الإجازة بين الاستغلال والإضاعة

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الناصح الأمين.

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].

عباد الله:  انقضى رمضان وبانقضائه بدأت الإجازة بدايةً حقيقةً وبحلول الإجازة تأتي نعمة عظيمة من نعم الله علينا وما أكثر نعم الله! تأتي نعمة الفراغ، فقد قال – عليه الصلاة والسلام -: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ " (رواه البخاري).

فالفراغ نعمة أحسن استغلالها من علم أن رأس مال المسلم في هذه الحياة الدنيا وقت قصير، أنفاس محدودة وأيام معدودة، من استثمرها في الخير غنم, ومن أضاعها في الشر غرم, ومن أضاعها في المباحات ندم.

 الفراغ نعمة أحسن استغلالها من تذكر أنه سيسأل غدًا بين يدي الله عن ساعات عمره أين ذهبت، قال –عليه الصلاة والسلام-: "لن تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به"

فهم هذا سلف الأمة -عليهم رحمة الله- فعمروا الأوقات بالطاعات، قال ابن مسعود –رضي الله عنه-: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي".

وقال قتادة بن خليد: "المؤمن لا تلقاه إلا في ثلاث خلال، مسجد يعمره أو بيت يستره أو  حاجة من أمر الدنيا لا بأس بها".

وقال بلال بن سعد: "عباد الله، اعلموا أنكم تعملون في أيام قصار لأيام طوال، وفي دار زوال لدار مقام، وفي دار نصب وحزن لدار نعيم وخلد".

كان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: "ويحك يا يزيد، من يصلي عنك بعد الموت؟! من ذا الذي يصوم عنك بعد الموت؟! من ذا الذي يرضي ربك بعد الموت؟! ثم يقول: أيها الناس، ألا تبكون وتنحون على أنفسكم باقي حياتكم، يا من الموت موعده, والقبر بيته, والثرى فراشه, والدود أنيسه، ومع هذا هو ينتظر الفزع الأكبر، كيف تكون حاله".

 سئل نافع، ما كان ابن عمر يصنع في منزله؟ قال: "الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما".

هكذا تعامل سلف الأمة مع الفراغ وهكذا استغلوا الفراغ، يقودهم كتاب الله –جل وعلا – الذي قال: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) [الشرح: 7، 8] أي إذا فرغت من أعمال الدنيا فاجتهد في عبادة الله تعالى.

أما نحن اليوم فإذا فرغنا بحثنا عن الملهيات التي نقطع بها الفراغ؛ لأن الوقت لا قيمة له عندنا، أعمار تضيع في المتع واللذات، ويا ليت الأمر اقتصر على المباحات مع المحافظة على الواجبات والبعد عن المحرمات، لكان الخطب سهلًا لكن ما أن تقدم الإجازة حتى نرى تضييع الواجبات والوقوع في المحرمات، سهر إلى الثامنة والتاسعة صباحًا ثم نوم إلى المغرب، فلا يعرفون صلاة الظهر ولا صلاة العصر، يأخذون إجازةً حتى من الصلاة التي هي أعظم الواجبات.

أما يكفيكم سهر طوال الليل لماذا لا تعودون قبيل الفجر وتصلون ولو خمس دقائق، أمام تلك الساعات التي سهرتموها ثم تنامون لتقوموا لصلاة الظهر.

والجواب المبكي أن الصلاة لا قدر لها عند كثير من المسلمين.

وفي الاجازة وتمتلئ الشوارع وتمتلئ الاستراحات وتمتلئ الأسواق وتمتلئ المطارات، لكن المساجد خاوية إلا من قلة، فهل فهم أولئك قول الله: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) [الشرح: 7، 8].

لقد أصبحت التنزه ضرورة من ضرورات الإجازة، وأصبحت الاجتماعات ضرورة من ضرورات الإجازة، وأصبحت اللقاءات العائلية ضرورة من ضرورات الإجازة، فما عاش الإجازة ولا استلذ بها ولا سعد بها من فاتته المتع واللذات، أما أن تحفظ آيات من كتاب الله، أما أن تقرأ شيئًا من كلام رسول الله.

أما أن تضع وقتًا بعد الفجر أو الظهر أو العصر للجلوس في بيت من بيوت الله تقرأ كلام الله، أما أن تزور بيت الله العتيق ومسجد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أما أن تحضر دورةً علميةً أو تتعلم ما ينفعك في دنياك فهذه ليست من ضرورات الإجازة بل من المنغصات، حسرةً على بني الإسلام، وكأن معنى الإجازة أن يضيع من عمرك شهر أو شهران أو أكثر كل سنة بلا فائدة.

وفي الإجازة يسافر الكثيرون إلى خارج البلاد بل منهم من انطلق بعد العيد مباشرة إلى خارج البلاد فقد أصبح صفقات الزواج الناجح وعلامة على التقدم والرقي وكلما أبعدت المسير كلما ازددت تقدمًا ورقيًا, وليست المشكلة في السفر ولكن إلى أين يسافرون! إلى الركن والمقام! إلى الحطيم وزمزم!  لا والله بل يسافرون إلى بلاد يرون فيها ألوانًا من المنكرات التي تجرح قلب المؤمن وتضعف إيمانه ولو كان الإيمان في قلبه كالجبال.

يسافرون إلى بلاد يرون فيها الأجساد العارية في الأسواق والمطاعم والمطارات والقطارات، بل ربما رأوا رجالًا ونساءً على شواطئ العهر عراةً، على شواطئ العهر عراةً، ويرون الخمور تباع في كل مكان.

والمصيبة أنهم كانوا يسافرون إلى بلاد عربية ثم ملوا منها فانطلقوا إلى بلاد إسلامية، ثم ملوا منها فانطلقوا إلى بلاد الكفر، وكانوا يسافرون فرادى ثم أصبحوا يسافرون بنسائهم وأبنائهم، وفي هذا قتل للغيرة على حرمات الله في نفوسهم، وإلف للمنكرات ودعوة للمرأة للتساهل في الحجاب أو المطالبة بنزعه مستقبلًا.

 كما أن كثيرًا من الأسر سمحت لنسائها بكشف الوجه بدعوى أن حجابها يجعلها شاذةً بين الناس ويلفت الأنظار إليها. ونحن في بلد لا يعرفنا فيها أحد، وفي هذا قتل لمراقبة العبد لله، لسان حالهم نراقب الناس ولا نراقب الله، يصدق عليهم قول الله: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ) [النساء: 108].

لكنه معهم، لكنه معهم أين يذهبون؟! لكنه معهم أين يسافرون؟! (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) [النساء: 108] (وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) [النساء: 108] الله أكبر، كان سلف الأمة يخفون الصالحات وأصبحنا نخفي المنكرات.

عباد الله، إن الأيام والليالي تسير بنا إلى الله،  فكل لحظة تمضي من أعمارنا والموفق من زادته الليالي والأيام قربًا من الله، وإن الخاسر المغبون من زادته الليالي والأيام بعدًا عن الله، فاللهم اجعل أيامنا تقودنا إليك.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [الفرقان: 61، 62].

قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي كان بعباده خبيرًا بصيرًا، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه تسليمًا كثيرًا.

 أما بعد: فيا معاشر المسلمين، في رمضان كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة، كان ينفق بلا حساب، يتقرب إلى الله زلفى، أما كثير من الناس فأمسكوا الأموال في رمضان، ثم أنفقوا بلا حساب في الإجازات، ينفقون على الحفلات حفلات الزواج وغيرها بلا حساب، ينفقون لاستئجار الاستراحات ليسهروا ويتمتعوا بلا حساب، ينفقون الآلاف ليسافروا أيامًا معدودات.

وفي رمضان كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتعب الجسد ليرضى الله، كان يصوم النهار ويقوم الليل ويقرأ القرآن، ويعتكف العشر الأواخر من رمضان فيحيي الليل كله، لا يعرف الملل ولا التعب ولا الضجر.

أما كثير من الناس فضيعوا أيام رمضان ولياليه يبحثون عن صلاة قصيرة لا تتعب الظهور والأقدام, لكنهم بعد رمضان انطلقوا إلى خارج البلاد وهم لا يعرفون الملل والتعب، صبروا على المطارات، صبروا على الجلوس في الطائرات، قطعوا المسافات، يمشون على الشواطئ وبين الأشجار، صعدوا الجبال والمرتفعات، ركبوا المخاطر وانتظروا في المحطات.

سبحان الله، سبحان الله، بالأمس كنتم تصرخون بالإمام قطعت ظهورنا، بالأمس كنتم تصلون قعودًا، ولو تيسر لكم لصليتم على جنوبكم، واليوم تبدل الضعف قوةً مما يدل على أن المرض مرض القلوب والضعف ضعف القلوب والحياة حياة القلوب.

عباد الله: إننا جميعًا على طريق السفر فنحن مسافرون وسائرون إلى الله، إننا جميعًا على طريق السفر فنحن مسافرون وسائرون إلى الله، ولا ندري متى ينادى علينا بالرحيل، فلنتزود لسفر طويل بين ثنايا التراب،  لا يعلم مدته إلا الله. (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 197].

عباد الله، صلوا وسلموا على رسول الله امتثالًا لأمر الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن الطاهرات أمهات المؤمنين وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احفظ أعراضهم، اللهم عجل لهم بالنصر والتمكين يا قوي يا قادر.

اللهم احقن دماء المسلمين في بلاد الشام، اللهم دماء المسلمين في بورما، اللهم احقن دماء المسلمين في العراق، اللهم احقن دماء المسلمين في كل مكان، اللهم انصر جنودنا في الحد الجنوبي، اللهم قوِّ عزائمهم، اللهم أيدهم بنصر من عندك، اللهم أعدهم سالمين غانمين منصورين، اللهم آمنا في دورنا وأصلح ولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم آت نفوسنا تقواها زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها وخير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم أن نلقاك وأنت راض عنا غير غضبان.

اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم به منا، اللهم إنا نسألك إيمانًا يباشر قلوبنا، اللهم اغفر لنا ولوالدينا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغارًا، اللهم أحسن إليهم كما أحسنوا إلينا.

اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب الناس، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.