البحث

عبارات مقترحة:

الأحد

كلمة (الأحد) في اللغة لها معنيانِ؛ أحدهما: أولُ العَدَد،...

الحفي

كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...

الفتاح

كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...

أبغض الحلال

العربية

المؤلف عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. فضل الشريعة على القوانين الوضعية .
  2. الشريعة صالحة لكل مكان وزمان .
  3. معالجة الإسلام بقضية الطلاق .
  4. المشاكل تحدث لقصور من أحد الزوجين .
  5. الطلاق عند غير المسلمين .
  6. الطلاقُ مشروعٌ، بقيود .
  7. مفاسد الطلاق وأضراره .
اهداف الخطبة
  1. بيان محاسن تشريعات الإسلام
  2. التحذير من التسرع في الطلاق
  3. بيان المفاسد المترتبة على الطلاق.

اقتباس

حاسِب نفسك، وقِف مع نفسك وقفات، إذا أردتَ الإقدامَ على الطلاق، انظر حالك وحالَ المرأة وحال الأولاد الصغار، ماذا سيكون حالهم؟ سيتشتّتون ويتفرّقون بينك وبين أمّهم، فإما تمسُّكُ الأمّ بهم فيضيعون، وإما تمسُّكُ الأب بهم فيضيعون، وتقسو قلوبهم، ويتفرّق شملهم، ويُحدِث عليهم صدمةً نفسيّة في أحوالهم. فقِف قليلاً وفكِّر، فكِّر وتأمّل قبل أن تقدِم على الطلاق، ما الملجأ وما المخرج؟ واستِخر الله واستشِر، وإياك والطيشَ والغضب، وإياك والحماقةَ، وإياك والتسرُّع...

 الخطبة الأولى:

أمّا بعد:

فيا أيّها الناس: اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.

عبادَ الله: إنَّ من ينظر نظرةً عابرة ويقارن مقارنةً بدائية بين شريعةِ الله التي أنزلها على عبده ورسوله محمّد -صلى الله عليه وسلم- وبين القوانين الوضعيّة والدساتير البشرية ليَرى العجَبَ العُجاب، أنظمةُ البشر قوانينُ البشر دساتير البشر مهما بالغ العقلاء منهم وذوو الرأي والفكر منهم, فإنهم لا يستطيعون أن يجعلوها قوانينَ ثابتة تستمرّ عبرَ القرون، بل دائمًا يُدخلون عليها التعديل، زيادةً ونقصانًا، وربما تُلغَى بعد مُضيِّ جيل من الزمن، وقُصارى جهدهم أن يضعُوا خطوطًا عامّة، لكن التدخُّل في الحياة الشخصيّة وتنظيم الحياة, فإنّ دساتيرهم تعجز عن ذلك. من مبادئهم الحريَّة الشخصية للإنسان، ليعمل ما يشاء، ويتصرّف كيف يشاء، بلا قيدٍ في كلِّ تصرُّفاته.

إنها قوانينُ لا يُمكن استمرارها ولا ديمومتُها، بل لو فكَّرتَ كلَّ التفكير وأرجعتَ البصر بعيدًا لرأيت القوانين ما قرنٌ إلا وقانونٌ يأتي، وإن استمرَّ فلا بدّ من تعديل؛ زيادةٍ، إضافة، نقصٍ وحذف، تعديلٍ، إلى غير ذلك.

أمّا شريعة الإسلام التي أكمَلها الله وأتمها ورضيَها دينًا, وبعث بها خيرَ خلقِه وأفضلَ خلقه سيّد ولد آدم على الإطلاق أفضل خلق الله محمد -صلى الله عليه وسلم- فهي الشريعةُ الكاملة، وهي الشريعةُ التامّة، وهي الشريعةُ القادرة على معالجة مشاكلِ المجتمع، حاضِره ومستقبله، وصدق الله: (لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِينًا[المائدة:3].

شريعةٌ ساسَ بها محمّد -صلى الله عليه وسلم- الرعيلَ الأوّلَ من أصحابه، وهي أيضًا يُساس بها المسلمون إلى أن يرثَ الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. مع مرورِ القرونِ العديدة فلا يمكن أن يأتيَ زمنٌ تعجز الشريعة عن معالجةِ مشاكله، قواعدُها واجباتها نظُمُها باقيةٌ صالحَةٌ ومُصلِحة لكلّ جيل وقرن، ولذا قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس -رحمه الله- معبّرًا عمّا انطوى عليه ضميرُه من ذلك الإيمان الصادِق واليقين التامّ بهذه الشريعة: "لن يُصلِح آخرَ هذه الأمة إلاَّ ما أصلح أوَّلها" صدق -رحمه الله-، فلن تصلُح الأمّة آخرُها إلا بذلك الشرعِ الذي صلَح به أوّلها وسار عليه أوّلها، جعلنا الله وإياكم من التابعين لهم بإحسان.

أيّها المؤمن: شريعةُ الإسلام نظَّمت علاقةَ العبد وصلته بربِّه، وحالَه مع نفسه، وحاله مع زوجتِه ومع أولاده ومع أبويه ومع رحِمِه ومع جيرانه ومع مُجتمعه ومع المسلمين عامّة، حتى علاقته مع غير المسلمين، كلُّ ذلك لكمالها وانتظامها، (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الملك:14].

نسخ الله بها جميعَ الشرائع، وجعَلها شريعةً مهيمِنة على كلِّ الشرائع، ولن يقبل من أحدٍ دينًا إلا الدين الذي بعث الله به محمّدًا، (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَـابَ بِلْحَقّ مُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَـابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ[المائدة:48]، (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَـامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَـاسِرِينَ) [آل عمران:85].

أيّها المسلم: لننظُر مثلاً إلى قضيةٍ من قضايا المجتمع، ألا وهي قضيّة الطلاق. قضيةُ الطلاق قضية إسلامية، عالجها الكتابُ والسنة بأحسنِ علاج، ونظّمها أحسنَ نظام، فجاء نظامه نظامًا معتدلاً، راعى فيه الجانبين، فليس ظلمًا لأحدٍ على حساب منفعةِ أحد.

إنَّ القوانينَ الوضعية أحيانًا تدَّعي زُورًا وكذِبًا أنها مع المرأة المهضومة المظلومة، ولكن لماذا معها؟ معها على حسابِ الإضرار بالزوج وسلبِه صلاحيتَه، فهم يدَّعون أنَّهم مع المرأة، والواقعُ أنّ ذلك الحيفُ والجَور، حتى لا يكون للرجل أيُّ قِوَامَةٍ وولاية، فجاءت شريعةُ الإسلام بالتوازن والاعتدال وإِعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقه.

أيها المسلم: النكاحُ في الإسلام عقدٌ له شأنه وأهميّته، عظَّم الله هذا العقدَ وأعلى شأنه وجعله عقدًا مغلَّظًا: (وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَـاقًا غَلِيظًا[النساء:21]. هذا العقدُ النكاحُ الشرعيّ هو الذي يضع اللبنة الأولى لبناء الأسرةِ, على النظام الإسلاميّ العادل الذي جاء من ربّ العالمين.

أيّها المسلم: هذا العقدُ العظيم، الذي هو عقدٌ مُهِمّ لا ينبغي فسخه ولا التخلّي عنه إلا بالطُّرق الشرعية التي بيّنها الله في كتابه وبيّنها رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

أيّها المسلم: إنّ الله -جلّ وعلا- أرشد الزوجين إلى الحياةِ السعيدة، عندما يعرف الرجلُ الحقَّ الواجب عليه، وعندما تعرف المرأةُ المسلمة الحقَّ الواجب عليها، فعند ذلك تكون الحياة الزوجية حياةَ هناءٍ وسعادة، قال تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِلْمَعْرُوفِ[البقرة:228]. فأخبر أنَّ على المرأة حقًّا، وعلى الرجل حقًّا، فللمرأة على الزوج من الحقوق مثلُ ما للزوج عليها من الحقوق، فإنْ عرَف الزوج الحقَّ الواجبَ عليه إطعامًا وكِسوة وسُكنى ومعاشرةً بالمعروف ورعايةً للزوجية الرعايةَ الشرعية المطلوبة، ثم عَرفتِ المرأة المسلمةُ حقَّ زوجها سمعًا وطاعةً وخِدمة وقيامًا بالواجب ومعاشرةً بالمعروف، إذا عرف كلٌّ من الزوجين واجبَه وأدَّى الذي عليه فإنَّ الحياةَ الزوجية تستمرّ بتوفيقٍ من الله على أسُسٍ من الخير والتَّفاهم.

ولكن إنما تحدُث المشاكلُ عندما يقع القصورُ من الزوج أو الزوجة، فإن قصَّر الزوجُ في واجبه؛ لم ينفق، لم يعاشر بالمعروف، لم يرعَ الرعاية المطلوبة، أو المرأة أيضًا تنكَّرت لزوجها وعَصته ولم تقم بواجبه، فعند ذلك يبدأ تصدُّع هذا البناء، ونسأل الله العافية.

أيّها المسلم: الطلاقُ مشروعٌ فيمن قبلنا، ولكنَّ الدياناتِ السماوية قبل الإسلام بينها اختلافٌ في هذا المبدأ، فمنهم من يبيح الطلاقَ مطلَقًا، ويجعل الزوجَ حُرًّا في إيقاع ما شاء من العدد، ومن بعض الديانات من يلغي الطلاقَ ويجعل المرأة غِلاًّ في عنقِ زوجها، يُنفق عليها ولو لم تكن معه، ويُحمَّل مسؤوليّتها ولو لم تَقُم بواجبه، وجاهليةُ العرب كانوا على شيء من الانحرافِ في هذا الجانب، فجاءت شريعةُ الإسلام بالعدلِ والإنصاف وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه.

أيّها المسلم: الإسلام أباح الطلاقَ في الجملة، ولكن تلك الإباحةُ مقيّدة بالشروط الشرعيّة، فأخبرنا نبيّنا -صلى الله عليه وسلم- أن أبغضَ الحلال إلى الله الطلاقُ وقال: "ما أباح الله أبغضَ إليه من الطلاق"، فهو مباح في الجملة، لكنه مباح بشروطه وضوابطه، فليس الأمر مجرَّدَ إيقاع طلاق وهدم البيت بأيّ كلام، لا، لا بدّ للرجل أن يتصوَّر عندما يوقع الطلاق: ما هي المفاسد المترتِّبة على هذا الطلاق؟ وهل الطلاق هو الحلّ؟ وهل الطلاق أنفعُ أم الاستمرار أنفع؟ فلا يُحكِّم عاطفته، ولا يستمرّ في طيشانه وحماقته، بل يتأملّ ويتدبّر ويتعقّل، فهذا هو المطلوب.

انظر أيّها المسلم: النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أمر الرجلَ بالصبر على المرأة، وقال له -صلى الله عليه وسلم-: "إن المرأةَ خُلِقت من ضِلع، وإنّ أعوجَ ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمه كسرته، وإن استمتعتَ بها استمتعتَ بها وفيها عِوج"، وقال أيضًا:"لا يفرُك مؤمنٌ مؤمنةً، إن سخِط منها خُلقًا رضيَ منها آخر". هذا توجيهٌ للزّوج، أن يكونَ متحمِّلاً للمسؤولية، مراعيًا ضعفَ المرأة وقلةَ تصوّرها وأنها ليست بعيدةَ النظر، فقد تحمِلُها قلّةُ الرأي على التسرُّع في عنادِ الزوج أو طلب الطلاق، فأمرَ الزوجَ أن يصبر، فهو أصلبُ عودًا منها، فليتحمَّل فإنّ اللهَ يقول: (فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا[النساء:19].

ثمّ المرأةُ المسلمة مأمورة أيضًا بالسَّمع لزوجها والطاعة لزوجها، وأن لا تتسرَّعَ في طلب الطلاق، وأن تُعرِضَ عنه ما وجدت لذلك سبيلا.

ثم شريعةُ الإسلام أمرت الزوجَ عندما يشعُر من زوجته ببَعض الأمور أن يَعِظها ويذكّرها الله والدارَ الآخرة: (وَللَّـاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ[النساء:34]. ثم أمره بهجرها في الفراش، فعسى إن لم تنفع الموعظة أن يعِظها هجرُ الزوجِ لها في الفراش، قال: (وَللَّـاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَضْرِبُوهُنَّ)[النساء:34]، ضربًا لا يؤثر، يؤدِّب ويسُدّ الخلل من غير ضَرَر، (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً)[النساء:34]، ليس الانتقام وليس العتابُ المطلوب إذا أطاعتِ الزوجة وانقادت، (فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا[النساء:34].

ثم أمر المجتمعَ أيضًا عندما لا تنفعُ تلك الأمور أن يكوّنَ حكَمين من أقرباء الرجل والمرأة، ينظران: هل المصلحة في الاستمرار أو عدمه؟ نظرَ عدلٍ ومصلحة وموازنَة بين الأمور، (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَبْعَثُواْ حَكَمًا مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَـاحًا يُوَفّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا[النساء:35]، إن كانت النية صادقةً وفّق الله بينهما وعادت المياه إلى مجاريها، لكن إذا تعذَّرت كلُّ الوسائل واستعصَت كلُّ الطرق، إذًا فالحلّ الطلاق، ولكن هذا الطلاقُ ليس بالهوَى، وليس بحريّة الناس، الطلاقُ مشروعٌ، ولكنه بحدود وقيود:

فأولاً: أذِن الشارع في الطلاق، لكن أيُّ وقت؟ ليس كلّ وقت تُطلَّق فيه المرأة، إنما يطلقها وهي حامل، أو يطلِّقها في طُهر بعد حيضِها لم يجامعها فيه، لأنّ طلاقه لها وهي حامل ربّما يندم، وطلاقُه لها في حيضها أو في طهر وطئها فيه فربما حملت في ذلك الطهر، وربما طالت عليها العدة في الحيض.

ثم أمر الزوجَ بعد الطلاق أن لا يخرِجَ المطلَّقةَ من بيته إن كانت الطلقة الأولى أو الثانية، رجاءَ أن تعود الأمور إلى طبيعتها، قال جل وعلا: (لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَـاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا[الطلاق:1]. فبقاؤُها في المنزل رُبّ نظرة تغيِّر من الواقع، ورُبّ ندَم من أحدهما يُصلح الوضع، والله على كلِّ شيء قدير، (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ[الطارق:8]. لكن إذا لم يكن هناك محبّةٌ ومودّة فلا بد [أن] تبقى حتى تنقضيَ عدّتها بحيضها ثلاثَ حيض إن كانت ممّن تحيض، أو مُضيّ ثلاثة أشهر، أو وضع الحمل فتنتهي بذلك عدَّتها.

ولم يأذَن للزوج أن يجمع عَددَ الطلاق في لفظ واحد، بل جعل ذلك أمرًا منهيًّا عنه، سمع -صلى الله عليه وسلم- رجلاً يقول لامرأته: أنت طالق بالثلاث، فغضب وقال: "أيُلْعَبُ بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!" قام رجل قال: أأقتلُه يا رسول الله؟ لأنه رأى غضبَ النبيّ واشتداده على هذا اللفظ، إذ الأولى أن تكون الطلقات متفرّقة، لا تكون مجموعة، بل تكون في أوقاتٍ ثلاثة، ذلكم أن أهل الجاهلية في جاهليتهم يطلِّق الرجل المرأةَ الثلاث والأربعة بل الألف، كلّما قاربت انقضاءَ عدتها راجعها، ثم طلقها، فأصبح الزوج متحكِّمًا في أمرها، فجاء الإسلام ورفع ذلك فقال: (لطَّلَـاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـانٍ[البقرة:229]. الطلاق مرتان هذه فيها رجعة، لكن إذا وقعت الثالثةُ فلا تحلّ له حتى تنكح زوجًا غيره، كل ذلك [حتى] لا تكون الفروج ألعوبةً بيد الرجال، وإنما هي أمور محفوظة؛ لأنها تنبني عليها الأسرة، فلا بدّ من سلامة هذه الأمور وانتظامها الانتظامَ الشرعيّ.

أيّها المسلم: إنّ عدوَّ الله إبليس أحبُّ شيء إليه أن ينهدمَ البيت وتتفرّق الأسرة ويتشتّت الشمل، جاء في الصحيح: "إنَّ إبليس يضع عرشَه على الماء، ويبثّ جنودَه، فيأتيه الواحد فيقول: ماذا فعلت؟ قال: ما زلتُ بفلانٍ حتى قطَع رحِمَه، قال: ما عملتَ شيئًا، يوشك أن يصلَ رحِمه، ويأتيه الآخر ويقول: ماذا عملت؟ قال: ما زلت به حتى عقَّ أمَّه وأباه، قال: ما فعلتَ شيئًا، يوشك أن يعود إليهما، ويأتيه الآخر فيقول: ماذا عملت؟ قال: ما زلت بفلان حتى طلَّق امرأته، قال: فيدنيه ويضمُّه ويقول: أنتَ أنتَ أنت", فرَحًا بالتمزُّق والتفرُّق؛ لأنه يكره الاجتماعَ والتآلف.

أيها المسلم: حاسِب نفسك، وقِف مع نفسك وقفات، إذا أردتَ الإقدامَ على الطلاق، انظر حالك وحالَ المرأة وحال الأولاد الصغار، ماذا سيكون حالهم؟ سيتشتّتون ويتفرّقون بينك وبين أمّهم، فإما تمسُّكُ الأمّ بهم فيضيعون، وإما تمسُّكُ الأب بهم فيضيعون، وتقسو قلوبهم، ويتفرّق شملهم، ويُحدِث عليهم صدمةً نفسيّة في أحوالهم. فقِف قليلاً وفكِّر، فكِّر وتأمّل قبل أن تقدِم على الطلاق، ما الملجأ وما المخرج؟ واستِخر الله واستشِر، وإياك والطيشَ والغضب، وإياك والحماقةَ، وإياك والتسرُّع، وإياك أن تجعلَ الطلاق على لسانك في كل أحوالك، فينهدِم بيتُك من حيث لا تشعر.

كم نادمٍ يندم ويقول: ما فعلتُ وما أردت، ويندم ولات حينَ مندَم، فلو فكَّر قليلاً وتأمّل لعلم أنه المخطئ والمقصِّر، ولو أنه تأنّى في أموره وتدارك أحوالَه لوُفِّق للصواب.

ولكن ما هو موقف أهلِ المرأة وأهل الزوج؟ هذا أمر لا بدَّ من النظر فيه. فإنّ بعض أهل البيت، بعض أقرباء الزوجة ربما أعانوا ابنتَهم على الشقاق، وأعانوها على إهانةِ الزوج وإذلاله، ووقفوا معها رغمَ أخطائها وتقصيرها، لكن ابنتهم يحبُّونها فيميلون معَها دونَ أن ينبِّهوها وينصحوها ويرشِدوها، وربما تدخَّل الأبوان في حياةِ الزوج، فحاوَلوا التفريقَ بينه وبين امرأته لأمور تافهةٍ وحكايات ووشايات، وأمور لا تتحمّل هذه الأمور.

إذًا فعلى أهل الزوجة وأهل الزوج أن يكونوا جميعًا عونًا على استمرار هذا العقدِ ودوامه بكلّ ما أمكنهم من وسيلة، إن رأوا من البنتِ خطأً حاولوا تأديبها وتوجيهَها ولفتَ نظرها إلى الأخطاء، وأن الزواج ليس كلّ يوم زوج، وليس المهمّ أن المرأة تُطلَّق وتزوّج، المهمّ أن تنتظِم حياتُها الزوجيّة بدون أيّ بلبلة. ثم أهل الزوج إن رأوا من ابنهم شيئًا من الجفاء وعدم التوازن فلا بدَّ من لفتِ نظره وتبيين الأخطاء حتى تستمرّ الحياة. أما إن كانت الحياة الزوجيّة يتدخّل فيها الأهلون من قبل المرأة والزوج من غير تأمّل ولا روية، فهذا والعياذ بالله سببٌ لهدم البيت وتشتيت الأسرة.

أسأل الله أن يجمع الجميعَ على طاعته، وأن يعيذنا وإياكم من نزغات الشيطان، وأن يرزقنا جميعًا العملَ بشرع الله والاستقامة عليه.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، خيرته من خلقه وأمينه على وحيه، بلَّغ الرسالة ونصح الأمّة وأدّى الأمانة وجاهد في الله حقَّ جهاده، صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا أيّها الناس: اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.

عبادَ الله: يتساءل المتسائل أحيانًا: نسمعُ أن الطلاقَ قد كثر، وأنّ أعدادَ الطلاق تخيف، وأن كلَّ سنة قد يزداد العدد على ماضيها، فما هي الأسباب يا تُرى لهذه الكثرة؟!

أجل -يا أخي- كثُر الطلاق لأنَّ بعضَ الأزواج ليسَ أهلاً لرعاية المرأة، ليس أهلاً لتحمُّل المسؤولية، ليس أهلاً للقيام بالواجب. شخصٌ مذبذَب، ما بين فسادٍ وانحرافِ أخلاق وبُعدٍ عن الدين وشلَّة فاسدة، يسهَر الليالي معهم دونَ مبالاةٍ بالمرأة ومعرفةٍ لحقِّها وقدرها.

كثرُ الطلاق؛ الزوجُ ابتُلي والعياذ بالله بداءِ المسكرات والمخدِّرات، هذا حياةٌ معه عسيرة وشاقّة، فكم تحدِث تلك المخدّراتُ في أفكاره، وكم تحطُّ من أخلاقه، وكم تقضي على فِكره وتصوُّره للأشياء، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.

كثر الطلاق لأنّ بعضَ الأزواج ذو حماقة وقلَّة صبر ونفاد صبر، لا يبالي، الطلاقُ على لسانه في القليل والكثير.

كثرُ الطلاق لأنّ هذا الزوج لا يريد مسؤوليةً وتحمُّلَ مسؤولية، فما يعلم أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الرجل راع في أهله، ومسؤول عن رعيته"، لا يريد رعاية، لا يريد وقوفًا مع المرأة، لا يريد تحمُّل مسؤولية.

كثر الطلاق لأنّ النمَّامين والواشين من أقرباءِ الزوجين ربما أحدَثوا بالنميمة والقيلِ والقال تصدُّعًا في بنيان المجتمع.

كثر الطلاق وللأسفِ الشديد أنَّ بعضَ شبابنا ـ هدانا الله وإياهم ـ كم يستعملون الهاتفَ جوَّالاً أو غيره في إيصال رسائل إلى بعض النساء فيها قبحٌ وسوءُ أخلاق وقلَّة حياء، ربّما تُحدِث عند الزوج شكوكًا وأوهامًا، وهذا أمر خطير.

كثر الطلاق لأنَّ بعضَ الأزواج عنده وساوسُ وشكوك، يأتي للمرأة فيفتح صفحةً عن ماضيها، ماذا جرى؟ وماذا كان؟ فيتكوّن عنده وساوسُ وأمور تكدِّر صفوَ حياته، وذاك ـ يا أخي ـ من الخطأ.

كثر الطلاق لأنّ بعض النساء -هدانا الله وإياهن- لا يبالين بحقِّ الزوج، خروجٌ من المنزل وترك المنزل، إهمالٌ للمنزل والأولاد، ذهابٌ هنا وهناك بلا استئذانٍ ولا تأمُّل ولا صبرٍ على البيت. امرأةٌ تقول: أهلي وأهلي، وعند أهلي مناسبة، وعند وعند.. فتُكثِر على الزوج أسبابَ الخروج، حتى ربما يمضي معظمُ الليل وليست في بيتها، البيتُ موكُولٌ إلى غيرها من خادماتٍ وغيرهن، فالبيت ضائع لا راعيَ له، السفينة ليس لها ربّان يقودها، تلعب بها الأمواج يمينًا ويسارًا.

فيا أيّها المسلم, ويا أيّتها المسلمة: لنتَّقِ جميعًا ربَّنا في أحوالنا كلِّها، ولنلزم أدبَ إسلامنا، ففيه سعادتنا في حياتنا وأخرانا.

أسأل الله للجميع التوفيقَ لما يحبّه ويرضاه.

وتلك نصيحةٌ لإخواننا المسلمين، والواجبُ التناصُح بين الجميع، نسأل الله أن يجعلنا ممَّن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.

واعلموا -رحمكم الله- أن أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها, وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.

وصلوا -رحمكم الله- على محمد بن عبد الله سيد ولد آدم كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا[الأحزاب:56].

اللهمَّ صلِّ وسلِّم بارك على سيدنا محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين...