البارئ
(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...
العربية
المؤلف | خالد بن سعد الخشلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
لو لم يرد في دين الله عز وجل الأمر ببر الوالدين لكانت المروءة الإنسانية والفطرة البشرية داعية إلى البر بهما، وموجبة ذلك لهما. وإن مما يدعو للحديث عن هذا الموضوع المهم ما يلحظ في أوساط المجتمع من قِبل فئة من الناس ضعفت التقوى عندهم، وانعدمت الشفقة في نفوسهم، وزالت الرأفة من قلوبهم، فتنكروا لوالديهم وعقوهم بأبشع أنواع العقوق ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله -عز وجل- والتزموا حدوده التي حدها، واحذروا من تضييع فرائضه وارتكاب مساخطه، ألا وإن مما فرضه ربكم -عز وجل- وأكد عليه وبالغ في الأمر بالاهتمام به والعناية به وأعلى سبحانه من منزلته ورفع شأنه ودرجته: بر الوالدين؛ هذه العبادة العظيمة وهذه القربة العظيمة، التي لها في دين الله -عز وجل- القدر المعلى، والنصيب الأوفى من الأوامر والنواهي، بل هذا الجانب الإنساني الذي يقدره أهل الفطر السوية، والقلوب السليمة، والنفوس الصحيحة، وإن لم يكونوا أهل إسلام.
لو لم يرد في دين الله -عز وجل- الأمر ببر الوالدين لكانت المروءة الإنسانية والفطرة البشرية داعية إلى البر بهما، وموجبة ذلك لهما. وإن مما يدعو للحديث عن هذا الموضوع المهم ما يلحظ في أوساط المجتمع من قِبل فئة من الناس ضعفت التقوى عندهم، وانعدمت الشفقة في نفوسهم، وزالت الرأفة من قلوبهم، فتنكروا لوالديهم وعقوهم بأبشع أنواع العقوق، ما بين فترة وأخرى يسمع المرء قصة أو حادثة تنبئ عما وصل إليه كثير من الناس في عقوقهم لوالديهم من انحطاط عظيم.
ألست تسمع عن حالات هجران وقطيعة يرتكبه الأبناء مع والديهم، ألست تسمع عن حالات مفاصلة تقع بين الأبناء ووالديهم يكون الخاسر فيها وللأسف الشديد الآباء والأمهات حينما يقدم الأصدقاء على الوالدين، وفي حالة أخرى حينما تطاع الزوجات ويُبغَض الوالدان، ألسنا نسمع عن حيوانية كثير من الناس الذين هان عليهم آباؤهم وأمهاتهم؟! فغدا الواحد منهم يخجل حتى من مجرد الانتساب لأمه أو لأبيه، ويأنف من خدمتهما ويستكبر عن طاعتهما، بل وصل الحد ببعض قساه القلوب وجاحدي الإحسان ومنكري الجميل إلى أن يخرجوا آباءهم من منازلهم ويذهبوا بهم إلى الملاجئ أو دور الرعاية الاجتماعية.
أليس نسمع عن كلمات سب وشتم وسوء أدب ترتكب مع الوالدين، كم من أب وأم -أيها الإخوة في الله- يجلسون الشهر، بل والشهور والسنين، في قطيعة من أولادهم، كم من أب وأم يتجرعون اليوم كؤوس الإذلال والامتهان صباحًا ومساءً من قِبل من أنجبتهم الأصلاب والأرحام!! كم من أب وأم لا يجد من ولده إحسانًا وبرًا، ويزداد الأمر خطورة وشناعة حينما يكون السبب الباعث لعقوق الوالدين كونهما يأمران أولادهم بطاعة الله وعبادته، كونهم يأمرون أولادهم بالصلاة والبعد عن جلساء السوء والمحافظة على الأوقات والاهتمام بما يرضي الله -عز وجل- ويباعد من مساخطه، كما هو حال كثير من الناس اليوم مع آبائهم وعقوقهم لهم بسبب هذا الموقف من آبائهم ونصحهم لهم، فإلى الله المشتكى من هؤلاء الأقوام، وكان الله في عون الآباء والأمهات مما ابتلوا بجريمة العقوق من أولادهم.
أيها الإخوة في الله: إن من له أدنى علاقة بكتاب الله -عز وجل- وسنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ليلحظ ذلك الكم الهائل من نصوص القرآن والسنة التي تحث على بر الوالدين، وتنهى عن عقوقهما، وليس المقام مقام حصر واستيفاء، وإنما الغرض الإشارة إلى طرف من هذه النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تذكر وتؤكد هذا الحق العظيم، لعلها تكون موقظة عند من ابتلي بكبيرة العقوق.
كثيرًا ما يقرن الله -عز وجل- الأمر بطاعة الوالدين بعبادته -سبحانه وتعالى- كما في قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [النساء: 36]، وكما في قوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [الإسراء: 23].
وفي هذا الاقتران ما يدل على تعظيم شأن بر الوالدين، بل كثيرًا ما يوصي الله -عز وجل- بالإحسان إلى الوالدين كما في قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) [لقمان: 14]، وقوله سبحانه: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [البقرة: 83]، وقوله -عز وجل-: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) [الأحقاف: 15].
بل قرن الله -عز وجل- في كتابه الكريم شكر الوالدين بشكره سبحانه، فقال -عز وجل-: (اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان: 14]، فأمر الله تعالى الولد بشكر الوالدين، وقرن شكرهما بشكره سبحانه، وهذا والله غاية عظيمة في الوصاية بالوالدين.
كيف يقرن الخالق -عز وجل- الأمر بشكره بالأمر بشكر الوالدين؟! وإنما كان ذلك كذلك في حق الوالدين لأنك إذا تأملت فستجد أنهما السبب في وجودك، ثم من حين استقرار النطفة في قرارها إلى أن تولد وهم في حرص عليك، فالحديث كله من قِبل أبيك لأمك: إياكِ، إياكِ، حذرًا على النطفة، ثم يتأهبان لتربيتك وجلب المنافع إليك ودفع المضار عنك، ولو تُرِكتَ بعد والدتك في الأرض أكلتك الهوام وعاقرتك الحشرات.
ثم لا يزالان يطلبان رضاك حتى يبدو تميزك إن بكيت أو حزنت صرف عنك البكاء والحزن، وسلياك عن كل ما يصيبك بما في طاقتهما.
ثم انظر عناية أمك بك حال الصغر، ألم تجعل أمك حجرها لك سريرًا، تفيض نجاستك عليها فتغسل بولك وأذاك بيديها، وتميط عنك المكروه جهدها، كم ليلة باتت أمك ساهرة لسهرك، وباكية لبكائك، ومتألمة لألمك، تجوع إن جعت، وتشبع إن شبعت، وتُسر إن سررت، وتغتم إن اغتممت، ثم انظر كم أنة وصرخة أطلقتها عند الولادة.
ثم انظر تعب والدك وجده واجتهاده في سبيل توفيره لك الكساء الحسن، والمطعم الهنيء، والمشرب الروي، والمسكن المريح، حتى خارت قواه، وأمضى شبابه وقضى نشاطه في سبيل ذلك.
وأما الأحاديث التي وردت عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في شأن البر بالوالدين والإحسان إليهما والتحذير من عقوقهما فكثيرة جدًا، منها قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث جامع: "رضا الله في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد"، وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فاحفظ وإن شئت فضيع".
فانظر -رحمك الله- كيف أن طاعة الوالدين وبرهما سبب من أسباب حصول رضا الرب -عز وجل-، وكيف أن سخطهما مدعاة لسخط الله -عز وجل-، فأي منزلة بربك بر الوالدين أعظم من هذا!!
جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يستأذنه في الجهاد في سبيل الله، فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- "أحي والداك؟!"، قال: نعم، قال: "ففيهما فجاهد". وفي الحديث الآخر جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك، فقال: "هل لك أم؟!"، قال: نعم، قال: "فالزمها؛ فإن الجنة تحت رجليها".
تأمل -أيها المسلم- كيف كان بر الوالدين أعظم من الجهاد في سبيل الله، ولئن كانت النصوص في الحث على بر الوالدين كثيرة، فهي أيضًا كثيرة في التحذير من عقوقهما والإساءة إليهما.
صح عن نبيكم -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يدخل الجنة عاق"، ولما سئل رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ما الكبائر؟! قال: "الإشراك بالله"، قال له: ثم ماذا؟! قال: "عقوق الوالدين...". الحديث.
وروي عن أبي بكرة -رضي الله عنه- مرفوعًا أنه قال: "كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين؛ فإنه يعجل لأصحابه"، أي عقوبته في الدنيا -عياذًا بالله-.
أيها الإخوة المسلمون: إن المسلم الحريص على كسب رضا الله والبعد عما يسخطه، ليبتعد أشد الابتعاد ويحذر أشد الحذر من كل كلمة أو فعل أو تصرف يكون فيه أدنى عقوق لوالديه، ويجتهد كل الاجتهاد في أن لا يوصل لوالديه أي أذى نفسي أو معنوي، فضلاً عن أذى بدني أو مادي.
لقد كان السلف الصالح شديدي الحرص على بر والديهم، روي عن بعض ولد زيد بن الحسين أنه كان لا يأكل مع أمه على مائدة، فلما قيل له في ذلك وعن السبب في ذلك، فقال: "أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون عققتها".
ولما مات ذر بن عمر -وكان من الأولياء- قال أبوه عمرو بن ذر: "اللهم إني قد غفرت ما قصّر فيه من واجب حقي، فاغفر له ما قصر فيه من واجب حقك"، فقيل له: كيف كانت عشرته معك؟! فقال أبوه عمرو بن ذر: "ما مشى معي قط في ليل إلا كان أمامي ولا مشى معي في نهار إلا كان ورائي ولا ارتقى سقفًا كنتُ تحته".
وكان عروة بن الزبير أحد التابعين يقول في صلاته: "اللهم اغفر للزبير بن العوام وأسماء بنت أبي بكر"، يدعو لوالديه في صلاته.
وكان طلق بن حبيب من العباد والعلماء، وكان يُقبِّل رأس أمه، وكان لا يمشي فوق ظهر بيت وهي تحته إجلالاً لها.
وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: "مات أبي، فما سألت الله حولاً كاملاً إلا العفو عنه"، طيلة سنة كاملة بعد وفاة أبيه وهو يخص الدعاء طلبًا من الله -عز وجل- بأن يعفو عن أبيه ويتجاوز عنه.
وقال بعض العلماء: "من وقّر أباه طال عمره، ومن وقر أمه رأى ما يسره، ومن أحدَّ النظر إلى أبويه عقهما".
وقال رجل لعبد الله بن أبي بكرة: ما تقول في موت الولد؟! قال: ملك الحادث، قال: فما تقول في موت الزوج؟! قال: عُرسٌ جديد، قال: ما تقول في وفاة الأخ؟! قال: قص الجناح، قال: ما تقول في وفاة الوالد؟! قال: صدعٌ في الفؤاد لا يجبر.
ورأى ابن عمر -رضي الله عنهما- رجلاً قد حمل أمه على رقبته وهو يطوف بها حول الكعبة، فقال: يا ابن عمر: أتراني جزيتها؟! فقال له عبد الله بن عمر: "ولا بطلقة واحدة من طلقاتها، ولكن قد أحسنت والله يجزيك على القليل كثير".
أيها الإخوة المسلمون، أيها الإخوة المؤمنون: يا من يطمعون في بر والديهم طلبًا للثواب من الله، طلبًا للأجر العظيم من الله، وقيامًا بواجب الشكر للوالدين، والبر بهما والإحسان إليهما، اعلموا -رحمكم الله- أن بر الوالدين يتلخص في عدة أمور:
أولاً: طاعتهما، والطاعة دليل المحبة، ليس شيء أصعب على الوالدين من أن يرفض الابن لهما طلبًا، أو أن يخالف لهما رغبة، فذلك هو العقوق بعينه، وإن لم يبدِ للوالد ذلك بلفظه وكلامه.
ثانيًا: عدم نهرهما أو التضجر منهما ومن طلباتهما: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) [الإسراء: 23]، قال بعض السلف: "لو علم الله شيئًا أدنى من الأف لنهى عنه مع الوالدين". لا يصح لك -أيها الولد البار- أن يعلو صوتك في صوت والديك، أو أن يظهر تبرمك وتضايقك من طلبهما: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ).
ثالثًا: الإحسان إليهما بالقول الكريم والدعاء بالرحمة والاستغفار وبالبذل والعطاء.
رابعًا: مساعدتهما في أعمالهم وفي توفير المؤن المعيشية.
خامسًا: المحافظة على سمعة والديك وكرامتهم، وذلك بعدم الإساءة إلى الناس، كيلا يتعرضوا بالإساءة لوالديك بالشتم والتجريح، ففي الحديث أن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله: وهل يشتم الرجل والديه؟! قال: "نعم، يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه".
بر الوالدين -أيها الإخوة المسلمون- لا يقتصر على البر بهما في حياتهما، بل يشمل البر بهما بعد موتهما ووفاتهما.
جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله: هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟! قال: "نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما".
إنه مهما عمل الإنسان من عمل فلن يكافئ والديه على الإحسان، ولكن كما قال الأول: إن الله -سبحانه وتعالى- يجزي على القليل بالكثير، ويضاعف العمل وإن قلَّ، متى ما خلصت النية واستقامت السريرة.
هذه طائفة -أيها الإخوة المسلمون- مما ورد في شأن البر بالوالدين والتحذير من عقوقهما.
نسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا جميعًا للعمل بهذه الطاعة والعبادة، نسأله -سبحانه وتعالى- مما يبرون آباءهم وأمهاتهم، وأن يوفقنا للقيام بهذا الواجب العظيم، إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم لما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الفعال لما يريد، الحاكم سبحانه بين العبيد، المجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)، وأصلى وأسلم على نبيه المجتبى ورسوله المصطفى، صلاة وسلامًا دائمين بدوام الليل والنهار، وعلى آله وأصحابه الأخيار الأطهار، رضي الله عنهم أجمعين.
أيها الإخوة المسلمون: إن العاقل ليحار ويعجب أشد العجب حين يسمع عن صور من صور العقوق للوالدين تحصل في مجتمعات المسلمين، لاسيما ما يحصل عند كبر الوالدين أو كبر أحدهما، وهي السن التي يحتاج فيها الوالدان لولدهما، بربك أفيكون جزاء الوالدين العقوق والامتهان والإساءة والخذلان، لما ترعرع جسمك واشتد أمرك وبلغت سن الرجاء والأمل جازيتهما بالإحسان إساءة، وبالوصل قطيعة، وبالتواضع غلظة وفظاظة، وبالتربية جفاءً، وبالدنو بعدًا، وبالمحبة نفورًا، وبالبذل والعطاء منعًا وبخلاً، فقطعت ما أمر الله به أن يوصل، ومنعت ما أمر الله به أن يبذل؛ أبكيت عيونهما وأسهرت ليلتهما وضيقت صدورهما، إن قال: أقبِل، أدبرتَ، وإن قال لك: أدبر، أقبلتَ، وإن قال: نعم، قلت: لا، وإن قال: لا، قلتَ: نعم، كأنك موكل بخلاف والديك، ومنتصب لعقوق والديك، قابلت كل نعمة أفاضها عليك بضدها من الشر، ووالله لو بررتهما عند الكبر لكنت مكافئًا لا شاكرًا، بل لا تكون حتى مكافئًا أيضًا؛ لأنهما ربياك طيبة نفوسهما على غبطة وسرور بك، يريدان حياتك ويأملان مصلحتك، وأنت بخدمتهما عند الكبر وبالقيام عليهما متأفف تريد موتهما، وتبتغي استعجال الراحة منهما.
فيا أيها المضيع للحقوق، المتعاطي من بر الوالدين العقوق، الناسي لما يجب عليك، الغافل عما بين يديه: بر الوالدين عليك دين وأنت تتعاطاه بإتباع الشين.
تطلب الجنة بزعمك وهى تحت أقدام أُمك، حملتك في بطنها تسعة أشهر كأنها تسع حجج، وكابدت عند الوضع ما يذيب المهج، وأرضعتك من ثديها لبنًا، وأطارت لأجلك وسنًا، وغسلت بيمينها عنك الأذى، وآثرتك على نفسها بالغذا، وصيرت حجرها لك مهدًا، وأنالتك إحسانًا ورفدًا، فان أصابك مرض أو شكاية، أظهرت من الأسف فوق النهاية، وأطالت الحزن والنحيب، وبذلت مالها للطبيب، ووالله لو خيرت بين حياتك وموتها، لطلبت حياتك بأعلى صوتها، هذا وكم عاملتها بسوء الخلق مرارًا، فدعت لك بالتوفيق سرًّا وجهارًا، فلما احتاجت عند الكبر إليك، جعلتها من أهون الأشياء عليك، فشبعت وهي جائعة، ورويت وهي ظامئة، وقدمت عليها أهلك وأولادك بالإحسان، وقابلت أياديها بالنسيان، وصعب لديك أمرها وهو يسير، وطال عليك عمرها وهو قصير، وهجرتها ومالها سواك نصير، وهذا مولاك قد نهاك عن التأفيف، وعاتبك في حقها بعتاب لطيف، ستعاقب في دنياك بعقوق البنين، وفي أُخراك بالبعد من رب العالمين، يناديك بلسان التوبيخ والتهديد: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).
لأمـك حقٌ لـو علـمت كبـيرُ | كثيرك يـا هـذا لـديه يسيرُ |
فكم ليلةٍ بـاتت بثقـلك تشتـكي | لـها من جـواها أنَّةٌ وزفيرُ |
وفي الوضع لا تدري عليها مـشقةٌ | فمـن غصصٍ منها الفؤاد يطيرُ |
وكم غسّـلت عنك الأذى بيمينها | وما حجرها إلا لديك سـريرُ |
وتفتديـك مـما تشتكـيه بنفسها | ومن ثديها شربٌ لـديك نميرُ |
وكـم مـرةٍ جاعت وأعطتك قوتها | حنانًا وإشفاقًا وأنـت صغيرُ |
فآهٍ لـذي عقـلٍ ويتـّبع الـهوى | وآهٍ لأعمى القلب وهو بصيرُ |
فدونـك فـارغب في عميم دعائها | فـأنـت لما تدعو إليه فقيرُ |
ألا فاتقوا الله -أيها الإخوة المسلمون- لنتقي الله جميعًا في آبائنا وأمهاتنا، ولنتدارك تقصيرنا وتفريطنا ولنجدد العهد ولنجدد التوبة والعهد مع الله -عز وجل- في أن نُري الله من أنفسنا مع والدينا مع أبائنا وأمهاتنا، نُري الله -عز وجل- من أنفسنا خيرًا، فنجتهد في بِرِّهما والإحسان إليهم، ونقلع كل الإقلاع عن الإساءة إليهما أو العقوق بهما، ولنعلم أن ذلك أولاً وقبل كل شيء يصب في مصلحتنا نحن الأولاد، ويعود بالنفع علينا في الدنيا والآخرة قبل النفع للوالدين.
اجتهدوا -رحمكم الله- في خدمة آبائكم وأمهاتكم، وأوصلوا الإحسان إليهم في حياتهم وبعد وفاتهم، لعل الله -سبحانه وتعالى- أن يتغمد الجميع برحمته، وأن يسبغ على الجميع عافيته وفضله، وأن يختم لنا جميعًا بخير ما ختم به لعباده وأوليائه الصالحين.
هذا، وصلوا وسلموا على نبيكم -صلى الله عليه وسلم-.