البحث

عبارات مقترحة:

القدوس

كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...

الوارث

كلمة (الوراث) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَرِثَ يَرِثُ)، وهو من...

الشكور

كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...

تفسير سورة الشمس (2)

العربية

المؤلف عبد الرحمن بن محمد الهرفي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان
عناصر الخطبة
  1. السماء آية عظيمة .
  2. بسط الأرض لازمٌ للحياة .
  3. نظرة الإسلام الشاملة للنفس .
  4. طغيان ثمود ونهايتهم .

اقتباس

وهكذا ترتبط حقيقة النفس البشرية بحقائق هذا الوجود الكبيرة، ومشاهدة الثابتة، كما ترتبط بهذه وتلك سنة الله في أخذ المكذبين والطغاة، في حدود التقدير الحكيم الذي يجعل لكل شيء أجلاً، ولكل حادث موعداً، ولكل أمر غاية، ولكل قدر حكمة، وهو...

الخطبة الأولى :

الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً *يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70 و71].

أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد ص وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

عباد الله: ثم يقسم بالسماء وبنائها: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا) [الشمس: 5](وما) هنا مصدرية. ولفظ السماء حين يذكر يسبق إلى الذهن هذا الذي نراه فوقنا كالقبة حيثما اتجهنا، تتناثر فيه النجوم والكواكب السابحة في أفلاكها ومداراتها. فأما حقيقة السماء فلا ندريها. وهذا الذي نراه فوقنا متماسكاً لا يختل ولا يضطرب تتحقق فيه صفة البناء بثباته وتماسكه. أما كيف هو مبني، وما الذي يمسك أجزاءه فلا تتناثر وهو سابح في الفضاء الذي لا نعرف له أولاً ولا آخراً.. فذلك ما لا ندريه. وكل ما قيل عنه مجرد نظريات قابلة للنقض والتعديل. ولا قرار لها ولا ثبات.. إنما نوقن من وراء كل شيء أن يدَ الله هي تمسك هذا البناء: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) [فاطر: 41] وهذا هو العلم المستيقن الوحيد!

وعن ابن عباس: (وَمَا طَحَاهَا) أي: خلق فيها. وقال مجاهد، وقتادة والضحاك، والسُّدِّي، والثوري، وأبو صالح، وابن زيد: (طَحَاهَا) بسطها. قال الإمام ابن كثير رحمه الله: هذا أشهر الأقوال، وعليه الأكثر من المفسرين.

كذلك يقسم بالأرض وطحوِها: (وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا) [الشمس: 6] والطحو كالدحو: البسط والتمهيد للحياة. وهي حقيقة قائمة تتوقف على وجودها حياةُ الجنس البشري وسائر الأجناس الحية. وهذه الخصائص والموافقات التي جعلتها يدُ الله في هذه الأرض هي التي سمحت بالحياة فيها وفق تقديره وتدبيره. وحسب الظاهر لنا أنه لو اختلت إحداها ما أمكن أن تنشأ الحياة, ولا أن تسير في هذا الطريق الذي سارت فيه.. وطحو الأرض أو دحوها كما قال في الآية الأخرى: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا) [النازعات: 30، 31] وهو أكبر هذه الخصائص والموافقات. ويد الله وحدها هي التي تولت هذا الأمر. فحين يذكر هنا بطحو الأرض، فإنما يذكر بهذه اليد التي وراءه. ويلمس القلب البشري هذه اللمسة للتدبر والذكرى.

ثم تجيء الحقيقة الكبرى عن النفس البشرية في سياق هذا القسم، مرتبطة بالكون ومشاهده وظواهره. وهي إحدى الآيات الكبرى في هذا الوجود المترابط المتناسق: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس: 7 - 10] وهذه الآيات الأربع، بالإضافة إلى آية سورة البلد السابقة: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد: 10] وآية سورة الإنسان: (إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) [الإنسان: 3] تمثل قاعدة النظرية النفسية للإسلام.. وهي مرتبطة ومكمِّلة للآيات التي تشير إلى ازدواج طبيعة الإنسان، كقوله تعالى في سورة « ص »: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [ص: 71، 72] كما أنها مرتبطة ومكملة للآيات التي تقرر التبِعة الفردية كقوله تعالى في سورة المدثر: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) [المدثر: 38] والآيات التي تقرر أن الله يرتب تصرفه بالإنسان على واقع هذا الإنسان، كقوله تعالى في سورة الرعد:  (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11] ومن خلال هذه الآيات وأمثالها تبرز لنا نظرة الإسلام إلى الإنسان بكل معالمها.

إن هذا الكائن مخلوق مزدوج الطبيعة، مزدوج الاستعداد، مزدوج الاتجاه ونعني بكلمة مزدوج على وجه التحديد أنه بطبيعة تكوينه "من طين الأرض ومن نفخةِ الله فيه من روحه" مزوَّدٌ باستعدادات متساوية للخير والشر، والهدى والضلال. فهو قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شر. كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشر سواء. وأن هذه القدرة كامنة في كيانه، يعبرعنها القرآن بالإلهام تارة: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) [الشمس: 7، 8] ويعبر عنها بالهداية تارة: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد: 10] فهي كامنة في صميمه في صورة استعداد.. والرسالات والتوجيهات والعوامل الخارجية إنما توقظ هذه الاستعدادات وتشحذها وتوجهها هنا أو هناك. ولكنها لا تخلقها خلقاً. لأنها مخلوقة فطرة، وكائنة طبعاً، وكامنة إلهاماً.

وهناك إلى جانب هذه الاستعدادات الفطرية الكامنة قوة واعية مدركة موجهة في ذات الإنسان. هي التي تناط بها التبعة. فمن استخدم هذه القوة في تزكية نفسه وتطهيرها وتنمية استعداد الخير فيها، وتغليبه على استعداد الشر.. فقد أفلح. ومن أظلم هذه القوة وخبأها وأضعفها فقد خاب: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس: 9، 10].

وهنالك إذن تبعة مترتبة على منح الإنسان هذه القوة الواعية القادرة على الاختيار والتوجيه. توجيه الاستعدادات الفطرية القابلة للنمو في حقل الخير وفي حقل الشر سواء. فهي حرية تقابلها تبعة، وقدرة يقابلها تكليف، ومنحة يقابلها واجب.

ورحمة من الله بالإنسان لم يدعه لاستعداد فطرته الإلهامي، ولا للقوة الواعية المالكة للتصرف، فأعانه بالرسالات التي تضع له الموازين الثابتة الدقيقة، وتكشف له عن موحيات الإيمان، ودلائل الهدى في نفسه وفي الآفاق من حوله، وتجلو عنه غواشي الهوى فيبصر الحق في صورته الصحيحة.. وبذلك يتضح له الطريق وضوحاً كاشفاً لا غبش فيه ولا شبهة فتتصرف القوة الواعية حينئذ عن بصيرة وإدراك لحقيقة الاتجاه الذي تختاره وتسير فيه.

هذه في جملتها هي مشيئة الله بالإنسان. وكل ما يتم في دائرتها فهو محقق لمشيئة الله وقدره العام. هذه النظرة المجملة إلى أقصى حد تنبثق منها جملة حقائق ذات قيمة في التوجيه التربوي, فهي أولاً :ترتفع بقيمة هذا الكائن الإنساني، حين تجعله أهلاً لاحتمال تبعة اتجاهه، وتمنحه حرية الاختيار "في إطار المشيئة الإلهية التي شاءت له هذه الحرية فيما يختار" فالحرية والتبعة يضعان هذا الكائن في مكان كريم، ويقرران له في هذا الوجود منزلة عالية تليق بالخليقة التي نفخ الله فيها من روحه وسواها بيده، وفضلها على كثير من العالمين.

وهي ثانياً: تلقي على هذا الكائن تبعة مصيره، وتجعل أمره بين يديه "في إطار المشيئة الكبرى كما أسلفنا" فتثير في حسه كل مشاعر اليقظة والتحرج والتقوى. وهو يعلم أن قدر الله فيه يتحقق من خلال تصرفه هو بنفسه: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11] وهي تبعة ثقيلة لا يغفل صاحبها ولا يغفو!

وهي ثالثاً: تشعر هذا الإنسان بالحاجة الدائمة للرجوع إلى الموازين الإلهية الثابتة، ليظل على يقين أن هواه لم يخدعه، ولم يضلله، كي لا يقوده الهوى إلى المهلكة، ولا يحق عليه قدر الله فيمن يجعل إلهه هواه. وبذلك يظل قريباً من الله، يهتدي بهديه، ويستضيء بالنور الذي أمده به في متاهات الطريق!

ومن ثم فلا نهاية لما يملك هذا الإنسان أن يصل إليه من تزكية النفس وتطهيرها، وهو يغتسل في نور الله الفائض، ويتطهر في هذا العباب الذي يتدفق حوله من ينابيع الوجود..

بعد ذلك يعرض نموذجاً من نماذج الخيبة التي ينتهي إليها من يدسي نفسه، فيحجبها عن الهدى ويدنسها. ممثلاً هذا النموذج فيما أصاب ثمود من غضب ونكال وهلاك: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا *فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا) [الشمس: 11 - 15]

وقد وردت قصة ثمود ونبيها صالح عليه السلام في مواضع شتى من القرآن. وسبق الحديث عنها في كل موضع. وأقربها ما جاء في هذا الجزء في سورة الفجر  فيرجع إلى تفصيلات القصة هناك.

فأما في هذا الموضع فهو يذكر أن ثمود بسبب من طغيانها كذبت نبيها، فكان الطغيان وحده هو سبب التكذيب. وتمثل هذا الطغيان في انبعاث أشقاها. وهو الذي عقر الناقة. وهو أشدها شقاءً وأكثرها تعاسةً بما ارتكب من الإثم. وقد حذرهم رسول الله قبل الإقدام على الفعلة فقال لهم: احذروا أن تمسوا ناقة الله أو أن تمسوا الماء الذي جعل لها يوماً ولهم يوماً, كما اشترط عليهم عند ما طلبوا منه آية فجعل الله هذه الناقة آية ولا بد أنه كان لها شأنٌ خاصٌ لا نخوض في تفصيلاته، لأن الله لم يقل لنا عنه شيئاً فكذبوا النذير فعقروا الناقة. والذي عقرها هو هذا الأشقى. ولكنهم جميعاً حُمِّلوا التبعة وعُدوا أنهم عقروها، لأنهم لم يضربوا على يده، بل استحسنوا فعلته. وهذا مبدأ من مبادئ الإسلام الرئيسية في التكافل في التبعة الاجتماعية في الحياة الدنيا. لا يتعارض مع التبعة الفردية في الجزاء الأخروي حيث لا تزر وازرة وزر أخرى. على أنه من الوزر إهمال التناصح والتكافل والحض على البر والأخذ على يد البغي والشر.

عندئذ تتحرك يد القدرة لتبطش البطشة الكبرى: (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا) [الشمس: 14] والدمدمة الغضب وما يتبعه من تنكيل. واللفظ ذاته (دمدم) يوحي بما وراءه، ويصور معناه بجرسه، ويكاد يرسم مشهداً مروِّعاً مخيفاً! وقد سوى الله أرضهم عاليها بسافلها، وهو المشهد الذي يرتسم بعد الدمار العنيف الشديد. (لَا يَخَافُ عُقْبَاهَا) [الشمس: 15]سبحانه وتعالى.. ومن ذا يخاف؟ وماذا يخاف؟ وأنى يخاف؟ إنما يراد من هذا التعبير لازمه المفهوم منه. فالذي لا يخاف عاقبة ما يفعل، يبلغ غاية البطش حين يبطش. وكذلك بطش الله كان: إن بطش ربك لشديد. فهو إيقاع يراد إيحاؤه وظله في النفوس.

وهكذا ترتبط حقيقة النفس البشرية بحقائق هذا الوجود الكبيرة، ومشاهدة الثابتة، كما ترتبط بهذه وتلك سنة الله في أخذ المكذبين والطغاة، في حدود التقدير الحكيم الذي يجعل لكل شيء أجلاً، ولكل حادث موعداً، ولكل أمر غاية، ولكل قدر حكمة، وهو رب النفس والكون والقدر جميعاً..

(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) [الشمس: 7]أي: خلقها سوية مستقيمة على الفطرة القويمة. ومثله: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) [الشمس: 4] والتغشية هي مقابل التجلية. والليل غشاء يضم كل شيء ويخفيه. وهو مشهد له في النفس وقع. وله في حياة الإنسان أثر كالنهار سواء.

قال ابن تيمية كما في المجموع في قوله تعالى: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) [الشمس: 1 - 4] "وضمير التأنيث في جلاها ويغشاها لم يتقدم ما يعود عليه إلا الشمس فيقتضي أن النهار يجلى الشمس وأن الليل يغشاها, والتجلية الكشف والإظهار والغشيان التغطية, واللبس معلوم أن الليل والنهار ظرفا الزمان والفعل إذا أضيف إلى الزمان فقيل هذا الزمان أو هذا اليوم يبرد أو يبرد أو ينبت الأرض ونحو ذلك, فالمقصود أن ذلك يكون فيه كما يوصف الزمان بأنه عصيب وشديد ونحس وبارد وحار وطيب ومكروه والمراد وصف ما فيه فكون الشيء فاعلاً وموصوفا هو بحسب ما يليق به كل شيء بحسبه.

فالنهار يجلى الشمس والليل يغشاها وإن كان ظهور الشمس هو سبب النهار ومغيبها سبب الليل, وقد ذكر ذلك بقوله والشمس وضحاها فأضاف الضحى إليها والضحى يعم النهار كله, كما قال (أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) [النازعات: 27 - 29] وقال: (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) [الضحى: 1، 2] وقوله: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) [الشمس: 5 - 8] فقد قيل إن ما مصدرية والتقدير والسماء وبناء الله إياها, والأرض وطحو الله إياها ونفس وتسوية الله إياها, لابد من ذكر الفاعل في الجملة لا يصلح أن يقدر المصدر هنا مضافا إلى الفعل فقط, فيقال وبنائها لأن الفاعل مذكور في الجملة في قوله وما بناها وما طحاها, فإن الفعل لابد له من فاعل في الجملة ومفعول أيضا فلابد أن يكون في التقدير الفاعل والمفعول, لكن إذا كانت مصدرية كانت ما حرفا ليس فيها ضمير فيكون ضمير الفاعل في بناها عائدا على غير مذكور بل إلى معلوم, والتقدير والسماء وما بناها الله وهذا خلاف الأصل وخلاف الظاهر.

القول الثاني: أنها موصولة والتقدير الذي بناها والذي طحاها وما فيها عموم وإجمال يصلح لما لا يعلم ولصفات من يعلم, كقوله تعالى: (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) [الكافرون: 2، 3] وقوله: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) [النساء: 3] وهذا المعنى يجيء في قوله: (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) [الليل: 3] وهذا المعني كما أنه ظاهر الكلام وأصله هو أكمل في المعنى أيضا, فإن القسم بالفاعل يتضمن الإقسام بفعله بخلاف الإقسام بمجرد الفعل, وأيضا الإقسام التي في القرآن عامتها بالذوات الفاعلة وغير الفاعلة, يقسم بنفس الفعل كقوله: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا) [الصافات: 1 - 3] وكقوله: والنازعات والمرسلات ونحو ذلك.

 وهو سبحانه تارةً يقسم بنفس المخلوقات وتارة بربها وخالقها كقوله: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الذاريات: 23] وكقوله: (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) [الليل: 3] وتارة يقسم بها وبربها, وفى هذه السورة أقسم بمخلوق وبفعله وأقسم بمخلوق دون فعله فاقسم بفاعله.

فإنه قال: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) [الشمس: 1 - 4] فأقسم بالشمس والقمر والليل والنهار وآثارها وأفعالها, كما فرق بينهما في قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ) [فصلت: 37] وقال: (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الأنبياء: 33] فإنه بأفعال هذه الأمور وآثارها تقوم مصالح بني آدم وسائر الحيوان

 وقال وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ولم يقل ونهارها ولا ضيائها لأن الضحى يدل على النور والحرارة جميعا وبالأنوار والحرارة تقوم مصالح العباد, ثم أقسم بالسماء والأرض وبالنفس ولم يذكر معها فعلا فذكر فاعلها فقال وما بناها وما طحاها ونفس وما سواها .

 فلم يصلح أن يقسم بفعل النفس لأنها تفعل البر والفجور وهو سبحانه لا يقسم إلا بما هو معظم من مخلوقاته, لكن ذكر في ضمير القسم أنه خالق أفعالها بقوله (وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) [الشمس: 7، 8] فإذا كان قد بين أنه خالق فعل العبد الذي هو أظهر الأشياء فعلا واختيارا وقدرة فلأن يكون خالق فعل الشمس والقمر والليل والنهار بطريق الأولى والأحرى .

وأما السماء والأرض فليس لهما فعل ظاهر يعظم في النفوس حتى يقسم بها إلا ما يظهر من الشمس والقمر والليل والنهار, والسماء والأرض أعظم من الشمس والقمر والليل والنهار, والنفس أشرف الحيوان المخلوق فكان القسم بصانع هذه الأمور العظيمة مناسبا, وكان إقسامه بصانعها تنبيها على أنه صانع ما فيها من الشمس والقمر والليل والنهار ,

 فتضمن الكلام الأقسام بصانع هذه المخلوقات وبأعيانها وما فيها من الآثار والمنافع لبني آدم, وختم القسم بالنفس التي هي آخر المخلوقات فإن الله خلق آدم يوم الجمعة آخر المخلوقات وبين أنه خالق جميع أفعالها ودل على أنه خالق جميع أفعال ما سواها .

 وهو سبحانه مع ما ذكر من عموم خلقه لجميع الموجودات على مراتبها حتى أفعال العبد المنقسمة إلى التقوى والفجور, وبين انقسام الأفعال إلى الخير والشر وانقسام الفاعلين إلى مفلح وخائب سعيد وشقي, وهذا يتضمن الأمر والنهي والوعد والوعيد, فكان في ذلك رد على القدرية المجوسية الذين يخرجون أفعال العباد عن خلقه وإلهامه, وعلى القدرية المشركية الذين يبطلون أمره ونهيه ووعده ووعيده احتجاجا

 بقضائه وقدره

و قد قيل في قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس: 9، 10] إن الضمير عائد إلى الله, أي قد أفلح من زكاها الله وقد خاب من دساها الله, وهذا مخالف للظاهر بعيد عن نهج البيان الذي ألف عليه القرآن إذا كان الأحسن قد أفلحت من زكاها الله وقد خابت من دساها وهذا ضعيف, وأيضا فقوله فألهمها فجورها وتقواها بيان للقدر فلا حاجة إلى ذكره مرة ثانية عقب ذلك فى مثل هذه السورة القصيرة.

 ولهذا لم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات القدر إلا هذه الآية دون الثانية, كما في صحيح مسلم عن أبي الأسود الدّيلي ، قال : قال لي عمران بن حصين : "أرأيتَ ما يعمل الناسُ اليوم ويكدحون فيه ، أَشيءُ قَضِيَ عليهم ، ومَضَى عليهم من قَدَرِ قد سَبَق ، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نَبِيُّهُمْ وثَبَتتِ الحجَّةُ عليهم ؟ فقلت : بل شيء قُضيَ عليهم ومضى عليهم ، قال : أفلا يكون ظُلْما ؟ قال : فَفَزِعتُ من ذلك فزعا شديدا ، وقلت : كل شيء خَلْقُ الله ومِلْكُ يده ، فلا يُسأل عَمَّا يفعل وهم يُسألون ، فقال لي : يرحَمُكَ الله ، إني لم أُرِدْ بما سألتُكَ إلا لأْحرِزِ عقلك ، وإن رجلين من مُزَينة أتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالا : يا رسولَ الله ، أرأيتَ ما يَعمَلُ الناسُ اليوم، ويَكْدَحون فيه ، أشيء قُضِيَ عليهم ومضى فيهم من قَدَرِ [ قد] سَبَق ، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم [ به] نبيُّهم ، وثبتت الحُجَّةُ عليهم ؟ فقال: لا ، بل شيء قضِيَ عليهم ، ومضى فيهم" ، وتصديق ذلك في كتاب الله (ونَفْس وَمَا سَوَّاها ، فألْهَمَهَا فُجُورَها وَتقْوَاهَا) [ الشمس : 7،8].

تفسير سورة الشمس (1)