المؤخر
كلمة (المؤخِّر) في اللغة اسم فاعل من التأخير، وهو نقيض التقديم،...
العربية
المؤلف | صالح بن محمد آل طالب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الحج |
ومن عجائِب مُتصنِّعي البكاء على أرواح المُسلمين، ومُظهِري الحرصِ على دمائِهم أنهم هم الذين يبعَثون عشرات الميليشيات في العراق وفي اليمن وسُوريا لقتل مئات الألوف من المُسلمين، وتهجير الملايين، ولتخزين المُستودعات الضخمة للأسلِحة في كثيرٍ من بلاد المُسلمين، وهم الذين يغرِسون الكراهيةَ في نفوس المخدُوعين بهم، وتلقينهم شِعاراتٍ تتوعَّدُ بالذبح ثلاثةَ أرباع المُسلمين. كفَى الله المُسلمين شرَّهم، وهدَى المُضلَّل والمُغرَّر به منهم.
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الذي يُسبِّح الملكوتُ له وهو للحمد أهل، وتعالى ربُّنا الله الذي عزَّ على كل شيءٍ وجلَّ، أهلَّ لأجله الحَجيجُ وطوَوا إلى مكة طُولَ السُّبُل، أشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مِثل، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه خيرُ الرُّسُل، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين.
أما بعد .. أيها المسلمون:
الزَموا مراضِيَ الله وعليكم بتقواه؛ فإن تقوى الله خيرُ وصيةٍ تُوصَى، وأكرمُ زادٍ يُدَّخر، وأفضلُ عملٍ يُقدَّم ويُذخَر. بالتقوى تُستجلَبُ النعم، وتُدفعُ النِّقم، وتصلُح الأعمالُ والنفوس، وتُغفرُ الذنوبُ والخطايا، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
حُجَّاج بيت الله العتيق .. ضيوفَ الرحمن:
رِضوانُ الله عليكم أيَّ أيامٍ قضيتُموها، وليالٍ زُهرٍ تفيَّأتموها .. وقفتُم بعرفات الله، وتعرَّضتم لمغفرته ورحمته، وبِتُّم ليلةَ المُزدلِفة ذاكرين الله عند المشعَر الحرام، في ليلِ عيدٍ أبرَك الأعياد.
ثم أصبحتُم على أعظم أيام الدنيا: يوم النحر، يوم الحج الأكبر، عيدُ المُسلمين الأعظَم، للحُجَّاج وفي سائر الفِجاج.
وقفتُم بعرفة ودعوتُم، وإلى الله ازدلَفتُم وابتَهلتُم، ثم رميتُم وحلقتُم .. أنختُم رِكابَكم عند بيت الله العتيق، (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) [آل عمران: 96، 97].
فعلى هذي الرُّبَى تُغسلُ الخطايا، وتُؤمَّلُ من الله الرحماتُ والعطايا .. تُمحَى الذنوبُ والسيئات، وتُقبلُ الأعمالُ الصالحةُ وتُرفعُ الدرجات. فاقدُروا للبيت حُرمتَه، وتلمَّسوا من الزمان والمكان بركتَه؛ فنبيُّكم - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من حجَّ ها البيت فلم يرفُث ولم يفسُق رجعَ كيوم ولدَته أمُّه" (متفق عليه).
وفي "الصحيحين" أيضًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة".
عباد الله:
واليوم هو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة، وهو أولُ أيام التشريق، أيام مِنى. سمَّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - "يوم القَرّ"، وذلك لقرار الحُجَّاج واستقرارهم بمِنى للرمي والمبيت.
ثبتَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "أعظم الأيام عند الله: يوم النحر، ثم يوم القَرّ" (رواه أحمد وأبو داود).
وأعمال هذا اليوم وما بعدَه للحاجِّ: هي أن يرمي الجِمار الثلاث، وأن يَبيتَ بمِنى، وأن يقصُر الصلوات الرباعية بلا جعٍ، بل يُصلِّي كل صلاةٍ في وقتها، وأن يُكثِر من ذكر الله تعالى. أكثِروا من التهليل والتكبير والتحميد والتسبيح.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
هذه الأيام المعدودات التي قال الله فيها: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) [البقرة: 203].
كبِّروا الله عند رمي الجِمار، وكبِّروا الله عند ذبح النُّسُك، وكبِّروا الله أدبار الصلوات، كبِّروا الله في كل وقتٍ وآن.
كان لعُمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قُبَّةٌ بمِنى، فيُكبِّرُ ويُكبِّرُ الناسُ بتكبيره، حتى ترتجَّ مِنى تكبيرًا.
كبِّروا واجأروا بالتكبير حتى تُكبِّر الأرض، ويعلُو التكبير للسماوات. كبِّروا حتى تُعلِن الأمةُ أن الخُضوع والخُنوع لا يكون إلا لله، وأن الذلَّ والانكِسار لا يكونُ إلا لله، وأن الله أكبر، منه الاستِمداد والعون وعليه التوكُّل، (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185].
أعيادُنا تهليلٌ وتكبير، وشُكرٌ وذكر، (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا) [الإسراء: 111].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
كان أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - يقول: "بعد يوم النحر ثلاثة أيام التي ذكرَ الله: "الأيام المعدودات" لا يُردُ فيهنَّ الدعاء". فارفعوا رغبتَكم إلى الله - عز وجل -.
وعن نُبيشَة الهُذليِّ - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيامُ مِنى أيامُ أكلٍ وشُربٍ وذِكرٍ لله" (رواه مسلم).
إنه نعيمُ الأبدان بالأكل والشرب، ونعيمُ القلوب والأرواح بالذكر والشُّكر، وبذلك تتمُّ النعم.
الله أكبر كبيرًا، والحمدُ لله كثيرًا، وسُبحان الله بُكرةً وأصيلاً.
حُجَّاج بيت الله الحرام:
هنيئًا لكم .. أتممتُم - بفضل الله - خامسَ أركان الدين، وقبلَكم قد أتمَّ الله في هذه الرُّبوع الدينَ، (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3].
ففي هذه الرُّبوع أتمَّ الله عليك نعمتين: نعمةَ تمام الدين، ونعمةَ تمام تديُّنك. فاعرِف لله فضلَه، واقدُر لهذه النعمة قدرَها. هنيئًا لكم تمامُ النُّسُك، وبُشرى لكم وعدُ القبول، والله لا يُخلِفُ الميعاد.
معاشر الحَجيج:
في هذه الأيام تقِفون على أرض الوحي ومُتنزَّل الرسالة .. رأيتُم الكعبة، وعانقتُم الحجر، وصلَّيتُم عند المقام .. سعيتُم كما سعَت هاجر، وضحَّيتُم كما ضحَّى إبراهيم، واستسلمتُم كإسلام إسماعيل، وطُفتُم كما طافَ مُحمدٌ - عليه وعلى الأنبياء الصلاة والسلام -، ورأيتُم مهدَ الصحابة الكرام، وسِرتُم رغبةً وإخلاصًا.
لعلَّ قدمًا تأتي مكان قدَم، وطوافًا يأتي مكان طواف، وسعيًا يأتي مكان سعي .. ذكرياتٌ تتجدَّد عبر الزمان والمكان، وتحياها الأمةُ جيلاً بعد جيل فتتعمَّقُ إيمانًا، وتتألَّقُ يقينًا، وتزدادُ خيرًا.
إنها مشاعرُ لا تُوصف، وأحاسيسُ لا تُكتب، وإنما يجِدها من حضرَها ولبَّى نداءَها. أيامٌ وأماكن وأعمال تهبُ على قلبّك المكدُود، فتضُخُ فيه الروح، وتُنبِت فيه التُّقى، وتزيدُ فيه الإيمان.
ما أعظمَ هذا الدين! وما أجملَ هذا الإسلام! عقيدةٌ صافية، وإيمانٌ راسِخ، وسُلوكٌ جميل. عدلٌ ومُساواة، ورحمةٌ وعملٌ، فإن رُمتُم عزًّا كما كان أوائِلُكم، ونصرًا وتمكينًا كما مُكِّن لسلَفكم، فالزَموا غرزَهم، وترسَّموا سُنَّتَهم.
قال - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحدثات الأمور؛ فإن كل بدعةٍ ضلالة".
قال الإمامُ مالكٌ - رحمه الله -: "لن يصلُح آخرُ الأمة إلا بما صلَح به أولُها".
وصدقَ - رحمه الله -، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11].
إن المُسلمين إن لم يجمَعهم الحقُّ شعَّبهم الباطل، وإن لم تُوحِّدهم عبادةُ الرحمن مزَّقتهم طاعةُ الشيطان، وإذا لم يأتلِفوا على كلمة التوحيد فسيظلُّون في أمرٍ مريج.
فاتَّحدوا - أيها المسلمون - على كتاب الله وسُنَّة رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون: 52]، إلهُكم الله الذي لا إله إلا هو، ونبيُّكم محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، وكتابُكم القرآنُ الكريم، ودينُكم الإسلام، وقبلتُكم واحدة. فلم التفرُّق والتنازُع، وبين أيديكم ما إن تمسَّكتُم به لن تضلُّوا: كتاب الله وسُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟!
عباد الله .. حُجَّاج بيت الله الحرام:
يقول ربُّكم - سبحانه -: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [البقرة: 200- 202]. فالزَموا ذكرَ الله وشُكرَه ودعاءَه.
حُجَّاج بيت الله:
يقولُ الحقُّ - سبحانه -: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [البقرة: 203]، فمن أراد التعجُّل فإنه يخرُج من مِنى بعد أن يرمِي الجمَرات في اليوم الثاني عشر، ومن تأخَّر فيبيتُ ليلة الثالث عشر، ثم يرمي الجمَرات في اليوم الثالث عشر.
وإذا أراد الحاجُّ أن يرجِع إلى بلده فيجبُ عليه أن يطُوف بهذا البيت طوافَ الوداع، ولا يلزمُه سعيٌ له ولا حلق، إلا المرأة الحائِض والنُّفساء فلا يلزمُها طوافُ وداع، وكذا أهلُ مكة لا وداع عليهم. تقبَّل الله منا ومنكم.
حُجَّاج بيت الله الحرام .. أيها المسلمون في الآفاق:
احمَدوا الله الذي هداكم، وضحُّوا تقبَّل الله ضحاياكم، وسمُّوا الله على ما رزقَكم وكبِّروه، واشكرُوه على ما أولاكم. كلُوا وتصدَّقوا، وأهدُوا وادَّخروا، واجتنِبوا ما نُهيتُم عنه.
وأيام الذبح أربعة: يوم العيد وأيام التشريق الثلاثة بعده، وتذكَّروا قولَ الله - عز وجل -: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) [الحج: 37].
بارَك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفَعَنا بسُنَّة سيِّّد المُرسلين، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهَدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمين، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أما بعد:
فإن المملكة العربية السعودية برجالاتها وأجهزتها ومُؤسساتها تبذُل جهودًا هائلةً لخدمة الحُجَاج والمُعتمِرين والزائِرين، من عشرات السنين، والدولةُ تُديرُ موسمَ الحج بكل كفاءَةٍ واقتِدار، ورعايةٍ تدعُو للفَخار، ولن يُضيرَ ذلك أو يُنقِصُه حادثٌ عرَضيٌّ نجمَ عن تزاحُمٍ أو تدافُع بعض الحُجَّاج، أو مُخالفةٍ لتوجيهاتٍ أو تعليمات.
فإذا كان قدرُ الله أن يختارَ بعضَ عباده شُهداء في أحسن حالٍ لهم، وأشرف مكان، ويبتلي آخرين بإصابةٍ يُؤجرون عليها؛ فإن من غير المقبول أبدًا أن تُصادَر كل الجهود والإنجازات، وأن يكون ذلك مدعاةً للتشفِّي والمُزايدات.
ومن اللُّؤم والدناءة: التطبيلُ على مُصاب مُسلم، واستِغلال مُصابه لتحقيق مآرب دنيوية، أو مكاسِب سياسية.
والمملكةُ - بحمد الله - قادرةٌ على إدارة شُؤون الحج بلا مُزايدات، ولها السيادةُ بلا مُنازعٍ على ما شرَّفها الله به من خدمة الحرمين الشريفين، وقد نصَ دُستورُها ونظامُها الأساسيُّ للحكم على ذلك. والعمارةُ التي تمَّت وتتمُّ للحرمين الشريفين ورعايتهما ورعاية قاصديهما شاهرةٌ للعيان.
وقد أحاطَ الله بيتَه وضيوفَه بالأمن والطُّمأنينة، في أيامٍ يضطربُ فيها العالَم، وتشتعلُ نارُ الفتن والحروب، والحمد لله الذي سخَّر لبلده الحرام حُماةً صادقين حفِظ الله بهم الدين، وحفِظ الله بهم العباد والبلاد،(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت: 67].
وإننا إذ نحمدُ الله على نعمائه في تيسير حجِّ مئات الألوف من الحُجَّاج وحفظِهم، فإننا حزِينون على الحادث الذي قدَّره الله على بعض الحُجَّاج يوم أمس، ولقُوا وجهَ ربهم في حادث التدافُع المُؤسِف في مِنى، ولا نقولُ إلا ما يُرضِي ربَّنا بلا سخطٍ أو اعتراضٍ على مقاديره.
وينبغي في الوقت الذي تُبحثُ فيه أسبابُ وقوع الحادث لتلافي أمثاله مُستقبلاً، ومُحاسبة المُقصِّر حاضرًا، ألا تُهدرَ جهودُ عشرات الآلاف من المُنظِّمين وخدم ضيوف الرحمن والذي رافقُوا الحجيجَ في كل خُطواتهم تنظيمًا ومُتابعة، يُؤمِّنون السُّبُل، ويُنظِّمون الحُشود، ويعتَنون بالمرضى، ويهدُون التائِه، ويُرشِدون الحَجيج، ويُطعِمون الجائِع، ويسقُون العِطاش، ويُعينون العاجِز.
فلأولئك الباذِلين مُهَجهم وجُهدهم في خدمة الحَجيج الشُّكر والعِرفان، والدعاءُ والابتِهالُ لله - عز وجل -، وما يخفَى من جُهدهم أكثرُ مما يظهرُ للناس. فآجرَهم الله وضاعفَ مثوبَتهم.
وإن من فُجور الخُصومة: أن يستغلَّ أُناسٌ الحدثَ في التشكيك في الجُهود، أو الانتِقاص من البذل، وقد شهِد العالَمُ من عظيم البذل وفائِق العطاء، والذي يُقدَّم لضيوف الله وقاصدِي حرمَيه، من لدُن ساكني بلاد الحرمين أفرادًا ومُؤسسات.
ولأنه إذا عُدِم الحياء جرُؤ فاقِدُه على ما شاء، فإن من السُّخرية المَريرة أن يصطنِع النُّواحَ على شُهداء مِنى من له تاريخٌ إجراميٌّ في الإلحاد في الحرَم، بقتلٍ وتفجيرٍ فيه، وإدخال أسلحةٍ وترويعٍ للحُجَّاج، وتهديدٍ للحَجيج، ومُحاولاتٍ لصدِّ الناس عنه.
ومن عجائِب مُتصنِّعي البكاء على أرواح المُسلمين، ومُظهِري الحرصِ على دمائِهم أنهم هم الذين يبعَثون عشرات الميليشيات في العراق وفي اليمن وسُوريا لقتل مئات الألوف من المُسلمين، وتهجير الملايين، ولتخزين المُستودعات الضخمة للأسلِحة في كثيرٍ من بلاد المُسلمين، وهم الذين يغرِسون الكراهيةَ في نفوس المخدُوعين بهم، وتلقينهم شِعاراتٍ تتوعَّدُ بالذبح ثلاثةَ أرباع المُسلمين. كفَى الله المُسلمين شرَّهم، وهدَى المُضلَّل والمُغرَّر به منهم.
فلأولئك الراقصِين على الجراح، وهم أشدُّ ما يكونون فرحًا لوقوعها، لقد سقطت ورقةُ التقيَة، وحزمَ المُتشكِّكُ فيكم أمرَه، وبانَ الصُّبحُ لكل ذي عينين، وميَّز الله في نفوس كثيرين الحقَّ من الباطل، والعدوَّ من الصديق.
وإنها لصرخاتُ اليائس، وهمهمةُ المفضُوح. فما زادَتكم الأيام إلا فضحًا، ولا لحوادِثُ إلا قرحًا، وأبشِروا بما يسُرُّ المُسلمين ويسوؤُكم، ويكشِف الغُمَّة عن العرب والمُسلمين ويكبِتكم.
وإننا في القبلة الثانية لنتَّجه بقلوبنا للقبلة الأولى "المسجد الأقصى وبلاد فلسطين"، وقد ضربَ أهلُها أروعَ الأمثلة في الرِّباط وفي الفداء، ووالله لن يُضيعُ الله جُهدَكم ورِباطَكم، وقد طال ليلُكم وأوشكَ أن ينجلِي.
صبرتُم على القُروح، وقد مسَّتكم جُروح، فما ازددتُم إلا فداءً وصبرًا، وليس بعد الصبر إلا الظَّفَر، لقد ازداد أعداؤُكم وأعداءُ الله الصهاينةُ ظُلمًا وبغيًا، والله يسمعُ ويرى، (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) [محمد: 4].
فصحائِفُكم تَفيضُ بما يُقدِّمكم عند الله، وصحائِفُهم تزيدُ بما يُسخِطُهم عند الله، ولكلا الصحيفتين أجلٌ هما بالغَتاه، ومآلُ أمركم خيرٌ لكم في الدنيا أو الآخرة أو كليهما، وعاقبةُ أمرهم خُسرًا في الدنيا والآخرة أو كليهما. فأبشِروا وأمِّلوا واصبِروا وصابِروا ورابِطوا، وافعَلوا الخيرَ لعلكم تُفلِحون.
حُجَّاج بيت الله الحرام:
اعلَموا أن الدولة برجالاتها وأجهزتها ومُؤسساتها تبذلُ جهودًا هائلةً لخدمتكم، وتيسير حجِّكم، والنظامُ وُضع لمصلحتكم، والجهودُ كلُّها لأجلِكم. فالتزِموا التوجيهات، واتَّبِعوا التعليمات، واستشعِروا ما أنتم فيه، وكونوا على خير حالٍ في السلوك والأخلاق، والزَموا السَّكينة والوقار، واجتهِدوا وسدِّدوا وقارِبوا وأبشِروا وأمِّلوا؛ فإنكم تقدُمون على ربٍّ كريمٍ.
جعلَ الله حجَّكم مبرورًا، وسعيَكم مشكورًا، وذنبَكم مغفورًا.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجهم، واتَّبع سُنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمُسلمين، وأذلَّ الشركَ والمُشركين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا وسائر بلاد المُسلمين.
اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا ووُلاةَ أمورنا، وأيِّد بالحقِّ إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم جازِه بالخيرات والحسنات على خدمة الحرمين الشريفين، والعناية بالحُجَّاج والمُعتمِرين، اللهم وفِّقه ونائبَيه وإخوانَهم وأعوانَهم.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم اجمعهم على الحقِّ والهُدى، اللهم احقِن دماءَهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خلَّتهم، وأطعِم جائعَهم.
اللهم انصُر المُستضعفين من المُسلمين في كل مكان، واجمَعهم على الحقِّ يا رب العالمين، اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيِّك وعبادَك المؤمنين.
اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم عليك بالصهاينة المُعتدين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
اللهم اغفِر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورَنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا، ربَّنا اغفِر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وذريَّاتهم إنك سميع الدعاء، ربَّنا اغفِر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم ولأزواجنا وذريَّاتنا ولجميع المُسلمين.
اللهم احفَظ الحُجَّاج والمُعتمِرين، اللهم احفَظ الحُجَّاج والمُعتمِرين، ويسِّر لهم إتمام مناسِكهم آمنين، وتقبَّل منا ومنهم أجمعين، اللهم اقبَل من الحُجَّاج حجَّهم، واستجِب دعاءَهم، اللهم اجعَل حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، وأعِدهم إلى ديارهم سالمين غانِمين.
اللهم تقبَّل منا ومنهم، وثبِّتنا على الحقِّ والهُدى، واختِم لنا بخيرٍ يا أرحم الراحمين.
اللهم وفِّق وأعِن رجالَ الأمن والعامِلين لخدمة الحُجَّاج، اللهم جازِهم بالخيرات والحسنات يا رب العالمين، اللهم ضاعِف أجورَهم، وارفع درجاتهم، وحُطَّ خطيئاتهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.