المتكبر
كلمة (المتكبر) في اللغة اسم فاعل من الفعل (تكبَّرَ يتكبَّرُ) وهو...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد |
من معاني الفتاح العظيمة أنه الذي -بإرادته وقدرته- يفتح كل مغلق فيكشف الكرب، ويزيل الغمة، ويرفع البلاء، ويكشف العسر، فلو أغلقت الأبواب في وجهك، أو قطع العباد عليك الأمل في الأسباب الدنيوية المعلومة، اذهب إلى الفتاح، فإن استقر هذا المعني في قلبك وعرفت الله بهذا المعنى فأنت إذاً أقوى إنسان في الوجود، اذهب وتذلل وابكي واسجد بين يديه سيفتح لك ما ..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى، ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102]
وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]
وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فمن لا يتقي الله تشابهت عليه السبل، قال -تعالى-: (إن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا) [الأنفال:29]، واسألوه العون على الطاعة والاستقامة، والتمسك بالدين؛ فإنه -سبحانه- هو المعين، من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، وكل ما هو آت قريب، وإن ربكم لم يخلقكم عبثا ولم يترككم سدا، فتزودوا من دنياكم ما تحرزون به أنفسكم غدا؛ فالأجل مستور، والأمل خادع.
أيّها المسلمون: من أسماء الله تعالى التي جاء ذكرها في نصوص الكتاب وفي السنّة اسم الله الفتّاح، قال تعالى : (وَهُوَ الفَتَّاحُ العليمُ)، ومنهج أهل السنّة والجماعة في أسماء الله وصفاته أنه يجب إثبات ما أثبت الله لنفسه أو رسوله من أسماء وصفات، ونفي ما نفى الله عنه أو رسوله من أسماء وصفات.
والفتاح -عباد الله- صيغة مبالغة من الفتح، وله العديد من المعاني العظيمة والشاملة التي ينبغي أن تكون حاضرة في عقل وقلب كل مسلم صادق، ومن تلك المعاني والدلالات:
أن الفتاح أيّ الحاكم الذي يفتح بين عباده، ويحكم بينهم بشريعته، فيثيب الطائعين، ويعاقب العاصين في الدنيا والآخرة، قال -تعالى-: (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) [سبأ:26]، وقال -تعالى-: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) [الأعراف:89]، وهذا الفتح في الدنيا بأن ينصر الحق وأهله، ويذل الباطل وحزبه، وينزل بهم العقوبات، قال ابن كثير: أي افصِلْ بيننا وبين قومنا، وانصرنا عليهم، (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) أي: خير الحاكمين، فإنك العادل الذي لا يجور أبداً، وأما في الآخرة فالله كذلك الفتاح، الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، فيثيب الطائع بالجنات، ويعاقب العاصي بصنوف العذابات، ولهذا قال -سبحانه-: (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) [سبأ:26]، وقد سمى الله -عزَّ وجلَّ- يوم القيامة لعظمته وهوله بيوم الفتح كما قال -سبحانه-: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) [السجدة:28-29].
عباد الله: ومن معاني اسم الله الفتاح -ثانيا- : أن الله هو الذي يفتح لعباده في جميع أبواب الخيرات والبركات، قال -تعالى-: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا) [فاطر:2]، أي: يفتح لعباده منافع الدنيا والدين، فيفتح لمن اختصهم بلطفه وعنايته أقفال القلوب، ويدُرّ عليها من المعارف الربانية، والحقائق الإيمانية ما يُصلِح أحوالها وتستقيم به قلوبهم على صراطه المستقيم، ويفتح لعباده أبواب الرزق الواسعة، وأسباب جلبه المختلفة، ويهيئ للمتقين من الأرزاق وأسبابها ما لا يحتسبون، ويعطي المتوكلين فوق ما يطلبون ويؤملون، وييسر لهم، بل إن الفتاح بلطفه وتوفيقه يفتح بصائر الصادقين: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ) [هود:88]، فيسهّل لهم سبل الخير والطاعة، ويهديهم إليها، وهكذا بحوله وقوته لا بحولهم وقوتهم.
ومن أسماء نبينا -صلى الله عليه وسلم- في التوراة وصفته فيها ما ورد عن عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ -رضي الله عنهما قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَ: "أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي القُرْآنِ: وذكر منها:" وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا" [البخاري(2125)]، وبفتح الله لنا على يدي نبيه محمد عليه الصلاة والسلام أشرقت الأرض برسالته بعد الظلمات، وتألفت به قلوب المسلمين بعد الشتات، صلوات الله وسلامه عليه.
ومن معاني الفتاح العظيمة أنه الذي -بإرادته وقدرته- يفتح كل مغلق فيكشف الكرب، ويزيل الغمة، ويرفع البلاء، ويكشف العسر، فلو أغلقت الأبواب في وجهك، أو قطع العباد عليك الأمل في الأسباب الدنيوية المعلومة، أو أظلمت عليك الدنيا، وخنقتك دموعك، اذهب إلى الفتاح، فإن استقر هذا المعني في قلبك وعرفت الله بهذا المعنى فأنت إذاً أقوى إنسان في الوجود، اذهب وتذلل وابكي واسجد بين يديه سيفتح لك ما استعصى عليك.
ومن معاني ودلالات اسم الفتاح أنه الذي يفتح أبواب رحمته ورزقه للطائعين، كما أنه قد يفتح أبواب البلاء والهلاك على الكافرين ويفتح قلوب المؤمنين، وعيون بصائرهم ليبصروا الحق، وهو -سبحانه- الفتاح الذي يحكم بين عباده في الدنيا والآخرة، ويفتح بينهم بالحق والعدل، قال نوح -صلى الله عليه وسلم-: (رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء:117-118]، وقد استجاب الله -سبحانه- لرسله ولدعائهم، ففتح بينهم وبين أقوامهم بالحق والنصر، فأنجى الله رسله وأتباعهم، وأهلك أعداءهم في الدنيا، فإذا ضاقت عليك الطُرُق وضاقت عليك الأرض بما رَحُبَت، فالجأ إلى ربِّك الفتاح يفتح لك كل عسير، وييسر لك أمرك.
ومن المعاني الجليلة لاسم الله الفتاح، أنه يفتح لعباده المؤمنين ما استعصى عليهم من القلوب والديار، قال تعالى ممتنا على نبيّه ومن معه من الصحابة على فتح مكّة: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) [الفتح:1]، وقال: (وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) [الفتح:18]، وهو الفاتح أيضًا بمعنى الناصر كما قال -تعالى-: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ) [الأنفال:19]، قال أهل التفسير: معناه إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، والخلق كلهم مفتقرون إلى الفتاح العليم، وليس بيد أحد منهم من الأمر شيء.
أيها الأخوة الكرام: ويتضح لنا من خلال ما سبق ذكره من معاني الفتح واسم الفتاح أن الفتوح كلها تندرج تحت نوعين رئيسين بينهما الإمام ابن القيم في نونيته الشهيرة فقال:
وَكَذِلكَ الفَتَّاحُ مِنْ أَسْمَائِهِ | والفَتْحُ في أَوْصَافِهِ أَمْرَانِ |
فَتْحٌ بِحُكْمٍ وَهْوَ شَرْعُ إِلَهِنَا | والفَتْحُ بالأَقْدَارِ فَتْحٌ ثانِ |
والربُّ فَتَّاحٌ بذَيْنِ كِلَيْهِمَا | عَدْلاً وإِحْسَاناً مِنَ الرَّحْمَنِ |
عباد الله: وهنا حقائق متعلّقة بمعرفة معاني الفتح المستفادة من اسم الله الفتاح: فأوّل حقيقة هي: أن الفتوح كلها بيد الله، فالفتح والنصر بيد الله وحده، يفتح على من يشاء، ويخذل من يشاء، فعلى العباد أن يطلبوا الفتح والنصر ممّن يملكه وهو الله سبحانه، ويعملوا بطاعته لينالوا مرضاته، ويسعدوا بفتحه ونصره، وقد نسب الله تعالى الفتوح إلى نفسه، ليُنبه عباده على طلب النصر والفتح منه لا من غيره؛ لذلك قال الله -تعالى-: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) [الفتح:1]، وقال -جلَّ ثناؤه-: (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ ..) [المائدة:52]، وقال -تعالى-: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [الصف:13]، إذًا، فليس علينا إلا أن نجتهد ونأخذ بالأسباب، أما النصر فهو من عند الله -سبحانه- وتعالى، روى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: "لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ" [البخاري(4210)]. نفهم من قوله: "يفتح الله على يديه" أن الفتح منه سبحانه، وإنما الأسباب من العباد.
ثاني الحقائق: أن الله -جل جلاله- بيده مفاتيح كل شيء، فهو الفتاح الذي يفتح ما استغلق من المحسوس والمعقول، فيُذهِب الفقرَ بالغنى، ويزيل الهمومَ بالسرور، والجهلَ بالعلم، والضلالةَ بالهدى، ويزيل الكروب بالتفريج: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [فاطر:2].
كما فتح لعباده أبواب الرحمة والأرزاق المتنوعة، وفتح لهم خزائن جوده وكرمه المتدفق، فما يأتيهم من مطر أو رزق لا يقدر أحد أن يمنعه، وما يمسك -سبحانه وتعالى- ويمنع، فلا يستطيع أحد أن يرسله، فهو الغني عنده الخزائن وبيده الخير، الجواد المنان الفتّاح.
عباد الله: وحقيقة ثالثة وهي: أن الفتوح ترتبط ارتباطا وثيقا بالصلاح والتقوى، فإن ما يفتحه الله على من يشاء من عباده العلم والحكمة والفقه في الدين على من يشاء من عباده يكون بحسب التقوى والصلاح، كما قال -سبحانه-: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) [البقرة: 282]، ويقول -جلَّ وعلا-: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الزمر:22]، يقول القرطبي: "وهذا الفتح والشرح ليس له حد، وقد أخذ كل مؤمن منه بحظ .. ففاز الأنبياء بالقسم الأعلى، ثم من بعدهم من الأولياء، ثم العلماء، ثم عوام المؤمنين ولم يُخيِّب الله منه سوى الكافرين".
ورابع الحقائق -وهي قد تخفى على كثير من العباد-: أن بعض الفتوح يكون استدراجا من الله -عز وجل- لعباده العاصين الغافلين، وقد يكون الفتح من الله تعالى من أنواع النعم والخيرات على بعض عباده، لا عن رضا أو محبة بل استدراجًا لهم، فإذا تركوا ما أُمِروا به، ووقعوا فيما نُهوا عنه عوقِبوا بالاستدراج، قال -سبحانه-: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ* فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 44-44]، فقد يكون من هذا الابتلاء الزيادة في النِعَم، ما يكون زيادة في إقامة الحُجج عليه، فيكون من شأنه أن يفرح، وحينها تأتيه العقوبة فجأة، فهذه عقوبة الذين لا يتعظون برسائل الله تعالى المتتالية، وقارون نموذج على هذا الصنف، فقد فتح الله عليه من كنوز الدنيا ما يفوق الوصف، فاستدرجه حتى قال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص:78]، فأخذه الله (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) [القصص:81].
والله -عزَّ وجلَّ- يُرسل إليك -يا عبد الله- في كل ثانية من عمرك رسالة؛ فإما أن تفهمها، وإما أن تغمض فكرك عنها، فتحيق عقوبة الغافل، وذلك أن تزداد عليه وتأتيه من كل الطرق، المحن والابتلاءات لعله يُفيق من غفلته، فيُبتلى في داره وفي عمله ورزقه وحتى فيما بينه وبين نفسه، فيشعر بالوحشة، ويظل يُبتلى حتى يعود؛ فعنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ" ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام:44] [أحمد (17311)].
اللهم افتح علينا بفتوح العارفين، وأفض علينا بصنوف الخيرات والبركات ما علمنا منه وما لم نعلم، أقول ما تسمعون وأستغفر لي ولكم وللمسلمين أجمعين .
الخطبة الثانية
الحمد لله على نعمائه، والصلاة والسلام على خير أنبيائه، وإمام شفعائه، نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعلى أصحابه وأحبابه وأصفيائه.
أما بعد: سبحان الله الفتاح ما أكرمه وما أرحمه بعباده!، وما أعظم عنايته بخلقه!، فلو فتح الله المطر على الناس، فمن ذا الذي يحبسه عنهم؟!، كما فتح الماء على قوم نوح؛ وحين قال ابنه سأصعد الجبل لأحتمي من الماء قال الله على لسان نوح: (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) [هود: 43]، ولو حبس عنهم المطر سنين عديدة، ما استطاعوا أن يفتحوا ما أغلقه الله، قال -تعالى-: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) [الملك:30]، وقال -تعالى-: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ) [يونس:107]
ولو حبس الله عن الخلق نور الشمس فمن ذا الذي يفتحه؟. ولو حبس الله عنهم الهواء الذي يتنفسون منه فمن ذا الذي يفتحه ويرسله؟ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ..) [القصص:71]، وقال -تعالى-: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [فاطر:2].
عباد الله: إن لله فتوحا في ملكه كثيرة وعظيمة بعضها ظاهرة وبعضها خافية لا يدركها إلا من أنار الله بصيرته وطهر قلبه، واصطفاه وهداه لطريق العلم به وبأسمائه وصفاته؛ فكم زوى من علوم وحكم عن خلق آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، وكم بسط على عبد من نعم وهو عنه غضبان، ولا يفتح من علوم الحكمة والإيمان إلا على من أحبه واصطفاه، ولفتح الله في ملكوته صور ومظاهر؛ فمن صوره: فتحه -سبحانه- لعباده باب التوبة والقبول، وجاء من حديث أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: "إِنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا" [مسلم: (2759)].
ومن صور فتحه: ما يفتح الله -عز وجل- على نبيه يوم القيامة من أنواع الثناء والمحامد؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا، لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ" [البخاري: (4712)].
وقد سمى الله تعالى يوم القيامة بيوم الفتح؛ لأنه يوم يفتح الله فيه على نبيه بما يجعله أهلا للشفاعة العظمى، ولأنه يوم يفتح الله بين نبيه وبين مخالفيه ومن لم يتبع شريعته، ويوم يقضي فيه بين العباد فيما كانوا يختلفون فيه، يقول -تعالى-: (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) [السجدة:29].
ومن صور فتحه أيضا: فتحه -سبحانه- أبواب السماء لإدراك النفحات ونزول البركات وإجابة الدعوات، قال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96]، ومنه حديث ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: " إِذَا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْبَاقِي، يَهْبِطُ اللهُ -عزَّ وجلَّ- إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ تُفْتَحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يَبْسُطُ يَدَهُ، فَيَقُولُ:" هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى سُؤْلَهُ؟ فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ، حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ" [ أحمد (3673)].
ومن صور فتحه كذلك: ما يفتح الله على العبد المؤمن قبل موته بعمل صالح، يختم الله حياته وعمره به، ويوفق لأن يكون من أصحاب الخاتمة الحسنة، من حديث عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا عَسَلَهُ " قَالُوا: وَكَيْفَ يَعْسِلُهُ؟ قَالَ:" يَهْدِيهِ إِلَى عَمَلٍ صَالِحٍ حَتَّى يَقْبِضَهُ عَلَيْهِ" [شرح مشكل الآثار (2640)].
أيها المؤمنون: وإذا عرفنا معاني اسم الله الفتاح وصنوف فتوحه الخافية والظاهرة على خلقه، فقد توجب علينا أن نعرف ما هي الآثار الإيمانية لفقه اسم الله الفتاح، وكيفية تحقيق الحياة الطيبة في ظل هذا الاسم العظيم الذي لا يستطيع عبد ما أن يتغافل أو يتشاغل عن فقه هذا الاسم العظيم الذي لا معنى للحياة بدونه، ومن هذه الآثار:
أولا: قرع أبواب السماء، فالله الفتاح -سبحانه- من يفتح ويحكم بين عباده في الحياة الدنيا وفي الآخرة بالحق والعدل، لذلك توجهت الرُسُل إلى الله الفتاح أن يفتح بينهم وبين قومهم المعاندين فيما حل بينهم من الخصومة والجدال، ومن هنا كان لزاماً أن نوجه رسالة إلى معاشر الدُعاة أن ينهجوا نهج أسوتهم من الأنبياء والرُسُل في معاملة قومهم، فحينما يشعر بأن دعوته لقومه لا تُجدي نفعًا، عليه أن يلجأ إلى الدعاء إلى ربِّه الفتاح كما دعا نوح -عليه السلام- فقال: (رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء:117-118].
وقال شعيب لمّا استعصى عليه قومُه: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) [الأعراف:89]، والآيات كثيرة وبها الكثير من الدلالات.
ثانيا: اسم الله الفتاح يجعل المسلم مفتاحا للخير مغلاقا للشرّ؛ فيكون نافعا حيث وقع مثل الغيث المبارك، أينما حل نفع، لا يستغني عنه الخلق لكثرة فعله للخيرات، وسده لأبواب الشر والمنكرات؛ فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:"إِنَّ هَذَا الْخَيْرَ خَزَائِنُ، وَلِتِلْكَ الْخَزَائِنِ مَفَاتِيحُ، فَطُوبَى لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ، مِغْلَاقًا لِلشَّرِّ، وَوَيْلٌ لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مِفْتَاحًا لَلشَّرِّ، مِغْلَاقًا لِلْخَيْرِ" [ابن ماجه: (238)]، فعلى المسلم أن يكون مباركًا حيثما كان، ويظل يفكِّر في سبل وطرق هداية الناس من حوله وتفتيح أبواب الخير أمامهم.
ثالثا: تحقيق التوحيد والمتابعة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهي أعظم المفاتيح للخير والرزق، وأعظم ذلك الخير الجنة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ -أَوْ فَيُسْبِغُ- الْوَضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ" [مسلم (234)]، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "مَا قَالَ عَبْدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَطُّ مُخْلِصًا، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، حَتَّى تُفْضِيَ إِلَى العَرْشِ، مَا اجْتَنَبَ الكَبَائِرَ" [صحيح الترغيب والترهيب(1524)].
رابعا: دوام التوكُّل، والارتباط بمن له الأمر ومن خزائن الدنيا والآخرة بيده، ومقاليد السموات والأرض تحت مشيئته، وأن تعتمد على الفتاح -سبحانه- قبل الأخذ بالأسباب، وتطلب منه وحده مفاتيح الخير، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَامَ عَلَى المِنْبَرِ، فَقَالَ: "إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ" [البخاري: (2842)].
بهذا وبهذا وحده يحقق المسلم الحياة الطيبة ويستكمل عرى إيمانه، ويهنأ بما فتح الله عليه بفتوح العارفين والصالحين.
فاللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذلّ الشرك والمشركين، واهدم ما شيده الكفرة في ربوع المسلمين وطهر بلاد المسلكين من رجسهم، واحصن قلاع التوحيد في ديارهم...
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى.
اللهم إنا نسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ونسألك اللهم الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، وعضال الداء، وخيبة الرجاء، وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح نياتنا، وأصلح ذرياتنا، وأصلح أزواجنا، وأصلح ذات بيننا.
اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وألسنتنا من الكذب، وأعمالنا من الرياء، وأعيننا من الخيانة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا عبيدك، بنو عبيدك، بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عدلٌ فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب همومنا وغمومنا، وجلاء أحزاننا، وسائقنا وقائدنا إليك وإلى رضوانك والجنة جنات النعيم.
اللهم اجعلنا ممن اتبع القرآن فقاده إلى رضوانك والجنة، ولا تجعلنا ممن تبعه القرآنُ فزُجَّ في قفاه إلى النار، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك أن تجعل القرآن العظيم لنا في الدنيا قريناً، وفي القبر مؤنساً، ويوم القيامة شفيعاً، وعلى الصراط سائقاً وقائداً، وإلى الجنة موصلاً، برحمتك يا أرحم الراحمين
اللهم نَفِّس كرب المكروبين، وأذهب همَّ المهمومين، واقضِ الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.