العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
لقد أثر هذا الانفتاح على أمم الأرض، ومنها أمة الإسلام، فصارت طائفة منهم في حيرة من أمرهم، وسلكوا طريق الغواية بعد الهداية، وبدءوا يشككون في ثوابت الدين ومسلماته، ويتبنون شواذ الأقوال، بل عَرضَ بعضُهم ما ورد في الوحيين على عقولهم القاصرة فكذبوها، وبثوا فكرهم العفن عبر وسائل الإعلام والاتصال الحديثة، دون ....
أيها الإخوة: ونحن نعيش في هذا العصر الذي انفتحت فيه علينا الدنيا بخيرها وشرها، وتنوعت فيه وسائل الاتصال، وأصبحت الدنيا قرية صغيرة، فما أن يتكلم أحد المشاهير بالكلمة، أو يقع حدث من الأحداث إلا ويطير خبره في الآفاق، وتتناقله وسائل الإعلام، ووكالات الأنباء، ويُرى ويُسْمعُ في جميع أقطار الدنيا، وكأنه وقع عندهم، ويفسره كل منهم حسب ما يراه.
ولقد أثر هذا الانفتاح على أمم الأرض، ومنها أمة الإسلام، فصارت طائفة منهم في حيرة من أمرهم، وسلكوا طريق الغواية بعد الهداية، وبدءوا يشككون في ثوابت الدين ومسلماته، ويتبنون شواذ الأقوال، بل عَرضَ بعضُهم ما ورد في الوحيين على عقولهم القاصرة فكذبوها، وبثوا فكرهم العفن عبر وسائل الإعلام والاتصال الحديثة، دون خوف من الله، أو وازع من دين، أو رادع من حياء، وعاشوا في ظلمات الشك والضياع.
ومن المسلمين أقوام منَّ الله عليهم بالإيمان، وفتح عليهم أبواب البر والخير، فلما تذوقوه مضوا على طريقه وقتاً من الزمن، ثم شقَّ عليهم الأمر، وطال بهم الطريق، وجاءهم الشيطان، وثَقَّلَ عليهم الأعمال، ووعدهم ومنَّاهم، فاستثقلوا الاستقامة، وتهاونوا بالصالحات، ودب إليهم الملل من كثير من العمل؛ لأنهم لم يغذوا هذا الإيمان ويجاهدوا أنفسهم على الثبات عليه، وتهاونوا ببعض الصغائر التي جرتهم إلى ما هو أكبر منها، وتخلوا عن بعض النوافل ثم انزلقوا إلى التفريط ببعض الواجبات.
ومن عباد الله من افتتن في شهوات الدنيا، فغرق في أتونها، وعب منها حتى الثُّمالة، فما أن يخلص من شهوة إلا ويلج بأختها، ففي صحيح مسلم عن حُذَيْفَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ" ثم وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا القلب، فقال: "حَتَّى يصِيرَ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ".
ونقل النووي عن صاحب التحرير -رحمهما الله-: معنى الحديث أن الرجل إذا تَبِع هواه، وارتكب المعاصي، دخل قلبه بكل معصية يتعاطاها ظلمةٌ، وإذا صار كذلك افتتن وزال عنه نور الإسلام، والقلب مثل الكوز -وهو الكوب- فإذا انكب انصب ما فيه، ولم يدخله شيء بعد ذلك.
ومنهم من ثبته الله على الحق، وازداد إيمانه إيماناً، وتمسك بعرى الدين، وصار من عباد الله المخلصين، قائم بالفرائض، ومواظب على النوافل، مجاهد لنفسه عن الوقوع بالصغائر، ومحجم عن الكبائر، فإذا عرضت على قلب هذا الفتن كان كما قال رسول الله اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَنْكَرَهَا، فنُكِتَ فِي قلبه نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حتى يكون قلبه أَبْيَضَ مِثْلَ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ".
وأكد الله -سبحانه- حال المهتدين الطيبة، فقال: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [محمد: 17].
قال السعدي -رحمه الله-: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) بالإيمان والانقياد، وإتباع ما يرضي الله: (زَادَهُمْ هُدًى) شكرا منه تعالى لهم على ذلك: (وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) أي: وفقهم للخير، وحفظهم من الشر، فذكر للمهتدين جزاءين: العلم النافع، والعمل الصالح.
أيها الأحبة: هذا حال الأمة وهذا واقعها، وحتى لا تتسع دوائر الشر، وتفقد الأمة مزيداً من الخيرين؛ جميلٌ أن نُذَكِرَ ببعض المنجيات من الفتن، والمثبتات على الطريق المستقيم.
أول هذه المنجيات من الفتن واُسْها: تقوى الله -تعالى-، ففي تقواه -عز وجل- العصمة من الضلالة، والسلامة من الغواية، والأمن من المخاوف، والنجاة من المهالك.
ومن حقَّق التقوى آتاه الله نوراً وضياءً، يفرِّق به بين الضلالة والهدى، والبصيرة والعمى، يقول الله تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال: 29].
يقول السعدي -رحمه الله-: امتثال العبد لتقوى ربه عنوان السعادة، وعلامة الفلاح، وقد رتب اللّه على التقوى من خير الدنيا والآخرة شيئا كثيرا، فذكر هنا أن من اتقى اللّه حصل له أربعة أشياء، كل واحد منها خير من الدنيا وما فيها:
الأول: الفرقان: وهو العلم والهدى الذي يفرق به صاحبه بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والحلال والحرام، وأهل السعادة من أهل الشقاوة.
الثاني والثالث: تكفير السيئات، ومغفرة الذنوب، وكل واحد منهما داخل في الآخر عند الإطلاق وعند الاجتماع يفسر تكفير السيئات بالذنوب الصغائر، ومغفرة الذنوب بتكفير الكبائر.
الرابع: الأجر العظيم والثواب الجزيل لمن اتقاه وآثر رضاه على هوى نفسه: (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
أيها الإخوة: ومن المنجيات من الفتن والمثبتات على الطريق المستقيم: عدم التعرض للفتن سواء بالدخول فيها، أو حضورها، أو قراءة شبه المضلين، فقد استعاذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها؛ فعن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رضي الله عنه- قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ، عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ وَنَحْنُ مَعَهُ، إِذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ -أي مالت عن الطريق ونفرت-، وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ؛ فَقَالَ: "مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ؟" فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، قَالَ: "فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ؟" قَالَ: مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ، فَقَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا، لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ" ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: "تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ" قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، فَقَالَ: "تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ" قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، قَالَ: "تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ" قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، قَالَ: "تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ" قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ[رواه مسلم].
وعنده عن أَبَي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الْآخِرِ، فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ".
"والفتنة" المحنه وأصل الفتنة الامتحان والاختبار. والدجال من الدجل: وهو التغطية سمي به؛ لأنه يغطي الحق بباطله.
وما أكثر الدجالين في هذا الزمان الذين يغطون الحق بباطلهم، ويلبسون على الأمة، وحتى لا يقع المسلم بفخهم أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبعد عنهم، وعدم سماع فتنهم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عن أشرهم وسيدهم: "مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ، مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ" أَوْ "لِمَا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ" [هَكَذَا قَالَ رواه أبو داود عن عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ - رضي الله عنه- وصححه الألباني].
أي: فليبتعد عنه وليهرب منه، ولا يقول: أنا مؤمن وعندي إيمان، فإنه يحصل بسبب ما معه من الفتن والخوارق شك وريبة، وقد يزول ما مع الإنسان من اليقين.
قوله: "فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ، مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ".
يعني: يظن الإنسان أنه يسلم من فتنته، ولكن إذا رأى تلك الأمور المهولة الخارقة للعادة تغير عما كان عليه من اليقين، ووقع في الفتنة، وإذا ابتعد عنه ولم يتصل به ولم يقربه، فإن ذلك أسلم له.
قال أهل العلم: ويستفاد من هذا الحديث الابتعاد عن أهل البدع ومجالستهم؛ لكونهم دجاجلة، وخوفاً من شبهاتهم، فالإنسان الذي ليس عنده بصيرة قد يتأثر بما عندهم من الفصاحة والبلاغة إلا من عصم الله، ولهذا فالابتعاد عنهم أمر مطلوب.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: ومن المنجيات من الفتن والمثبتات على الطريق المستقيم: التزام الفرائض والمواظبة على النوافل ذلك أن التزام الفرائض مما يكسب العبد محبة ربه له وفعل النوافل مما يقوي المحبة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ" [رواه البخاري].
قال شيخنا محمد بن عثيمين - رحمه الله -: يعني أن الله يكون مُسَدِّداً له في هذه الأعضاءِ الأربعة؛ في السمع يسدده في سمعه فلا يسمع إلا ما يرضي الله، كذلك أيضا بصره: فلا ينظر إلا ما يحبُّ الله النظرَ إليه ولا ينظر إلى المحرم، ولا ينظر نظرا محرما، ويده فلا يعمل بيده إلا ما يرضي الله، لأن الله يسدده، وكذلك رجله فلا يمشي إلا إلى ما يرضي الله؛ لأن الله يسدده، فلا يسعى إلا إلى ما فيه الخير، وهذا معنى قوله: "كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا".
أي أنه تعالى يسدد عبده هذا في سمعه وبصره وبطشه ومشيه، فإذا كان اللهُ مسدداً له في هذه الأشياء كان موفقا مغتنما لأوقاته، منتهزا لفرصه، وليس المعنى أن الله يكون نفس السمع ونفس البصر ونفس اليد ونفس الرجل -حاش لله-، فهذا محال، فإن هذه أعضاءٌ وأبعاضٌ لشخص مخلوق، لا يمكن أن تكون هي الخالق؛ ولأن الله -تعالى- أثبت في هذا الحديث في قوله: "ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه" فأثبت سائلا ومسئولا، وعائذا ومُعَوَّذاً به، وهذا غير هذا، ولكن المعنى أنه يسددُ الإنسان في سمعه وبصره، وبطشه ومشيه.
أسأل الله -تعالى- أن يثبتنا في القول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة إنه جواد كريم.