المؤخر
كلمة (المؤخِّر) في اللغة اسم فاعل من التأخير، وهو نقيض التقديم،...
العربية
المؤلف | أسامة بن عبدالله خياط |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن رصيدَ الإيمان وزادَ التُّقى وصفاء المُعتقَد يُورِثُ صاحبَه توفيقًا إلى إصابة الحق، وهدايةً إلى بلوغ الغاية من رِضوان الله، والحَظوة بتأييده ونصرِه الذي ينصرُ به من يشاء، نصرًا تبيَّضُّ به وجوهُ أهل الإيمان، وتعلُو به أقدارُهم، وتستقيمُ به أحوالُهم، وتطيبُ به حياتُهم، ويبعَثُ على تذكُّر أن النصرَ من عند الله وحدَه، كما. وهما وعدٌ ربَّانيٌّ وبِشارةٌ نبويَّة، يستيقِنُ بها المؤمنون حقًّا، ولا يرتابُون في حتميَّة وقوعِها مهما كان لأعدائِهم من صَولاتٍ أجلَبوا عليهم فيها بخيلِهم ورجِلِهم وعُدَّتهم، فإنهم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ينصرُ من يشاء، أحمده -سبحانه- على السرَّاء والضرَّاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نِدَّ ولا مثيل، ذو الفضل العظيم والآلاء، وأشهد أن سيِّدَنا محمدًا عبدُ الله ورسوله إمامُ المرسلين وخاتمُ الأنبياء، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الأطهار الأنقياء، وارضَ اللهم عن صحابتِه البرَرة الأصفياء، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم العرض والجزاء.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، وراقِبوه وأنيبُوا إليه ولا تعصُوه.
أيها المسلمون: إن رصيدَ الإيمان وزادَ التُّقى وصفاء المُعتقَد يُورِثُ صاحبَه توفيقًا إلى إصابة الحق، وهدايةً إلى بلوغ الغاية من رِضوان الله، والحَظوة بتأييده ونصرِه الذي ينصرُ به من يشاء، نصرًا تبيَّضُّ به وجوهُ أهل الإيمان، وتعلُو به أقدارُهم، وتستقيمُ به أحوالُهم، وتطيبُ به حياتُهم، ويبعَثُ على تذكُّر أن النصرَ من عند الله وحدَه، كما أخبر بذلك -سبحانه- في قوله: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران: 126].
إنه النصرُ الحقُّ الذي لا خذلان ولا خُسران ولا هزيمة معه، والتأييدُ الربَّانيُّ الذي يُؤيِّدُ به من يشاء، كما قال تعالى: (وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ) [آل عمران: 13].
فإن شاءَ -كما قال أهل العلم بالتفسير-: "إن شاءَ نصرَ من استجمَعَ أسبابَ القوة الماديَّة في العدَد والعتَاد، كما هو المعلومُ من سُنَّته في عباده. وإن شاءَ جعلَ النصرَ حليفَ الفئة القليلة المُستضعَفة التي يدلُّ ظاهرُ حالها على أن انتِصارَها على أعدائِها من ضُروب المُحال، كما قال -عزّ وجل- على لسان الذين يظنُّون أنهم مُلاقُو ربِّهم من جُند طالوت: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 249]".
فلم تضرَّ القلَّة من نصره، ولم تُغنِ الكثرةُ والاغتِرارُ بها مع خذلانِه، كما وقعَ يوم حُنين حين أعجبَت المؤمنين كثرتُهم، فلم تُغنِ عنهم شيئًا ولم تُحقِّق لهم نصرًا، فالأمرُ كلُّه لله.
وقد جعلَ -سبحانه- للنصر أسبابًا أرشدَ إليها، وحثَّ على الأخذ بها عبادَه، يأتي في الطليعة منها: الإيمانُ الصادقُ بالله تعالى، وتوحيدُه وإفرادُه بالعبادة بصرف جميع أنواعها له وحده دون سِواه؛ فجِماعُ الدين كلِّه -يا عباد الله-: ألا يُعبَد إلا الله، وألا يُعبَد -سبحانه- إلا بما شرَع، لا بالآراء ولا بالاستِحسانات ولا بالبِدع المُحدثَات التي حذَّر رسولُ الهُدى -صلوات الله وسلامه عليه- من سُلوك سبيلِها، وأن يُعبَد الله بها.
وهذا يستلزِمُ كمالَ الثقة بالله تعالى، وتمام التوكُّل عليه، وصِدقَ اللُّجوء إليه، وشدَّة الضَّراعة والاجتِهاد والافتِقار إليه، كما صنعَ النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر، حين التقَى الجمعان.
فقد أخرجَ مسلم في صحيحه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: لما كان يوم بدر نظر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المُشركين وهم ألف، وأصحابُه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً. فاستقبلَ نبيُّ الله -صلى الله عليه وسلم- القِبلة، ثم مدَّ يدَيْه، فجعلَ يهتِفُ بربِّه: "اللهم أنجِز لي ما وعدتَّني، اللهم آتِ ما وعدتَّني، اللهم إن تهلِك هذه العِصابةُ من أهل الإسلام لا تُعبَد في الأرض". فما زالَ يهتِف بربِّه مادًّا يدَيْه، مُستقبِلاً القِبلة، حتى سقط رداؤُه عن منكِبَيْه.
فإذا نصرَ المؤمنون ربَّهم بإقامة دينِه، وطاعتِه وطاعةِ رسولِه -صلى الله عليه وسلم- بامتِثال أمره، واجتِناب نهيِه، ونبذِ التفرُّق، والحذَر من التنازُع، والصبر والثَّبات، وذِكر الله كثيرًا عند اللقاء، كما أمرَ -سبحانه- بقولِه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 45، 46].
إذا كان هذا هو الحال لدى أهل الإيمان مع ربِّهم فليستيقِنوا بصِدق موعود الله لهم، بقُرب نصر الله لهم بعد أن تمضِيَ فيهم سُنَّةُ الابتِلاء بالتمحيص، كما مضَت فيمن سبقَهم من الأُمم، كما قال -عز وجل-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة: 214].
وكما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن خبَّاب بن الأرَت -رضي الله عنه- أنه قال: أتيتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وهو مُتوسِّدٌ ببُردةٍ في ظلِّ الكعبة، وقد لقِينا من المُشركين شدَّة، فقلتُ: يا رسول الله: ألا تدعُو اللهَ لنا؟! فقعَد وهو مُحمرٌّ وجهُه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "قد كان من قبلَكم يُؤخَذُ الرجلُ فيُحفَر له في الأرض، فيُجعل فيها فيُجاءُ بالمِنشار، فيُوضعُ على رأسِه فيُجعل نصفين، ويُمشَط بأمشاط الحديد من دون لحمِه وعظمِه، فما يصدُّه ذلك عن دينِه، والله ليُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسيرَ الراكِبُ من صنعاء إلى حضر موت، لا يخافُ إلا اللهَ والذئبَ على غنمه، ولكنَّكم تستعجِلون".
وهما وعدٌ ربَّانيٌّ وبِشارةٌ نبويَّة، يستيقِنُ بها المؤمنون حقًّا، ولا يرتابُون في حتميَّة وقوعِها مهما كان لأعدائِهم من صَولاتٍ أجلَبوا عليهم فيها بخيلِهم ورجِلِهم وعُدَّتهم، فإنهم وإن كانت لهم الغلَبةُ حينًا من الدهر، فإنها غلَبَةٌ غير مُستقرَّة، أما العاقبةُ على الدوامِ فهي للمُؤمنين الذين جعلَ الله نصرَهم حقًّا أوجبَه على نفسِه: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسُنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه.
أما بعد:
فيا عباد الله: إن إدراكَ المؤمنين أن النصرَ هو من عند الله، وأن ما عند الله لا يُنالُ إلا بطاعتِه جعلَ موازين القوى لديهم قائمةً على قاعدةٍ مُختلفةٍ عما ألِفَه واعتمَده غيرُهم من موازين لا تستنِدُ إلا إلى الأسباب الماديَّة التي لا تُقيمُ لغير العدَد والعتَاد وزنًا.
وإن إعداد الأسباب -أي: أسباب القوة- وإن كان لازِمًا لا مندوحَة عنه قد أمرَ به، إلا أن مدارَ الأمر لدى أهل الإيمان والتقوى إنما هو على الطاعة والمعصية، ولذا كان مما استقرَّ في نفوسِهم أنهم إنما يُنصَرون بطاعتِهم لله، وبمعصيَة عدوِّهم له، فهم لذلك يخشَون على أنفسِهم من ذنوبِهم أشدَّ من خشيَتهم عليها من عدوِّهم.
وحين يتأخَّرُ عنهم النصر، أو تحُلُّ بهم هزيمة فإنهم يرجِعون على أنفسِهم بالملامَة، فيعُدُّون سببَ ذلك تفريطًا في جنبِ الله، أو تعدِّيًا لحُدوده، أو مُخالفَةً لأمرِه. وهو دليلٌ ظاهرٌ وآيةٌ بيِّنةٌ على آثار الإيمان حين تُخالِطُ بشاشتُه القلوب، وعلى التوحيد حين يكون الأساس في مسيرة الحياة، والعِماد لحركتها، والرُّوح الذي تسمُو به ويعلُو قدرُها.
فاتقوا الله -عباد الله-، واطلُبوا نصرَ الله بطاعة الله.
وصلُّوا وسلِّموا على خاتم رسل الله؛ فقد أُمِرتم بذلك في كتاب الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ، وسُنَّةَ نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.