العظيم
كلمة (عظيم) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وتعني اتصاف الشيء...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن محمد القنام |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الحج |
سؤال ينبغي لكل مسلم أن يسأل نفسه: وماذا بعد الحج؟! كيف هي حال العبد بعد هذه الفريضة؟! هل يعود الناس كما كانوا عليه قبل الحج؟! هل تغير سلوك المؤمن من سيئ إلى حسن، ومن حسن إلى أحسن؟!. إن الحج ميلاد جديد، فيجب على الحاج أن يتوب إلى الله تعالى، وأن يجعل حجه فرصة لتصحيح أعماله...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله، فإن تقواه أفضلُ زاد وأحسنُ عاقبةٍ في معاد، واعلموا أن الدنيا مِضْمَارُ سِباق، سبق قومٌ ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فرحم الله عبدًا نظر فتفكر، وتفكر فاعتبر، وأبصر فصبر، ولا يصبر على الحق إلا من عرف فضله ورجا عاقبته، (إِنَّ الْعَـاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود:49].
عباد الله: في الأيامِ القليلةِ الخاليةِ قضى الحجاجُ عبادةً من أعظم العبادات وقربةً من أعظم القربات، تجرّدوا لله من المخيطِ عند الميقات، وهلّتْ دموع التوبةِ في صعيد عرفاتٍ على الوجنات، خجلاً من الهفوات والعثرات، وضجتْ بالافتقار إلى الله كلُ الأصواتِ بجميع اللغات، وازدلفتِ الأرواحُ إلى مزدلفةَ للبَيَات، وزحفتِ الجموع بعد ذلك إلى رمي الجمرات، والطوافِ بالكعبة المشرفة والسعيِ بين الصفا والمروة في رحلةٍ من أروع الرَحلات، وسياحةٍ من أجمل السياحات، عادَ الحجاج بعد ذلك فرحين بما آتاهم الله من فضله، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:58].
نعم، لقد ودَّع المسلمون قبل أيام مناسبة عظيمة هي مناسبة الحج، وسعد الناس بأداء هذه الفريضة العظيمة، فلله الحمد والمنة على ما منّ به على حجاج بيته من إتمام نسكهم، وله الحمد والمنة على ما يسر لهم وأعانهم على إكمال هذه الشعيرة العظيمة، ونسأله -سبحانه- أن يتقبل من الحجاج، وأن يرزقنا ويرزقهم الاستقامة على دينه، إنه جواد كريم.
أيها المؤمنون: سؤال ينبغي لكل مسلم أن يسأل نفسه: وماذا بعد الحج؟! كيف هي حال العبد بعد هذه الفريضة؟! هل يعود الناس كما كانوا عليه قبل الحج؟! هل تغير سلوك المؤمن من سيئ إلى حسن، ومن حسن إلى أحسن؟!.
إن الحج ميلاد جديد، فيجب على الحاج أن يتوب إلى الله تعالى، وأن يجعل حجه فرصة لتصحيح أعماله، قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31]، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التحريم:8].
وإن من الخطأ -عباد الله- أن يظن الإنسان أن مواسم الطاعات فرصة للتخفيف من الذنوب، ثم إذا ذهبت هذه المواسم وقع في غيرها من المخالفات، وتنتهي فترة إقباله على الله تعالى بانتهاء هذه المواسم. يجب أن يعلم المسلم أن مواسم الخير هي تحوّل كامل لواقع المسلم، من حياة الغفلة والإعراض عن الله إلى حياة الاستقامة والإقبال على الله. وإن من إضلال الشيطان وخداع النفوس الأمّارة بالسوء أن ينتكس كثير من الناس على عقبيه، ويعود إلى معاصيه.
أيها المؤمنون: ها هو ربكم يناديكم بنداء الإيمان أن تستقيموا على شرعه، وتستجيبوا له ولرسوله، وتتقوه حق تقاته، وتعبدوه حق عبادته في حياتكم إلى مماتكم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
عباد الله: يا من أكرمكم الله بحج بيته، يا من وقفتم موقفًا تمنى ملايين المسلمين أن يقفوه، يا من اصطفاكم ربكم من بين خلقه لتقفوا على صعيد عرفة، يا من باهى بكم الملك الديان ملائكته، يا من قال لكم ربكم حين نفرتم من عرفات: أفيضوا عبادي مغفورًا لكم، لقد أرضيتموني ورضيت عنكم، أيها الأحبة في الله: بعد هذه النعمة العظيمة من الله وهي أن بلغنا الحج فلا بد من وقفات مع النفس:
الوقفة الأولى: نتذكر فيها عظيم نعمة الله علينا، حيث إنه مع كثرة ذنوبنا وعظيم خطايانا وزللنا يكرمنا الرحيم الرحمن بالوقوف بين يديه، يكرمنا بأن نستغفره ونستهديه، يكرمنا بأن ييسر لنا الحج ليغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، فما أكرمه من إله واحد أحد، وما أعظمه من رب غفور رحيم تنزه عن الصاحبة والولد.
الوقفة الثانية: كيف يقابل المؤمن هذه النعمة الإلهية والمنحة الربانية؟! (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ)[الرحمن:60]، فلا بد أن يكون شاكرًا لربه منيبًا إليه، وليس الشكر كما يتصوّره البعض بأنه الشكر اللساني فقط، لكنه في حقيقة الأمر هو الشكر القلبي، حيث يظل قلبك متعلقًا بخالقك، مستشعرًا نعمته عليك، ومعه الشكر العملي، فتكون بعيدًا عن كل ما يغضب المنعم عليك، قريبًا من كل ما يحبه ويرضاه، قال تعالى مبينًا هذا المعنى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ) [سبأ:13].
ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة حسنة، فقد كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه الشريفتان فداه نفسي وأبي وأمي والناس أجمعين، فيقال له: يا رسول الله، لم تفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيجيب صلوات ربي وسلامه عليه معلمًا للأمة حقيقة الشكر: "أفلا أكون عبدًا شكورًا"، ولنتخذ -عباد الله- من هذه الكلمات شعارًا لنا في تعاملنا مع ربنا -جل جلاله-.
الوقفة الثالثة: أبتدئها بسؤال: لو أنا رأينا رجلاً شيّد عمارة فنمّقها وزينها وجوّدها، ثم جاء رجل آخر وأخذ يشوّه ويهدم في ذلك البناء فماذا نقول عن هذا الآخر؟! ألا نقول: إنه ظالم باغي ونحاول منعه من ذلك العمل؟! فما بالكم إذا كان الذي بنى العمارة هو نفسه الذي أخذ في تشويهها أو هدمها، ألا يعتبر هذا ضربًا من الجنون؟!.
وها أنت -يا عبد الله- قد عدت من حجك -بإذن الله- كيوم ولدتك أمك، عدت وقد صفت صفحة أعمالك فعادت بيضاء نقية، فلا تسوّدها بالذنوب، وقد يقول الشيطان لأحدهم: أذنب ثم إذا جاء الحج المقبل غُسلت عنك ذنوبك، فنقول لمثل هذا: أضمنتَ العيش إلى العام القادم؟! أما تخشى أن يأتي عليك العام القادم وأنت تحت التراب مرتهن بعملك، قد بلي جسدك، وذاب عظمك، تتمنى العودة إلى الدنيا لتسبح الله تسبيحة واحدة فلا تستطيع؟!.
أما تخشى أن يأتي عليك العام القادم وأنت على فراش المرض لا تستطيع أن تجلب لنفسك شربة ماء؟! أما خشيت أن تتكاثر على قلبك الذنوب والخطايا فتغطيه طبقة الران والعياذ بالله، فتصبح لا تعرف معروفًا ولا تنكر منكرًا؟! تصبح طاعة الله أثقل عليك من حمل الجبال، وتكون معصيته أهون عليك من ذب الذباب عن أنفك.
أخي الحاج: أنت الآن أمام فرصة ذهبية لا تقدر بثمن، والذكي الألمعي هو الذي لا يدع الفرص تذهب من بين يديه هدرًا؛ فإنه يخشى أن لا تعود. فها أنت وقد حطت عنك خطاياك التي كانت تعوقك وتكبّلك عن فعل الخيرات وكانت تصدك عن ذكر الله، فأنت الآن أكثر قدرة على الإمساك بلجام نفسك والأخذ بها نحو الرضا الإلهي والجود الرباني، فلا تتركها وشأنها، فإنك إن تركتها عادت لما كانت ألفته:
والنفس كالطفل إن تتركه شبّ على | حبّ الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ |
فافطمها عن شهواتها، وردّها عن غيّها، وخذ بها إلى ما فيه صلاحها وفلاحها، (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس:9، 10].
يا من قصد البيت الحرام: ليكن حجك أول فتوحك وتباشيرَ فجرك وإشراقَ صبحك وبدايةَ مولدك وعنوانَ صدق إرادتك، (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا) [النحل:92].
فاتّقوا الله -عبادَ الله- في كلّ حين، وتذكَّروا قولَ الحقِّ في الكتاب المبين: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)[المائدة:27].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنّة، ونفعني وإيّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ولي الصالحين وملاذ الخائفين، قابِل دعوة من كانوا بين يديه أذلاّء منكسرين، المتجاوز عن ذنوب التائبين، أحمده -سبحانه وأشكره- أن جعل الجنة دار المتقين، وجعل النيران مثوى الكافرين ومآل الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإنه مما ينبغي للمؤمن أن يكثر الفكر فيه هو قبول العمل، وهذه القضية في الحج أو غيره من الأعمال الصالحات، فكم من الناس يؤدي العمل ولا يلتفت إلى قضية القبول، وكأن عنده ضمانا من الله بالقبول، بينما يصف ربنا تبارك وتعالى حال العباد الصالحين إذ يقول: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون:60، 61].
أخرج الإمام أحمد أن أمّنا أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المذكورين في الآية: "أهم الزناة والسرّاق وشربة الخمر، يفعلون ذلك وهم يخافون الله؟!", فأجابها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "لا يا بنت الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو مع ذلك يخاف الله -عز وجل-".
وقد كان هذا دأب سلفنا الصالح، فهذا محمد بن واسع يقوم ليله يبكي, حتى إن جيرانه لم يناموا من بكائه، فلما كانت صلاة الفجر كلّمه جاره فقال له: ارفق بنفسك وبنا، فوالله ما نمنا البارحة من بكائك، قال: "والله، إني عندما صففت قدميّ بين يدي الله البارحة, تصورت أن الجبار -جلّ جلاله- يناديني فيقول: يا محمد: اعمل ما شئت، فلن أتقبل منك". فاحرصوا -رحمني الله وإياكم- على القبول من ربكم في كل عمل تعملونه صغيرًا كان أم كبيرًا".
فكن -يا عبدَ الله- ممّن سلك سبيلَ النجاةِ، وعمل لأخراه، وأصلَح دنياه بطاعةِ مولاه، وتذكّر الموتَ وكرباتِه وما يكون بعدَه من الأهوال، وأعِدَّ لذلك اليوم أفضلَ ما تقدِر عليه من الأعمال، وإنّ أجلَ الله لآت، وما أنتم بمعجزين.
عبادَ الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلّى عليَّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا". فصلّوا وسلِّموا على سيِّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صلّ وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين وخاتم الأنبياء والمرسلين نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين...