العربية
المؤلف | حمزة بن فايع آل فتحي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
لا حرج في ممارسة السياحة والتنزّه وفق الضوابط الشرعية من: حفظ الوقت, والمحافظة على الواجبات, واجتناب المحرمات, والأمر المعروف والنهى عن المنكر. إنّ ثمة وسائل كثيرة ومفيدة يمكن استثمار الإجازة بها، منها القراءة طريق لطلب العلم وتعميق للثقافة الشرعية للمسلم. ومنها السفر للعمرة وزيارة الحرمين الشريفين، وإنا لنحمد الله أن كثيرين من المواطنين أدركوا أهمية ذلك، إذ سئموا من صرف الإجازة بطولها للتنزه والرحلات، فطيّبوا أنفسهم بالعمرة والمكث في الحرم الآمن البهيج. ومن الوسائل تعلّم الحاسوب واكتشاف فوائده، فهو...
الخطبة الأولى:
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ)[الطلاق:1، 2].
معاشر المسلمين: في هذه الأيام يهتمّ العقلاء ويفكر البصراء ويخطط النبلاء، إنهم في مستهلّ إجازة لطيفة عظُم وقتها، وحسُن خيرها، وقلّت أشغالها، فماذا ينتظر الأبناء فيها؟ هل سيوردون موارد الخير والانتفاع، أم يُصرفون لمنازل الهلكة والضياع؟
هذه الإجازة الطيبة فرع الوقت الثمين الذي هو عمر الحياة وزمانها وسراؤها وأحزانها. إن الإجازة ينبغي أن تكون طريقًا للعز والذكر والفائدة، وبابًا للرشد والوعي والإنجاز، فليست الإجازة سياحة وزينة وخلاعة، وليست الإجازة طربًا وغناء وبشاعة.
إن الإجازة مظاهر فرح وسرور، تشع بذكر الله ومحبته ورجائه وطاعته، والإجازة منازل سياحة تضيئها الأنوار والهدايات والباقيات الصالحات، وهي فرصة عظمى للزيادة والنماء من الخير، فلقد تحررت النفوس من وطأة العمل وضيق الدراسة وشقاء الأنظمة، وأقبلت إلى فراغ خطير ووقت ثمين، إن لم يُشغل بالنافع المفيد جرَّ إلى الضار الوخيم، (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر:92، 93].
أيها الإخوة الفضلاء: هل فكَّر عقلاؤنا في أمر الإجازة؟ كيف قضاؤها؟ وكيف نفعها وفائدتها؟ وما مستقبل أبنائنا وشبابنا فيها؟ إنها فرصة للبناء والزيادة وتحصيل الخير والإفادة، ونوع من التعويض والإصلاح والإبداع. فالبدار البدار للفوز بمحاسن الإجازة، واحذروا غوائلها ومساوئها، فإنها غراس حياتكم، وسوف تُردّون إلى ربكم وخالقكم.
نُقِل عن عامر بن عبد قيس -أحد التابعين الصالحين- أن رجلاً قال له كلمني، فقال له: "أمسك الشمس".
مضـى أمسُك الماضي شهيدًا معدّلاً | وأعقبَه يـوم عليـك جديـدُ |
فيومـك إن أغنيتـه عـاد نفعـه | عليك وماضي الأمس ليس يعودُ |
روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "العبد من حين استقرت قدمه في هذه الدار فهو مسافر فيها إلى ربه، ومدة سفره هي عمره الذي كتب له، فالعمر هو مدة سفر الإنسان في هذه الدار إلى ربه، ثم قد جعلت الأيام والليالي مراحل لسفره، فكل يوم وليلة مرحلة من المراحل، فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي السفر، فالكيّس الفطِن هو الذي يجعل كل مرحلة نصب عينيه، فيهتم بقطعها سالمًا غانما".
قال تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر:1، 2]، قال ابن عباس: "العصر هو الزمن"، وقال بعضهم: قال رجل لداود الطائي -رحمه الله-: أوصني، فدمعت عيناه, وقال: "يا أخي، إنما الليل والنهار مراحل، ينزلها الناس مرحلة مرحلة، حتى ينتهي ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدّم كل يوم زادًا لما بين يديك فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب، والأمر أعجل من ذلك، فتزوّد لنفسك، واقضِ ما أنت قاضٍ، فكأنك بالأمر قد بغتَك، إني لأقول لك هذا وما أعلم أحدًا أشدّ تقصيرًا مني"، ثم قام وتركه.
أيها الإخوة الكرام: شابٌّ نابغة نجح بتفوّق بارز، ثم قابل الإجازة، وصرف إلى الدش وليالي الغم والكآبة. وآخر نجح وكانت الدراسة قيودًا لحريته، فجاءت الإجازة فأهلكها نومًا وضياعًا وحسرات. وآخر نجح فحاز مالاً تجاوز به حدود السياحة الداخلية، لتطيب نفسه بمسامرة المومسات ومعانقة المحرمات، والعياذ بالله.
أيها الآباء والأولياء والمربون: إن بيوتنا تكتظّ بآلاف الآلاف من طلبة المدارس في هذه الإجازة, لا يدرون كيف يقضون أوقاتهم ولا استثمار إجازتهم، ولا يعون أهمية إصلاح نفوسهم وعقولهم وأخلاقهم وبلادهم. إنه لمن المحزن أن ترى شابًا يافعًا قد أرهق الرصيف بكثرة جلوسه وسهراته، ومن المحزن إدمان كثيرين محبة مقاهي اللهو واللغو والإضاعة، وكم هو مؤسف جلوس الفتيات عند الهاتف أو الدش الزمن الطويل. لقد أهملت ثروات، وسُحقت موارد ومنافع، وكسدت كتب ومعارف بسبب إضاعة الزمان وسوء استهلاكَه وعمارته.
أيها الإخوة: لا يصحّ ولا يعقل أن تكون الإجازة كلها ألوانَ مرح ولعب وسياحة، بل لا بد من الاعتدال ومعرفة قيمة الوقت ومكانته العالية.
والوقت أنفس ما عُنيتَ بِحفظـه | وأراه أسهل ما عليـك يضيعُ |
قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه؛ نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي"، وقال الحسن -رحمه الله-: "أدركت أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصًا على دراهمكم ودنانيركم".
لا حرج في ممارسة السياحة والتنزّه وفق الضوابط الشرعية من: حفظ الوقت, والمحافظة على الواجبات, واجتناب المحرمات, والأمر المعروف والنهى عن المنكر.
أيها الإخوة: إنّ ثمة وسائل كثيرة ومفيدة يمكن استثمار الإجازة بها، منها القراءة طريق لطلب العلم وتعميق للثقافة الشرعية للمسلم. ومنها السفر للعمرة وزيارة الحرمين الشريفين، وإنا لنحمد الله أن كثيرين من المواطنين أدركوا أهمية ذلك، إذ سئموا من صرف الإجازة بطولها للتنزه والرحلات، فطيّبوا أنفسهم بالعمرة والمكث في الحرم الآمن البهيج.
ومن الوسائل تعلّم الحاسوب واكتشاف فوائده، فهو لغة العصر، وقد شملت محاسنه إدخال الكتب العلمية الشرعية، فأصبح المسلم يملك مكتبات ضخمة عن طريق هذا الجهاز المدهش. ومنها المشاركات في دورات تعلم اللغات المهمّة والآلة الكاتبة والكمبيوتر وتحسين الخط. وفي الإجازة فرصة لكسب المعيشة وتعلم بعض المهن لمن يحتاج لذلك.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
عباد الله: اعلموا أن "الناس في هذا العالم سفر، وأول منازلهم المهد، وآخرها اللحد، والوطن هو الجنة أو النار، والعمر مسافة السفر، فسِنُونه مراحله، وشهوره فراسخه، وأيامه أمياله، وأنفاسه خطواته، وطاعته بضاعته، وأوقاته رؤوس أمواله، وشهواته وأغراضه قطّاع طريقه، وربحه الفوز بلقاء الله تعالى في دار السلام مع الملك الكبير والنعيم المقيم، وخسرانه البعد عن الله مع الأنكال والأغلال والعذاب الأليم في دركات الجحيم، فالغافل في نَفس من أنفاسه حتى ينقضي في غير طاعة تقربه إلى الله زلفى، متعرض في يوم التغابن لغبينة وحسرة ما لها منتهى، ولهذا الخطر العظيم والخطب الهائل شمّر الموفَّقون عن ساق الجد، وودّعوا بالكلية ملاذَ النفس، واغتنموا بقايا العمر".
أيها الآباء: فكّروا في واقع أبنائكم ومستقبلهم، ماذا خبأتم لهم في هذه الإجازة؟ هل هو النور والشرف أم السوء والتلف؟! قوموا عليهم بما يهديهم وينفعهم، وإياكم ضرَّهم وفتنتهم، "فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته".
وإنني أهديكم هذه النصيحة المثلى التي كتبها الحافظ ابن الجوزي -رحمه الله- إلى ولده في رسالته الصغيرة النفيسة المسماة: (لفتة الكبد في نصيحة الولد) قال رحمه الله: "اعلم ـ يا بُني ـ أن الأيام تبسط ساعات، والساعات تبسط أنفاسًا، وكل نفس خزانة، فاحذر أن يذهب نفَس بغير شيء، فترى في القيامة خزانة فارغة فتندم، وانظر كل ساعة من ساعاتك بماذا تذهب، فلا تودعها إلا إلى أشرف ما يمكن، ولا تهمل نفسك، وعوِّدها أشرفَ ما يكون من العمل وأحسنَه، وابعث إلى صندوق القبر ما يسرك يوم الوصول إليه".
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد...