أطرب لتلاوة آياته..".

الخطبة الثانية:

الحمد لله..

عبادَ الله: قلنا قبل قليل أن الإعجاز النظمي هو أن تأتي الحروفُ والكلمات في جمل ذوات معاني راقية, وبأسلوب لا يرقى له أسلوب البشر، ولا يخفى أن البلاغة بهذا المعنى لا تكون ركناً للإعجاز ما لم يُضم إليها شيء آخر وهو إتقان المعاني وسموها، وإلا فالمعاني المبتذلة وإن أُلبست أجمل الحُلي وعرضت بشكل يقتضيه الداعي إلى التكلم لا توصف بالبلاغة، وعلى فرض صحة التوصيف لا يكون مثل ذلك الكلام أساساً للإعجاز ودعامة له، وهذا مثل ما حكي عن مسيلمة الكذاب حيث قال: "والطاحنات طحنا، والعاجنات عجنا، والخابزات خبزا" فأين هذه المفاهيم الساقطة من المعاني العالية السامية؟! الواردة في قوله سبحانه: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً *فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً *فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) [العاديات:1ـ5] والآيات هنا تصف عدو الخيل بأجمل أسلوب وأرق عبارة.

وسأذكر أمثلةً على جمال النظم في القرآن الكريم, نجد حرف القاف من الحروف العربية الثقيلة ولا يحسن تكرارُه كثيرا في الجملة الوحدة، ولكنه أتى في القرآن مكررا عشر مرات وبأحسن نظم وجمال معنى، قال تعالى: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) [آل عمران:181] فلا يشعر المرءُ بأي ثِقل في النظم.

وفي القرآن لفظةٌ غريبة هي من أغرب ما فيه، وما حُسنت في كلام قط إلا في موقعها فيه، وهي كلمة (ضيزى) من قوله تعالى: (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى) [النجم:22] ومع ذلك فإن حسنها في نظم الكلام من أغرب الحسن ومن أعجبه، ولو أردت اللغة العربية ما صلح لهذا الموضع غيرها، فإن السورة التي هي منها وهي سورة النجم مفصلة كلها على الياء، فجاءت الكلمة فاصلة من الفواصل، ثم هي في معرض إنكار العرب، إذ وردت في ذكر الأصنام وزعمهم بقسمة الأولاد، فإنهم جعلوا الملائكة والأصنام بناتَ الله مع وأدهم البنات؛ فقال تعالى: (أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى) [النجم:21، 22], فكانت غرابة اللفظ أشدَّ الأشياء ملائمة لغرابة هذه القسمة التي أنكرها، وكانت الجملة كلُّها كأنها تصور في هيئة النطق بها، الإنكار في الأولى والتهكم في الأخرى، وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة وخاصة في اللفظة الغريبة الذي تمكنت في موضعها من الفصل[إعجاز القرآن للرافعي (ص:230). ].

ونجد لفظة الأرض لم تأت إلا مفردة فقط، فإذا ذكرت السماء مجموعة جيء بالأرض مفردة في كل موضوع ولم تأت الأراضين، ولما جاءت في موضع يحسن جمعها خرجت بأسلوب بديع مذهل (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ) [الطلاق:12] وذلك لأن اللسان يستثقل هذه الكلمة فيختل بها النظم ويتكلفها القارئ. [إعجاز القرآن للرافعي233]

وعكسُ هذه الكلمة كلمةُ الكوب فلم تأت في القرآن مفردةً أبدا، واستعملت مجموعةً فقط لأنه لا يتهيأ فيها ما يجعلها في النطق من الظهور والرقة والانكشاف وحسن التناسب كلفظ أكواب. [إعجاز القرآن للرافعي232].