الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | عمر بن عبد الله بن مشاري المشاري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
وإنَّ بعضا من الناس يشتكي من أولاده فيدعو عليهم, وهذا خطأ إذ الواجب أن يدعو لهم بالهداية والتوفيق والصلاح والعافية, فإن لدعاء الوالد أثراً كبيرا في صلاح ذريته؛ لأن دعاءه مستجاب قال -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ" (أخرجه أحمد والترمذي), وفي لفظ: "دعوة الوالد لولده"...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنتهدي لولا أن هدانا الله, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً رسول رب العالمين وقدوة الناس أجمعين صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه اجمعين, أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المؤمنون- واعبدوه كما أمركم, ولا تكونوا من الغافلين الذين ألهتهم دنياهم عن دينهم.
أيها المسلمون: إنَّ ربَّنا -عز وجل- خلقنا لعبادته, قال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56], ومن عبادته أن ندعوَهُ, عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ" ثُمَّ قَرَأَ (وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر: 60]" (أخرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وصححه الألباني), قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "هذا من لطفه بعباده، ونعمته العظيمة، حيث دعاهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وأمرهم بدعائه؛ دعاء العبادة، ودعاء المسألة، ووعدهم أن يستجيب لهم، وتوعد من استكبر عنها فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) أي: ذليلين حقيرين، يجتمع عليهم العذاب والإهانة، جزاءً على استكبارهم" ا.هـ.
أيها المسلمون: إنَّ الدعاء هو سؤالُ العبد ربه, قال الخطابي -رحمه الله-: حقيقته الدعاء "إظْهَارُ الافْتِقَارِ إلَيهِ -سبحانه- والتبَرُّؤ مِنَ الحَوْلِ وَالقُوة، وَهوَ سِمَةُ العبودية، واسْتِشْعَارُ الذِّلةِ البَشَرِيةِ، وَفيهِ مَعْنَى الثنَاءِ عَلى الله -عز وجل- وإضَافَةُ الجود، وَالكَرَمِ إليه" ا.هـ.
عباد الله: إنَّ حاجة المسلم إلى الدعاء حاجةٌ كبرى, فهو لا يستغني عن دعاء ربه أبدا, وإنَّ الله -تعالى- يحب من عبده أن يلح في دعائه, قال -تعالى-: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [الأعراف: 55], قال السمعاني -رحمه الله-: "أَي: ضارعين متذللين خاشعين", وقال الماوردي -رحمه الله-: "فيه وجهان: أحدهما: في الرغبة والرهبة, والثاني: التضرع: وهو التذلل والخضوع, والخُفية: وهي إخلاص القلب, ويحتمل أنَّ التضرع بالبدن, والخُفية بإخلاص القلب, (إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) يعني في الدعاء, والاعتداء فيه ثلاثة أقاويل؛ أحدها: أن يسأل ما لا يستحقه من منازل الأنبياء, والثاني: أنه يدعو باللعنة والهلاك على من لا يستحق, والثالث: أن يرفع صوته بالدعاء" ا.هـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عند هذه الآية: "مِنْ الاعْتِدَاءِ أَنْ يَعْبُدَهُ بِمَا لَمْ يَشْرَعْ, وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ بِمَا لَمْ يُثْنِ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَلا أَذِنَ فِيهِ؛ فَإِنَّ هَذَا اعْتِدَاءٌ فِي دُعَائِه... -وهذه الآية- دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَدْعُهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ الَّذِينَ لا يُحِبُّهُمْ؛ فَقَسَّمَتْ الآيَةُ النَّاسَ إلَى قِسْمَيْنِ: دَاعٍ لِلَّهِ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً, وَمُعْتَدٍ بِتَرْكِ ذَلِكَ" ا.هـ.
وعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَكُنَّا إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتعالى جَدُّهُ" (متفق عليه).
أيها المسلمون: بعض من الناس يدعو بدعاءٍ فيه إثم وقطيعة رحم وهذا منهي عنه, قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا, قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: "اللَّهُ أَكْثَرُ" (أخرجه الإمام أحمد وصححه الألباني).
ولسائل أن يسأل: ما هي موانع إجابة الدعاء؟ والإجابة للجنة الدائمة للإفتاء: "قد يكون المانع من الإجابة من ذات الداعي نفسه من كونه أتى في دعائه بإثم أو قطيعة رحم, أو اعتداءٍ في السؤال, أو أكلِ حرام ونحو ذلك، فينبغي للداعي أن يخلص لله في دعائه ويبتعد عن الأسباب التي تحول بينه وبين الإجابة" ا.هـ.
عباد الله: من شروط إجابة الدعاء: أن لا يكون قلب الداعي غافل لاه, قال -صلى الله عليه وسلم-: "ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ", قال ابن القيم -رحمه الله-: "غَفْلَةَ الْقَلْبِ عَنِ اللَّهِ تُبْطِلُ قُوَّتَهُ -أي الدعاء-, وَكَذَلِكَ أَكْلُ الْحَرَامِ يُبْطِلُ قُوَّتَهُ وَيُضْعِفُهَا" (أخرجه الترمذي وصححه الألباني), وقال أيضاً: "الدُّعَاءُ مِنْ أَقْوَى الأَسْبَابِ فِي دَفْعِ الْمَكْرُوهِ، وَحُصُولِ الْمَطْلُوبِ، وَلَكِنْ قَدْ يَتَخَلَّفُ أَثَرُهُ عَنْهُ، إِمَّا لِضَعْفِهِ فِي نَفْسِهِ, بِأَنْ يَكُونَ دُعَاءً لا يُحِبُّهُ اللَّهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُدْوَانِ-, وَإِمَّا لِضَعْفِ الْقَلْبِ وَعَدَمِ إِقْبَالِهِ عَلَى اللَّهِ وَجَمْعِيَّتِهِ عَلَيْهِ وَقْتَ الدُّعَاءِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقَوْسِ الرِّخْوِ جِدًّا، فَإِنَّ السَّهْمَ يَخْرُجُ مِنْهُ خُرُوجًا ضَعِيفًا، وَإِمَّا لِحُصُولِ الْمَانِعِ مِنَ الإِجَابَةِ: مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ، وَالظُّلْمِ، وَرَيْنِ الذُّنُوبِ عَلَى الْقُلُوبِ، وَاسْتِيلاءِ الْغَفْلَةِ وَالشَّهْوَةِ وَاللَّهْوِ، وَغَلَبَتِهَا عَلَيْهَا" ا.هـ. فاحذروا -يا عباد الله- من اللهو والغفلة فإنها من موانع إجابة الدعاء.
أيها المسلمون: مما ينبغي على المؤمن أن يدعو لنفسه ولوالديه ولأهل بيته ومن له حق عليه, ويدعوَ للمؤمنين جميعاً, قال -تعالى- على لسان نوح -عليه السلام-: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [نوح: 28], قال السعدي -رحمه الله-: "خص المذكورين لتأكد حقهم وتقديم برهم، ثم عمم الدعاء" انتهى ما قاله -رحمه الله-.
وكذلك فإن على الوالد أن يدعو لذريته,فيقول: "اللهم أصلح لي في ذريتي, اللهم احفظهم بما تحفظ به عبادك الصالحين" وغيرها من أدعية مشروعة وأجمعها وأكملها أدعية الكتاب والسنة.
وإنَّ بعضا من الناس -يا عباد الله- يشتكي من أولاده فيدعو عليهم, وهذا خطأ إذ الواجب أن يدعو لهم بالهداية والتوفيق والصلاح والعافية, فإن لدعاء الوالد أثراً كبيرا في صلاح ذريته؛ لأن دعاءه مستجاب قال -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ" (أخرجه أحمد والترمذي), وفي لفظ: "دعوة الوالد لولده", وفي لفظ آخر: "دعوة الوالد على ولده", فادعوا لأولادكم بما تقرُّ به أعينكم.
عباد الله: ومن الأدعية الجامعة: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201], والدعاء بما دعا به النبي -صلى الله عليه وسلم- كما ثبت في صحيح مسلم: "اللهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ", فإن هذا الدعاء من أجمع الأدعية.
واحرصوا على تحري أوقات الإجابة, وعلى الرزق والحلال, وعلى الثناء على الله وعلى التذلل والافتقار إليه, واحذروا الاعتداء في الدعاء, أو الدعاء بالإثم وبقطيعة الرحم.
رزقني الله وإياكم الفقه في الدين والعمل بسنة سيد المرسلين, صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه غفور رحيم.