الغفور
كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...
العربية
المؤلف | سعود بن ابراهيم الشريم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
إنه لن ينظر الناسُ إلى المُتشبِّع بما لم يُعطَ إلا نظرةَ شذَرٍ واستِهجانٍ واحتِقارٍ؛ فإنه -وإن لم تنطِق ألسِنَتُهم بذلك في وجهِه- فلا أقلَّ من أن تعلِكَه علكًا في قفاه، وإن من أشقَى الحماقات أن ينسَى المُتشبِّع معرفةَ الناس لحقيقته وقدرِه قبل أن يتشبَّع بما لم يُعطَ. وإنما قادَ أمثالَ هؤلاء إلى هذا الحُمق قلَّةُ الرِّضا بما قسَمَ الله، وحبُّ المحمَدة من الناس على ما لا حقيقةَ له، ومَيلُ النفس إلى التكلُّف وإخفاء...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الأول والآخر، والظاهر والباطن، خلق فسوَّى، وقدَّر فهدَى، بيدِه ملكوت كل شيءٍ وهو يُجيرُ ولا يُجارُ عليه، أحمدُه -سبحانه- وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستغفِرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله بعثَه الله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا مُنيرًا، فصلواتُ الله وسلامُه عليه، وعلى آل بيتِه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المُؤمنين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -جل وعلا-، واعلموا أن هذه الدنيا دارُ ممرٍّ لا دارَ مقرٍّ، وأن الله مُستخلِفكم فيها فينظر كيف تعملون؛ فمن اتَّقاه فقد رشَد، ومن فرَّط في جنب الله فلا يلومنَّ إلا نفسَه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].
أيها الناس: المؤمنُ الغر هو صفِيُّ السريرة، طيبُ الظاهر، لا غِلٌّ فيه ولا حسَد، يصِلُك قرائِنُ باطنه قبل أن ينطِقَ لِسانُه، وقد تأتيك بديهتُه بخبر ما يُكِنُّه من خيرٍ.
ومهما تكُن عنده من خليقةٍ | وإن خالَها تخفَى الله الناسِ تُعلَم |
ولحُسنُ قولِه، وقسَماتُ وجهه، ولِسانُ حالِه؛ كلُّها كفيلةٌ في وصفِ معدنِه، وترجمة مخبَره؛ فاللسانُ رِشاءُ القلب، وكلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضَح.
ثم إنه من الجميل -أيها المسلم- أن يراكَ الناسُ كما أنت، دون تزويقٍ أو تدنيسٍ أو تزويرٍ، كما أنه من الجميل أيضًا في تعامُلِك أن لا تتكلَّف مفقودًا، ولا تبخَل بموجود، وأن يراكَ الناسُ كما تحبُّ أنت أن تراهُم؛ لئلا يزدرُوك وتزدرِيَهم.
اعرِف قدرَك قبل أن تعرفَ قدر الناس، لا تلبس لِباسًا غيرَ لِباسِك، ولا تُلقَّب بلقبٍ غير لقبِك، لا تستأسِد وقد خلقَك الله حمَلاً وديعًا، ولا تتشبَّع بما لم تُعطَ؛ فإنك بذلك كلابِس ثوبَيْ زُورٍ.
أخرج البخاري ومسلمٌ من حديث أسماء -رضي الله عنها- أن امرأةً قالت: يا رسول الله: إن لي ضرَّةً فهل عليَّ جُناحٌ إن تشبَّعتُ من زوجي غيرَ الذي يُعطِيني؟! فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "المُتشبِّعُ بما لم يُعطَ كلابِس ثوبَيْ زُورٍ".
الله أكبر؛ ما أعظم هذا الحديث! والله أكبر؛ كم يُلامِسُ أُسًّا في واقعِنا؟!
ذكر شُرَّاحُ الحديث أن معناه: أن الذي يظهر بما ليس عنده يتكسَّبُ بذلك عند الناسِ فهو مذمومٌ كما يُذمُّ من لبِسَ ثوبَيْ زورٍ.
فيا لله العجَب! كم في مُجتمعاتنا من هذا الصِّنف؟! كم لابِسٍ ثوبًا غيرَ ثوبِه، ومُشتمِلاً رداءً ليس رِداءَه؛ فقيرٌ يتظاهرُ بالغِنَى، وبخيلٌ يتظاهرُ بالكرَم، وبليدٌ يتظاهرُ بالذَّكاء، وتافِهٌ يتظاهرُ بالعِلمِ، كلُّ واحدٍ منهم يتشبَّعُ بمحمَدةٍ له من الناس ليست فيه، ولا هي منه في وِردٍ ولا صدَرٍ.
مثَلُه كمثَلِ هِرٍّ يحكِي انتِفاخًا صولَةَ أسدٍ هَصُورٍ، أو كبُغاثٍ نسِيَ قدرَه فاستنثَر. وتلك -لعمْرُ الله- نفخةٌ -نعوذُ بالله من غوائلِها-.
إنه لن ينظر الناسُ إلى المُتشبِّع بما لم يُعطَ إلا نظرةَ شذَرٍ واستِهجانٍ واحتِقارٍ؛ فإنه -وإن لم تنطِق ألسِنَتُهم بذلك في وجهِه- فلا أقلَّ من أن تعلِكَه علكًا في قفاه، وإن من أشقَى الحماقات أن ينسَى المُتشبِّع معرفةَ الناس لحقيقته وقدرِه قبل أن يتشبَّع بما لم يُعطَ.
وإنما قادَ أمثالَ هؤلاء إلى هذا الحُمق قلَّةُ الرِّضا بما قسَمَ الله، وحبُّ المحمَدة من الناس على ما لا حقيقةَ له، ومَيلُ النفس إلى التكلُّف وإخفاء الحقيقة بتزويرٍ أو تدليسٍ، وأحلاهُما مُرٌّ.
قال عليٌّ -رضي الله عنه-: "عجِبتُ لمن يُقال: إن فيه الشرَّ الذين يعلمُ أنه فيه كيف يسخَط؟! وعجِبتُ لم يُوصَفُ بالخير الذي يعلمُ أنه ليس فيه كيف يرضَى؟!".
المؤمنُ الصادقُ -عباد الله- لا يكذِب، والمُتشبِّعُ بما لم يُعطَ لم يجعَل لصدقِه مكانًا في قلوبِ الناس، كذِبٌ يأباه الشرعُ، وتأباهُ قبل ذلك الفِطَرُ السليمةُ؛ فقد كان مما قالَه أبو سفيان -رضي الله عنه- في جاهِليَّته أثناء مُحاورتِه مع هرقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فوالله؛ لولا الحياء أن يأثِرُوا عليَّ كذِبًا لكذبتُ عنه".
إنه الكذِبُ والتدليسُ الذي خُدِعَت به المُجتمعات في حياتِهم الاجتماعية والسياسية والعلمية والاقتصادية، وسائر شُؤون الحياة.
فكم رأينا في المُجتمعات من يصعَدون على أكتاف الآخرين وكأنَّهم رُوَّادُ هذا الصُّعود، وكم رأينا من ذلكم أشكالاً وألوانًا في زعم مُنجَزاتٍ وهي لآخرين، أو في تصدُّرِ مُؤلَّفاتٍ وهي من صُنع آخرين، أو في زعم شهاداتٍ ورُتَبٍ علميَّةٍ وهي ليست لهم ولا هُم لها. وإنما أعماهم التشبُّع بما لم يُعطَوا فدعَتْهم شُهرتُهم أو منصِبُهم أو تِجارتُهم أن يُلقَّبُوا لقبًا علميًّا أو سياسيًّا أو قَبَليًّا وهو ليس لهم، ولا هُم له.
ويعرِفُ الناس أنهم إنما حصَلوا عليها تشبُّعًا بتجارةٍ أو شُهرةٍ أو منصبٍ يُكمِلون به نقصَهم، ويسُدُّون به ثُلمتَهم، ويُروُون به غُرورَهم ولهثَهم الذي لا يقنَعُ بالحقيقة.
إذا لُقِّبَ الدكتورَ من كان تاجِرًا | وسُمِّي شيخًا كلُّ من زادَ مالُهُ |
وقد قامَ بالتنـظيرِ كـلُّ مُهرِّجٍ | وقد بانَ عند الناس جهرًا ضلالُهُ |
فـذاكَ -لعَمْـرُ الله- أُسُّ بلِيَّةٍ | وذلـك طبعٌ في الورَى يُرثَى لهُ |
قال الفاروقُ -رضي الله عنه-: "من حسُنَت نيَّتُه في الحقِّ -ولو على نفسِه- كفَاه الله ما بينَه وبين الناس، ومن تزيَّن بما ليس فيه شانَهُ الله".
ومن أمثال هؤلاء المُتشبِّعين بما لم يُعطَوا: الرُّويبِضة، وهو الرجلُ التافِهُ المُتفيقِه يتكلَّمُ في أمور العامَّة، والمُتطبِّبُ، والمُتعالِمُ، والمُتخلِّفُ عن الحقِّ ونُصرته لنَيلِ محمَدةٍ مُلتاثَة، وثناءٍ أعوَر، واستِسمان ذي ورَمٍ.
وما علِمَ المخدوعُون أنه ليس كلُّ بيضاء شحمة، ولا كلُّ سوداء فحمة، والصدوقُ من صدَّقَه الناسُ في عُسرِه ويُسرِه، وضعفِه وقوَّتِه، وماضِيه ومُستقبلِه.
في الصحيحين: أن رجالاً من المنافقين في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا إذا خرجَ النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الغَزو تخلَّفُوا عنه، وفرِحوا بمقعَدهم خِلافَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا قدِمَ النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتذَرُوا إليه وحلَفُوا، وأحبُّوا أن يُحمَدوا بما لم يفعَلوا، فأنزلَ اللهُ: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران: 188].
باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسِي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقه وامتِنانه.
وبعد:
فاتَّقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد شبَّه المُتشبِّع بما لم يُعطَ بلابِس ثوبَيْ زورٍ، وليس ثوبَ زورٍ واحدٍ، وما ذاك -عباد الله- إلا لخطورةِ هذا الأمر على الفرد والمُجتمع، وأنه يدورُ في فلَك التزوير في الشهادات والمُعاملات والأخلاق، وغير ذلكم من أنواع التزوير.
وأما كونُها كثوبَيْ زُورٍ فلأنَّ الثوبَ الأول: كذِبُه على نفسِه بما ليس له، والثوبَ الثاني أنه كذَبَ على غيرِه بما لم يُعطَ.
وقد يصِلُ تشبُّعُ المرء بما لم يُعطَ -عباد الله- إلى الوقوع في كبيرةٍ من كبائر الذنوبِ، وهي: التشبُّعُ بحقوق الناس واقتِطاعِها بغير وجهِ حقٍّ؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من اقتطعَ حقَّ امرئٍ مُسلمٍ بيمينِه حرَّم الله عليه الجنةَ، وأوجبَ له النارَ". قالوا: فإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟! قال: "وإن قضيبًا من أراك، وإن قضيبًا من أراك، وإن قضيبًا من أراك". رواه مسلم.
ومن ذلكم: التشبُّعُ باقتِطاع الأراضين بغير حقِّها؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من اقتَطَع شبرًا من الأرض بغير حقِّه طوَّقه الله إياه يوم القيامة من سبع أراضِين". رواه مسلم.
ولا يقِفُ الأمرُ عند هذا الحدِّ -عباد الله-؛ فمن الناس من لا يقنَعُ بما آتاه الله وقسمَه له، فيتشبَّع بالانتِسابِ إلى غير أبيهِ، أو إلى قومٍ ليس منهم، وهذا التشبُّعُ من كبائِر الذنوبِ؛ لما فيه من الوعيد الشديد، فقد قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس من رجُلٍ ادَّعَى لغير أبيهِ وهو يعلمُه إلا كفَرَ بالله، ومن ادَّعَى قومًا ليس له فيهم نسَبٌ فليتبوَّأ مقعدَه من النار". رواه البخاري.
وإنه ليعظُمُ إثمُ هذا التشبُّع حينما ينتسِبُ الجلُ إلى بيت النبي - صلى الله عليه وسلم- وهو ليس منه نسَبًا في الحقيقة، وإنما انتسَبَ تشبُّعًا بما ليس له، وافتِخارًا بما لا يحقُّ الافتِخارُ به والشرف لو كان حقيقةً في الواقع، لكنَّه كذَبَ على الناس، وكذَبَ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فرحِمَ الله امرأً عرفَ قدرَ نفسِه، ورضِيَ بما قسَمَ الله له، وصارَ لبِنَةً صالِحةً في مُجتمعٍ ينبغي أن تسُودَه الأمانة والصِّدق وطمسُ تزوير الحقائق وتدليسِها، والله الهادي إلى سواء السبيل.
هذا؛ وصلُّوا -رحمكم الله- على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأَ فيه بنفسِه، وثنَّى بملائِكتِه المُسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم -أيها المؤمنون-، فقال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقال -صلوات الله وسلامُه عليه-: "من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم عن خلفائِه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْنَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.